إلى ديمتري أفييرينوس

حول "رسالته"* عن المرأة

 

نور سلمان

 

ديمتري أفييرينوس،

أنت سيِّد قلم نادر.

ولقد انتزعتَني من السأم الموجع، وأنا أحاكم سطورًا على ورقي، ثم أستجمع طاقتي، نَفَسًا نَفَسًا، وخَفْقَةً خَفْقَة، لأحمي هذه السطور من الذبول.

بشع كلام الشكوى – والأيام تفرز ما هو أمرُّ من الشكوى. فما يلفُّنا اليوم، نساءً ورجالاً، هو سلسلة اندثار يساوي الحجر بالبشر، تجميدًا وتدميرًا، ويسلِّط علينا أضواء الانقشاع الشرس والقاصر.

إن القابضين على الزمام هم سلاطين الضوء الباهر المستبد، يقولون لك ولي ولهم: "مَن هو في الضوء له ملكوت الأرض وما عليها." أهذا هو الجحيم الآخر؟

والمرأة – رائعة الخالق ورائعة الكون ورائعة الأحلام – رفعتَها، أيها الشاعر، خارج اللعبة العقيمة، وآمنتَ بأن قيامة المرأة الحق هي القيامة. أعدتَ التاج إلى المرأة الحق وأسميتها امرأة البشرى والحب، لا امرأة الغزل. فالغزل إطار يحدُّ من مدى بهائها، ويقدِّمها جزءًا من كلٍّ. وكلاهما – أي الجزء والكل – قليل ومقتِّر.

وصدقت،

فلقد ماع الغزل في بحيرات الأجساد المصادَرة، وتخلَّف إنشادُه وراء الجمال المجلوِّ للِّقاء القصير، وانحسر منطق الإنسان في غربة تخلِّيه عن منطق الحب وحقِّه.

أليس الحب إدراكًا عظيمًا وتحررًا قادرًا؟

أليست المرأة عاصمة الحب، لا محظيَّته؟

المرأة الحرة تشرق بما عندها، لا بما يتكرَّم عليها مَن هم مطوَّقون بالأطُر المجمَّدة طولاً وعرضًا.

إن المساحات المسطَّحة تخنق الدنيا ومَن عليها. والأرض من غير قمم منفى موحش جدًّا. وإن الخلل الذي يرتجُّ منه هذا الكون سببه غياب المرأة الحق وتراجعها. وأما الحديث عن المساواة بين المرأة والرجل فليس أبدًا حديث القيامة المنتظرة. لأن التساوي في التخلُّف تخلُّف آخر.

وقلت أنت: "لقد اغتصبنا، نحن الرجال، الأنثى الساكنة فينا." وليس هذا من سُنَّة الحب – تبارك وتمجَّد. بل إن هذا كارثة في الحياة التي تستمرُّ هكذا بكوارثها وتستزيد.

ولماذا هذا النَّهم الحاد؟

ألأن الرجل أراد امرأته مسطَّحةً كأرضه، مختزَلةً في جوفه، مستسلمةً للانحطاط المتدرِّج فيها وفيه؟ ألأنها بليدة كأحلامه في زمن الأحلام البليدة؟ – حيث لا شوق يلفح، ويحرق وقاحة الدنيا، ليوقظ صدقها المشرق؟

صدقت، أيها العارف.

فلقد أبدع الرجل سلالة نساء بديلة، فكَثُرَ مع هذه السلالة ذلك الحب الذي يتعرَّى سريعًا للِّقاء القصير.

لكنك قلت إن الحبَّ – وكما هو الحبُّ – هو مكابدة جميلة في وجه محدوديَّتنا، لأنه قلب السحر، وسيد الحياة وشرائعها، لا بل هو شريك الحياة في حقِّها وخيرها وجمالها.

لكن... لكن... هل هرب العاشقون الكبار إلى حضن الأساطير، ليحتموا من ملل الرتابة، وليعايشوا بطولة صارت خارج الدنيا؟

وأسأل: هل اندثر جنس المرأة الحق وانقرض؟

أنت، المقدام، سألت، بدورك، هذا السؤال، وأجبت مطمئنًّا: "لا يزال ثمة عدد من النساء الحقيقيات، نَجَوْنَ بقدرة قادر من الإبادة البدنية والنفسية."

وعدت تسأل من جديد: "أين هي المرأة الحق، الكاهنة، معلِّمة أسرار الخصب والحياة، داككة العروش، مروِّضة أعتى الرجال، الممسكة بأعنَّة الأيام والليالي؟ أين هذه التي آخَتْ بين الجسد والروح، بين الحياة والموت، وبين النور والظلمة؟ أين هي المرأة الحق التي ترتمي في أحضانها الأنهار والسحب والطيور؟ إنها حَرَم وملاذ ورَحِم. إنها مهيبة في جمالها إذا أحبَّت، رهيبة في جلالها إذا غضبت. أما حُرمَتُها فويل لمن ينتهكها، وأما رحمتها فلا حدَّ لها. لكن أين هي؟"

أنت تعرف أنها واحدة بين الآلاف والملايين، "متحدِّرة من صلب الإله"، يختصر سحرُها الآلاف والملايين في لفتة حبٍّ كالزلزال. وليس هذا خيالاً، بل تأكيد لتهافت الأعداد الكثيرة في حضرة القلَّة الممسوحة بالنور وبالوحدة والاتحاد.

وتقول: "نحن، معشر الرجال، أبْدَلْنا المرأة–القربان بالمرأة–الطريدة، ونعاشر نسخًا زائفة ورخيصة عنها."

ثم تقول مستدركًا: "إن الرجل أردى المرأة قتيلة، ورمى بجثتها في غياهب العدم. لكن لا يزال ثمة نساء حقيقيات نَجَوْنَ من الإبادة البدنية والنفسية. وهناك أصوات تطالب بالبحث عن هذا الجنس الكريم وبإعادة الاعتبار إليه." وتهتف شاعريتك المحمومة: "لا بدَّ من حَرْقِ النساء، بالعشق أو بالهيام!"

وتذكِّرنا أنت بأن الساحة زاخرة بالمرأة التي "ترضي وتُشبِع الطبيعة العادية، وبها حبٌّ يثمر البلادة والسأم والعطالة، ويحول دون تفتُّح جوهر المرأة الإلهي على رحابة الوجود وأمدائه اللانهائية".

وتؤمن أنت بأن المرأة "الآخر" هي "الواقفة على أسرار الماء والحجر والنبات والحيوان. هي المؤتمَنة على مفاتيح الراحة والصحة، الضالعة بالسحر الحلال، تنتظر الرجل لتعود به إلى الفردوس الأرضي". وأنت القائل: "إن الشوق الذي تُلهِمُه المرأة يستهلك الشهوة إليها."

المرأة الحق – صدقت – "تلد الرجل من جديد، وتغرس فيه طفولة العالم". أجل، الطفولة استعداد نقيٌّ لمستقبل يتخطَّى الماضي والحاضر. وهكذا تجعل المرأة الحق الرجلَ "أكثر من رجل"، و"الاتحاد بها يحتاج إلى مَدَد من الإله". ولا شك في أن اللقاء بها خارق "وسط قطيع أشباه النساء".

وتعيد أنت الشعر إلى فعله الأكبر، مؤكدًا أن المرأة الحق "تتمِّم مع الشاعر أسرار الحياة"، وأن لقاءهما "مهرجان من السحر"، يخطف الشاعر المصطفى من ذاته، ويرفعه فوق أسوار عالمه المتخبط في الأوهام – هذا العالم الذي نام ويقوم مخدَّرًا ومشتتًا من قلَّة الحب.

أنت تعرف أنه في لقاء الشاعر بالمرأة الحق، تشرق الحقيقة الأخرى، ويتوقَّد الوعي الآخر. وتذكر أن من أهم مواهب المعرفة الحقيقية نقاوة القلب والاستسلام للتضحية والزهد النبيل والمترفِّع.

وأما المرأة الأخرى – طريدة الغزل ومحظية المصادرين، ابنة الأيام الغافلة – فتقطف من جسدها ومن سرِّها المكتَّم السأمَ، لأنها مذعورة من زمن تقصِّر هي عنه، ويقصِّر هو عنها. تخونه ويخونها. أنت تقول فيها إنها "تحسن النفخ في دواليب الهواء". بلى هي تفعل ذلك لتنجو من الغرق السريع الذي تمحوه المياه.

أيها العارف،

إن الناس في هذه الدنيا مشغولون إما بالمبادلة، أو بالسلب والخطف، أو بالتزوير والتقليد العقيم للطبيعة ونواميسها. والمرأة منهم؛ وفيهم تقيس حظَّها ونصيبها وسرحها ومرحها في المعادلات المضطربة.

أهي حقًّا معادلات؟

كلُّ هذا لتكون هذه المرأة للرجل، ومنه أولاً، فلا تكون أبدًا لمجدها المبارك.

وأما المرأة الحق – هذه المجمَّلة بالشغف – فإنها قد تطفئ مواسم العصر حولها. قد تبدو كما تتخيَّلها أنت، وردة وحيدة في صحراء، لكنها في هذه الصحراء ينبوع حياة. ومن ينبوعها – صدقت – تقود هي الرجل إلى "ذروته" ليكون المصطفى.

أيها الشجاع،

لا عليك من العشق الحارق والهيام المذهل. لا تتراجعْ، لا تتردَّدْ. وليُقدِم شِعرُك. فالعشق المقتال هو لحياة ثانية، ولوجود آخر على الأرض ذاتها.

أما شبعتَ من رياض العطور وحورياتها الساذجات، حيث الحلم يزحف بكَ من زاوية إلى أخرى، ويتلهَّى بقيلولاتك؟

الحلم ابن إنسانه، بالطبع. كبير هو عند كباره، وصغير عند صغاره.

وليسمع صوتك عاليًا البعيدون من أهل البُعد.

لا تسأم من بطء السأم يشدُّك إليه، ولا يلوِّح لك إلا بالنهايات. قُلْ لهم إن نساء الحق قليلات، لكنهن يفرشن شغفهن تحت السماء وفوق الأرض. علَّ الأرض تكسب وتستعيد حقَّها من القيامة. والقيامةُ عشقٌ يخفق له قلبُ الدنيا، فتتطهَّر بالحبِّ الكامل، إذ يعود إليه نورُه، وتتحرَّر أجساد هذا الحب من ركودها الممل في الحكايات الصغيرة.

أما سئمتَ من الحكايات الصغيرة؟

*** *** ***

عن النهار، السبت 13 أيلول 2003

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود