|
أنا
لا أحب القتل* عبد
الله تايه** إلى
الطفل مهند مجدي أبو سل ابن
العاشرة، حي الأمل، خانيونس قبيل
الظهيرة يرن الجرس في فناء المدرسة
الابتدائية ج للاَّجئين معلنًا انتهاء
الدرس الأخير. يتدافع التلاميذ خارجين عبر
البوابة الواسعة في صخب فرحين. مهند أبو سل
يعلِّق حقيبة كتبه على كتفيه، يغادر مقعده،
ويمضي عائدًا مع صديقيه هاشم ومحمود. يفترقون
وسط الحارة في حي الأمل في خانيونس، على
موعد عند ساحة الحي التي تشهد مباريات كرة
القدم للفتيان من جيله. يدخل منزله. تتلقَّاه أخته
الصغيرة غيداء، ابنة العامين ونصف. كالعادة،
تهرع إليه في جذل طفولي. يتلقَّاها مداعبًا.
يُخرِج من جيب سرواله قطعة الحلوى التي اعتاد
شراءها لها من بوفيه المدرسة. تمتد يده بقطعة
الحلوى. تتلقَّفها غيداء بفرح وتجري. أنهى مهند واجباته المدرسية.
شاهد بعض أفلام الصور المتحركة التي يحبها
والتي لم يكن يفضِّل عليها إلا مشاهدة
مباريات كرة القدم. تقول أمُّه: -
مهند
يحب مشاهدة مباريات كرة القدم. يخرج إلى الشارع الواسع في
الحي. يرى في أقصى الغرب كثبانًا من السواتر
الرملية أقامتْها جرَّافات الاحتلال على
حدود مستوطنة ديكاليم، ضمن مجموعة
مستوطنات غوش قطيف المحاذية لحي الأمل،
التي تمتد حتى موج البحر جهة الغرب. تتيح
السواتر للجنود، الرابضين في عرباتهم
ومواقعهم وأبراجهم الاستطلاعية قرب الأسلاك،
أن يتفحصوا بعيونهم ومناظيرهم حبات الرمل على
الإسفلت، ألوان قمصان الفتية في ساحة اللعب،
أرقام العربات المارة... قال بعض العجائز: -
مناظيرهم
تكشف دود الأرض. تهكَّم البعض: -
إنها
ترى ما في داخل البيوت والحجرات، وسلال
المارة وحقائبهم، وحتى ما في جيوبهم... دخل مهند إلى صالون الحلاقة
الذي يمتلكه والده. سمع أحد الداخلين إلى
الصالون يقول: -
...
وربما يعرف الجنود الجنين في بطن أمِّه، ولد
أم بنت، إذا ما مرَّتْ من أمام مناظيرهم. يضحك الجالسون في الصالون
لهذه النكتة. يتعجب المنحني تحت المقص: -
ما
داموا يرون بهذا الوضوح، لماذا يصيبون
الأبرياء الذين لا شأن لهم بالمواجهات؟! يجيبه جالسٌ ينتظر دوره
لقصِّ شعره: -
جنود
الاحتلال لا يحبون الحياة العادية، لأنها
تصادر لذَّتهم في الإصابة والقتل... يقول مهند: -
وهل
تصدقون أن حجارة الأطفال تعرِّض حياتهم
للخطر؟! الرصاص لا يؤثر في دباباتهم ومدافعهم.
إنهم في مأمن... لكنه الحقد على الآخرين... يقول والده: -
يا
مهند... ساعد في تنظيف الصالون. يمسك مهند المكنسة، ويبدأ
في التنظيف. يتراءى له الرصاص القادم كلَّ
ليلة من وراء السواتر الرملية جهة بيوت الحي
المواجهة للجنود، يصيب من يصيب ويحطِّم
واجهات المنازل. يتمنى لو كانت يده من
الفولاذ، يضعها أمام فوهات بنادقهم
ودباباتهم حتى يحجب رصاصهم، فلا ينطلق جهة
الأبرياء. بل كثيرًا ما تمنى لو استطاع أن يضع
الجنود في عربات تعيدهم من حيث أتوا... "هذا
ما أفعله كلَّ ليلة في لعبة الأتاري. أعيد
المعتدين إلى الحجرة التي خرجوا منها دون أن
أقتلهم... فأنا لا أحب القتل... ولا أتمنى أن
أكون قنبلة تقتل أحدًا... أريد أن أدخل
الجامعة، آخذ الشهادة، وأعمل حلاقًا كوالدي،
أتفنَّن في قصِّ الشعر." ينظف مهند أبو سل، ابن
السنوات العشر، صالون والده، ثم يستأذنه
ويخرج إلى الساحة، ليلعب مع أقرانه مباراة في
كرة القدم. ينتصر فريقه مرة، وينهزم مرة...
والحياة هكذا. تميل الشمس نحو الغروب.
كثيرًا ما يراقبها مهند من على سطح منزله، حتى
تغرق وراء المواصي في بحر خانيونس. لكنه
من ساحة اللعب يراها تسقط وراء السواتر
الترابية التي أقامتها جرَّافات الاحتلال.
يسرع مع أقرانه بمغادرة الساحة قبل إكمال
اللعبة خوفًا من الرصاص ولعبة القنص التي
يتلذَّذ بها الجنود عندما يأتي المساء. *** في
أول الليل يسود الهدوء. وبعد ذلك لا يعرف أحد
ما يجري عند السواتر الرملية. فوانيس الإضاءة
تنطلق، الرصاص يستمر، صمت الليل يتحول إلى
صخب. ثم هدوء... لا يحب الجنود أن ينام الناس
وهم مستيقظون. لذا يطلقون أيَّ شئ يمكن إطلاقه
على كلِّ الجهات، ولا تهمُّهم النتائج. يعكف مهند أبو سل على دروسه،
ثم يلعب على جهاز الأتاري. أحيانا يتركه ليبدأ
في ترتيب المكعبات البلاستيكية وكتابة حروف
عربية ولاتينية، أو يركِّب أشكالاً. فإذا ما
ضجر، يمدُّ يده تحت وسادته، ويخرج صورًا
كثيرة ملونة لِمَنْ سقطوا برصاص الجنود من
أهل الحي – وهم كثيرون، من أعمار متفاوتة.
يسأل نفسه: "كيف يجرؤ الجندي على قتل إنسان،
ولا يؤلمه هذا الفعل القبيح؟! أنا لا أحب فعل
القتل؟ ولا أتمنى أن أقتل حتى نملة... فالحياة
من الله وله." ينطلق رصاص كثيف. ينام مهند
على أحلام بالحرية والهدوء. تلاحقه صورةُ
ملاك بجناحين عظيمين... يهبط من السماء، يحمل
الجنود، يعيدهم من حيث أتوا، يرمي سلاحهم
وعرباتهم في بحر خانيونس الغميق. *** اليوم
الجمعة، العاشر من يناير من العام الجديد. قبل
أيام فَرِحَ العالم بعام جديد. أضاؤوا الشموع
في كلِّ المدن، رقصوا في الميادين والساحات
العامة، غنوا في فرح. أما في حي الأمل في
خانيونس، كما في المناطق الفلسطينية كلِّها،
فقد دعا الناسُ ربَّهم أن يكون العام الجديد
عام سلام وحرية، بعد ليلة صاخبة أطلق فيها
الجنود النار، وفوانيس الإضاءة، وعلا ضجيج
العربات العسكرية. "لماذا يصر الجنود على
تنغيص حياتنا، حتى في بداية العام الجديد؟!"
تساءل مهند. اليوم الجمعة، الإجازة الأسبوعية
من المدرسة والدروس. هدير الجرافة عند أسلاك
المستوطنة يرتفع. من فوق السطح رآها تجرف
طريقًا بين كثبان الساتر الترابي، كي يسهل
على العربات العسكرية النزول من المستوطنة
إلى الشارع في كلِّ وقت. مهند لم يكترث. نزل عن السطح.
واجهتْه غيداء الصغيرة تطلب قطعة حلوى
كالعادة. ألحَّتْ عليه في الطلب. لم يقنعها
بحجته أن اليوم عطلة، ولم يذهب إلى المدرسة،
وأنه غدًا سيأتيها بالحلوى. ولأنه يحبها
قرَّر أن يذهب لشراء الحلوى لها من الدكان
القريب: -
انتظري...
سأذهب لأشتري لك الشيكولاتة من دكان أبو حسن. هدأت غيداء حين رأت مهند
ينزل إلى الشارع. مضى إلى بقالة أبو حسن
الحوراني ليشتري لها الشيكولاتة. فجأة، انهمر
رصاص كثيف تعبَّأ في الشارع بشكل عشوائي.
الدبابة التي تقف عند أول الشارع هي التي
أطلقت الرصاص. لم يرها مهند وهي ملتصقة قرب
الجدار تطلُّ على الشارع. فاجأه صوت رصاصها
قبل أن يصل إلى دكان البقال. أراد مهند أن
يفرَّ من المكان، لكنه سقط مصابًا. بعد لحظات،
نقلوه في عربة إلى مستشفى ناصر في خانيونس. لم
يكن ثمة وقت لانتظار عربة الإسعاف. الدماء
غزيرة، والإصابة في كتفه الأيمن. جاءت
الرصاصة من تلك الدبابة اللعينة. "لو أن لي
يدًا من الفولاذ أغلق بها فتحة مدفعها...". أطلقت العربة بوقها المزعج
حتى وصلوا به إلى المستشفى. استمر يتأوَّه من
الألم، وقد أصيب بصدمة شديدة. أدخله الأطباء
إلى حجرة العمليات، في حين هرع والده وأمه
وجيرانه إلى المستشفى. لحظات صعبة مرَّتْ عليهم،
حتى خرج إليهم الطبيب. طَمْأنهم على حالته. لم
يصدقوا أن رصاص الدبابة اللعينة لم يقتله. قال
الطبيب ناصر الأزعر: -
الرصاصة
دخلت من ظهره جهة الكتف الأيمن... الله ستر... لم يصدقوا، حتى أذِنَ
الطبيب بدخول والديه. والدته قالت: -
لم
يكن في الشارع مواجهات ولا مظاهرات... خرج
يشتري الشيكولاتة لغيداء... غيداء تصرخ وتبكي. أخذتها
أختها إلى الخارج. والده قال في عجب واستهجان: -
لماذا
أطلق الجندي الرصاص على ابني؟! مهند يحب كرة
القدم والمباريات، مجتهد في دروسه، يساعدني
في الصالون ويريد أن يكون حلاقًا مثلي...
والمهم أنه يكره القتل ويكره صوت الرصاص. صديقاه هاشم ومحمود لم
يستطيعا العودة إلى منزليهما قبل أن يطمئنا
على مهند. ليلة أليمة مرَّتْ. لم يتمكَّن أحدٌ
في البيت من النوم. حتى الصغيرة غيداء ذهبت
إلى سرير مهند في الليل مرات، تشير إلى أركان
الحجرة باحثة عنه دون جدوى. *** في
الصباح كان مهند على سريره في مستشفى ناصر،
معصوب الصدر، مربوط الذراع، لا يستطيع تحريك
يده المعلقة برقبته. أنابيب العلاج تنقل
المحلول إلى جسمه والأكسجين إلى رئتيه
ليساعده على التنفس. وحوله جلس والداه
وأخواته وأصدقاؤه. جدران حجرة المستشفى
تزيِّنها الشعارات. باقات ورد ملوَّن من
أصدقاء مهند تتمنى له الشفاء. على الجدار
المقابل صورة الشهيد حسن أبو السعيد، وعلى
الجدار الخلفي صورة الشهيد إياد صوالحة من
جنين. بعد أسبوع... الملل الشديد يكاد يقتل
مهند. لم يعد يحتمل الجلوس في المستشفى والنوم
على السرير، مربوط الصدر معلَّق الذراع.
أحضرت له أمه أتاري يطرد عنه بعض الملل. أحضر
صديقاه هاشم ومحمود كرة قدم وضعاها على
الطاولة الصغيرة قربه لتشجيعه. قالا له: -
هيا
انهض... الساحة تنتظرك... ابتسم في إعياء: -
قريبًا
سأعود إلى الساحة إذًا... نظر إلى ذراعه وصدره... لا
يزال يرتدي جاكيت، لا يتمكن من إدخال ذراعه
المصابة في الكم الأيمن. غيداء تأتيه بالحلوى
كلَّ يوم، فيسألها: -
هل
لا تزال الدبابة عند الشارع؟! فتهز رأسها بالإيجاب. يقول مهند لها: -
مع
ذلك، أنا لا أحب القتل، ولا أحب أن أكون قنبلة
تقتل أحدًا. زقزقة عصافير تأتي من أشجار
خلف نافذة حجرته في المستشفى. ينظر من النافذة
إلى الفضاء البعيد... يناير
2003 ***
*** *** *
من مجموعة جنود لا يحبون الفراشات،
منشورات هيئة الإرشاد القومي الفلسطيني،
2003. **
كاتب فلسطيني من غزة. البريد الإلكتروني: tayeha@maktoob.com.
|
|
|