الأقنعة

 

أميمة الخش

 

"لقد انتحر "صادق" ميخائيل نعيمه* لأنه كان بصدقه أكبر من أن تتسع له فسحة الحياة المليئة بالكذابين والمقنَّعين."

هكذا قلت لنفسي، ودبيب قشعريرة يجتاح جسمي، فيما أنا أنظر إلى وجهها الجميل وقد كساه شحوب ظاهر، وإلى عينيها السوداوين، وقد اختفى بريقهما وراء سحابة من الأحزان.

رسمتْ على شفتيها الرقيقتين ابتسامة استخفاف، جاءتْ محمَّلةً بالألم:

-       هل هذا ما تريده الحياة منَّا؟

قالت، بعد أن حطَّتْ نظراتُها المنطفئة على وجهي لثوان.

-       ماذا تقصدين؟

سألتها بهلع.

-       أن نقطع ألسنتنا، ونرميها بعيدًا حتى لا نقول الحقيقة، ثم نزرع مكانها أخرى لا تنطق إلا عن ألوان الكذب التي تعجز العقول عن اللحاق بأطيافها اللانهائية؟ أن نلبس دائمًا أقنعة نخفي وراء ملامحها اللاإنسانية ذواتَنا الحقيقية؟!

لم أحرْ جوابًا. لذتُ بالصمت، وأنا أراقب الوجه الحزين، وأتابع تعبير الإحباط المرتسم في عمق العينين الواسعتين.

كنا نجلس في مقهى صغير متواضع، تطلُّ واجهتُه على الطريق العام. شغلتْني حالةُ صديقتي عن عادتي في مراقبة وجوه الناس الرائحين والغادين أمامي. لقد تعوَّدتُ أن أفعل هذا في أحيان كثيرة، حين تضيق بي الدروب، وتضيع مني الأجوبة، فأخرج من صَدَفتي، التي أحاول الاحتماء بفيئها كلما أحسست بأن جلدي الرقيق بدأ يحترق وسط اللهب الذي يطوِّقني، وأجوب الشوارع بحثًا عن هواء نقي يعيد تجدُّدَ الحياة إلى أنسجتي المتهتِّكة. وحين يهدُّني التعب، أرخي جسدي المثخن على كرسي من كراسي هذا المقهى الصغير، وأطلب كأس ماء بارد أطفئ به حرارة جوفي، بينما عيناي ما تنفكان تتابعان الوجوه التي تعبُر أمامي.

تحضرني في هذه اللحظة الحميمة التي أعيشها مع صديقتي، بعد أسئلتها التي حركتْ فيَّ المواجع، صورةُ ذلك الرجل المهندم، الذي كنت أتابعه من هذا المقهى، منذ أيام، وهو يركن سيارته الفخمة بجانب الرصيف المقابل، ثم ينزل منها على مهل، ويبدأ بعبور الشارع إلى الرصيف الآخر. كان نظري يعاين حركاته التي بَدَتْ وكأنها مدروسة بعناية فائقة، ويقف بدقة على هندامه المصمَّم بحسب آخر صيحات الموضة. مدَّ يده بينما هو يقطع الشارع، وراح يسوِّي خصلات شعره المصقول. إذا بسيارة مسرعة تفاجئه، على حين غرة. فما كان منه إلا أن قفز، كردة فعل سريعة، ليتفادى موتًا كان أقرب إليه من ظلِّه. ومع قفزته تلك، اختلَّ توازن جسمه، فوقع على أرض الشارع، في اللحظة التي انطلقت السيارة بمحاذاته تمامًا، ثم تخطَّتْه بسرعتها الهائلة، وكأن شيئًا لم يحدث. وهكذا نجا الرجل بأعجوبة كبيرة!

في لحظة، قام من على الأرض مستعجلاً، وراح يرتِّب هندامه. بينما عيناي تتابعان تعبير وجهه ونظرة عينيه. كانت ملامحه ساكنة، ما عدا عينيه اللتين ظهر في نظرتهما شيء من القلق، وهو يتلفت يمينًا وشمالاً، ليرى إن كان قد لَمَحَه أحدٌ يعرفه، فضَبَطَه وهو في هذا الوضع المشين.

رأيت نفسي أبتسم. وما هي إلا هنيهة حتى رحتُ أضحك بصوت مسموع أجفل مَن حولي لدى سماعه. وتبادر إلى ذهني سؤال: هل القناع الذي يحرص أكثر الناس على وضعه في أغلب الأحيان هو أهم من حياتهم ذاتها يا تُرى؟!

أعادني صوت صديقتي من استسلامي لتلك التداعيات، حين راحت تسأل بلهجة عاتبة، وقد استبطأت جوابي:

-       لماذا لم تجيبي على سؤالي؟

أرسم على شفتيَّ ابتسامة جاءت شاحبة، وأقول، وصورة الرجل التي عَبَرَتْ ذاكرتي منذ لحظات ما تزالُ ماثلةً أمامي:

-       راقبي المشهد الذي أمامك يا صديقتي، ولا حاجة بك إلى إجابتي. الحياة، يا عزيزتي، لا تريد منَّا هذا، كما تظنين. بل هي تريدنا أن نكون منسجمين مع نظامها الكوني المتوازن. لكننا نحن الذين غبنا عن أنفسنا تمامًا! "ولكن لماذا؟!"، ستسألين على الفور. وأقول لك بكثير من الألم: لأن معظم الناس باتوا يفتقدون الشعور بذواتهم، ولذا راحوا يستعيضون عنها بشخصيات يبتكرونها بحسب المقام أو الطلب.

كانت نظرات صديقتي قد تركت مكانها على وجهي، وراحت تحط على وجوه الناس الذين يمرون من أمامنا دون أن يلتفتوا إلينا. قلت لها وأنا أدقق باهتمام في الوجوه التي أراها:

-       انظري، بربك! ألا ترين كيف يسير الواحد من هؤلاء؟ ألا تحسين أنه لا يوجد لوعيه نقطة ارتكاز في الداخل؟ لهذا فهو يركن إلى شخصيته الخارجية، متماهيًا معها، مع رغباتها وأفكارها المسبقة، بما يمنحه إحساسًا بالوجود وبالهوية؟

وتلتفتُ إليَّ فجأةً. كان في نظرتها خوف حقيقي، كأنني أحدِّثها عن كائنات خرافية ذات أشكال مثيرة للرعب.

تتسع ابتسامتي، وأربت على يدها.

-       على رسلك، يا صديقتي! الأمر لا يحتاج إلى هذه الحساسية كلِّها. صحيح! نسيت أن مشكلتك هي أنك تطلبين الكمال في كلِّ شيء... بينما الواقع، كما ترين، لا يعطيك شيئًا مما تحلمين به. الكمال، يا عزيزتي، أن نكون وذاتنا الداخلية واحد. ونحن كما ترين، في كلِّ ما نفكر ونقول ونفعل، منفصلون عنها تمامًا، وكأنها غير موجودة فينا على الإطلاق. وهكذا، تبقى هذه الذات مدفونة تحت ركام هائل من الأفكار، والخواطر، والانفعالات، والأحاسيس، والرغبات، والشهوات، إلخ، بحيث إن شخصيتنا، بدلاً من أن تستمد وجودها من حضور الذات فينا، تقتات على هذا الركام الهائل، مضيفةً إليه دومًا موادًا جديدة.

تهزُّ صديقتي رأسها تبرُّمًا بكلامي، ونظرة الخوف ما تزال تملأ عينيها الواسعتين، مختلطةً بشيء من القلق والتوجُّس. أحاول التوضيح:

-       أعرف أنك لا تستسيغين سماع الجُمَل والكلمات المبطَّنة، وأعرف أن الكلام الصريح، الذي يدخل إلى القلب مباشرةً، هو المفضل لديك. لذا سأبسِّط لك الفكرة. هل رأيت يومًا لعبة الكاليدوسكوب، تلك اللعبة التي يمكن أن يلهو بها الصغار والكبار، على حدٍّ سواء؟

وتنفي صديقتي معرفتها بها، وهي ترمقني بنظرة استغراب وفضول في آنٍ معًا، ثم تقول بنبرة تحمل نوعًا من الأسى:

-       يا صديقتي، حين كنت طفلة، لم يكن أهلي قادرين على شراء ملابس جديدة لي. فكيف لهم أن يفكروا في شراء الألعاب؟

-       لا بأس، لا بأس. أنا أيضًا لم أحظَ بمثلها يومًا، لكنني رأيتها مصادفةً عند إحدى صديقاتي. كان أخوها اليافع يلعب بها، فعرَّفني إليها، وتشاركنا اللعب بها سوية. هي عبارة عن أسطوانة في آخرها مجموعة من المرايا الصغيرة العاكسة المتقابلة، التي تعكس إلى ما لانهاية صور مجموعة من القطع الزجاجية الملونة الموجودة فيها، فتعطيها أشكالاً هندسية بديعة. وكلما أردنا أن نغيِّرَ الشكل الناتج، ندير الأسطوانة، فتتحرك القطع الزجاجية في تشكيل جديد، ويتغيَّرُ الشكل الهندسي المعكوس. وهكذا يستمر اللاعب في اللهو والتسلِّي برؤية أشكال تتغيَّر إلى ما لانهاية...

ليلة تعرفت إلى تلك اللعبة لم تغادر صورتها مخيِّلتي. فقد أوحت إليَّ بأفكار كثيرة، وجعلتني آليةُ حركتها أتساءل: ألا يحدث هذا أيضًا ضمن كياننا الإنساني؟ إذ، مع كلِّ حركة، وكلِّ صدمة، خفيفة أم قوية، تتعرض لها الشخصية أمام أيِّ موقف، تحاول أن تعيد تشكيل الخواطر، والمشاعر، والأفكار، والذكريات، لتصنع منها شخصية جديدة، أو قناعًا جديدًا يناسب المقام، ويخفف الصدمة. هذه "الأقنعة" التي يُعاد تشكيلها في كلِّ لحظة هي التي تشكِّل الواجهات المختلفة التي نخرج بها إلى العالم، ونتعامل من خلالها مع الآخرين، بحيث إن واحدنا لا يمتلك شخصية متماسكة، تعكس ذاته الداخلية، بل يمتلك نظريًّا عددًا غير منتهٍ من التشكيلات – الشخصيات – التي يستجيب كلٌّ منها استجابة مختلفة للتحريض الخارجي المستمر الذي تتعرض له في كلِّ لحظة.

أوصلني استغراقي في هذه الفكرة، يا صديقتي، إلى أن العلاقات بين البشر، في غالبيتها الساحقة، ليست علاقات حقيقية على مستوى الذوات الإنسانية، بل هي علاقة تجاوُب بين شخصيات، أي بين "أقنعة". فعلى سبيل المثال، إذا التقيت بشخص ما، فإن احتكاكي به يحرِّض في بنية الشخصية لديَّ تغييرًا طفيفًا أو غير طفيف، يجعلني أراه أو أقرأه بحسب التغيير الذي طرأ عليَّ. وبعبارة أخرى، فإن شخصيتي تشكِّل قناعًا هو الاستجابة المناسبة لاحتكاكها بذلك الشخص عينه. ولدى تشكُّل هذا القناع ينحفظ في ذاكرتي، بحيث إنني إذا التقيتُ ذلك الشخص مرة أخرى، فإنني، عوضًا عن أن أنظر إليه بعينين جديدتين، فإنني، من حيث لا أعي، أسارع إلى وضع القناع المخصَّص له، المحفوظ في ذاكرتي، ثم أعامله من خلاله. وهو، من جانبه، يفعل الشيء ذاته، فيخصِّص لي قناعًا في ذاكرته يضعه كلما احتكَّ بي، ويعاملني أيضًا من خلاله. ولنا الآن أن نتصور مدى فداحة الزيف في مشهد يضم عشرة أشخاص، في ذاكرة كلٍّ منهم تسعة أقنعة، كلٌّ منها مخصص لواحد من رفاقه!

أصمت، وأتنهد بعمق، كأنني أجلس لأرتاح بعد تعب مشوار طويل، دون أن تفارق نظراتي وجه صديقتي، الذي كان يتلوَّن مع تلوُّن الأفكار التي حملتْها جُملي، بطولها وقصرها. ولا تجيب صديقتي، لكن نظراتها الحزينة تغادر وجهي، وتغرق في اللوحة التي أمامها. فأغرق معها، أنا الأخرى، لبرهة، قبل أن ينطلق صوتي من جديد، عميقًا، كأنه قادمٌ من أغوار كهف:

-       لا نستطيع أن نتصور عمق الحرية الحقيقية التي يتمتع بها الإنسان الذي يستحضر ذاته الداخلية الحق في كلِّ ما يفكر ويقول ويفعل، لأن شخصية مثل هذا الإنسان تصير صورة صادقة عن كيانه الداخلي، وليست قناعًا. تصير بمثابة الكوكب التابع لشمس الذات، وليست مركز العالم، كما نظن في أغلب الأحيان. فأين هو يا صديقتي هذا الإنسان، الذي أكل خلاياه في عصرنا هذا، كما نرى، سرطانُ الزيف، والنفاق، وتضخم الأنا؟

-       ومع ذلك، لن نفعل كما فعل "صادق" ميخائيل نعيمه، يا عزيزتي. سنبحث عن قبره، لنزوره، ونضع عليه طاقة ورود جميلة، ثم نتابع طريق الحياة، وفي عيوننا نظرة تشق الضباب الذي أمامنا، لنرى كلَّ ما لا يُرَى، وفي صدورنا قلوب تغني للبراءة والصدق.

23/8/2004

*** *** ***


* "صادق" عنوان إحدى قصص مجموعة أكابر لميخائيل نعيمه. (المحرِّر)

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود