تأمُّلات على هامش

الإغواء الأخير...

لنيكوس كازانتزاكيس

 

أكرم أنطاكي

 

"... أيها القلب المتحوِّل

أيها القلب الخفيف

أيها القلب المثقل

ما أقصر زمن الحلم..."

لويس أراغون

 

1

ونبدأ من النهاية...

لأننا بشر...

ولأنه قيل، وفقًا لإحدى الرؤى، إنه مِن على صليبه، ولهنيهات قبل أن يُقضى الأمر، حلم ابن الإنسان حلمًا أخيرًا، فكانت "غوايته الأخيرة"، كما سُمِّيَتْ؛ تلك التي لم يستطع، إن لم نقل لم يكن في وسعه – وهو الكلِّي القدرة – تحقيقها!

حلم بحياته كإنسان عادي، كمجرَّد نجَّار، عمل وكسب قوته من جهد عمله.

حلم بحياته كمجرد رجل طبيعي، عَشِقَ وأحبَّ وتزوج وأنجب أطفالاً وأحفادًا.

وأمام عينيه، في لحظاته الأخيرة، مرَّت تفاصيلُ حلم تلك الحياة الأرضية الطبيعية الأجمل كلُّها. لأنه...

كما قال الملاك (أو الشيطان)، تخيَّل مملكة السماء وقد تحققتْ في عالمنا من خلال "تناغم الأرض والقلب"...

حلم حتى النهاية... وكاد حلم الإنسان–الإله أن يتحقق...

ولكن... ما أقصره زمنًا انتهى بحضور أتباعه وتلاميذه الذين استنكروا واقع أن يتحوَّل الإله إلى مجرد إنسان عادي، فأعادوا تذكيره بأنه لا يحقُّ للإله، هاهنا، إلاَّ أن يكون إلهًا، وأنه ينبغي على المسيح، هاهنا، أن يحقق الفداء الذي جاء من أجله؛ وبالتالي، يجب عليه أن يُصلَب من أجلنا، وأن يموت وحيدًا... من أجلنا.

لكنْ، بربِّكم، أخبروني كيف يجب أن تكون الألوهة؟ كيف يجب أن يتصرَّف الإله في عالمنا؟ وكيف تتحقَّق الألوهة هاهنا؟

يسوع، يا مسيحي، أجبني: ألسنا نحن الذين خلقنا آلهتنا ونخلقها؟!

ألسنا نحن الذين حدَّدنا ونحدِّد – من بين تلك التي تخيَّلنا وتنقصنا – صفاتها؟!

ألسنا نحن، الذين ألهانا – ومازال يلهينا – التكاثر، نمنعها حتى من حقِّ الولادة؟!

يسوع، يا إلهي – وأنت واحد منَّا – أجبني: أليس الخلق، في حدِّ ذاته، ولادة؟!

2

بِرِشِت[1]...

أو، لنقل بالعربية: بسم الله...

لأنه، كما جاء في إنجيل يوحنا: "في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله والكلمة كان هو الله..."[2]، ولأنه...

كما جاء في التوراة: "في البدء خلق الله السماء والأرض. وكانت الأرض خربة وخالية وعلى وجه الغمر ظلام وروح الله يرف على وجه المياه. وقال الله ليكن نور فكان نور..."[3].

أو، كما تقول علومنا، كان انفجار بدئي عظيم Big Bang؛ منه تشكَّل ذلك الكون اللامتناهي الذي فيه ولدنا ومازلنا نعيش، خاصةً وأنه في البدء...

"... قال الله لنصنع الإنسان على صورتنا كمثالنا وليتسلَّط على سمك البحر وطير السماء والبهائم وجميع الأرض وكلِّ الدبابات الدابَّة على الأرض. فخلق الله الإنسان على صورته، على صورة الله خلقه، ذكرًا وأنثى..."[4].

و/أو، كما تقول علومنا أيضًا، كان تطور الخليقة الذي أوصلنا إلى إنسان نياندرتال، ومن خلاله، إلى ما نحن عليه...

هذا التطور الذي، عن طريق القلب والعقل – وكأبناء لآدم وقايين – أوصلنا إلى إبراهيم واسحق، وخاصةً...

إلى يعقوب، الذي "صارعه رجلٌ إلى مطلع الفجر. ورأى أنه لا يقدر عليه فلمس حُقَّ وركه فانخلع حُقُّ ورك يعقوب في مصارعته له. وقال: أطلِقْني لأنه قد طلع الفجر. فقال: لا أطلقك أو تباركني. فقال له: ما اسمك؟ قال: يعقوب. قال: لا يكون اسمك يعقوب فيما بعد بل إسرائيل..."[5].

... (يعقوب) الذي مازال، إلى يومنا هذا – وسيبقى للأفق غير المنظور – من خلال تشعبات أسباطه[6]، رمزًا لإنسانيتنا.

وأتساءل: لِمَ كانت الخليقة؟ ولِمَ حُمِّلت الأمانة لهذا "المنَّاع الخير المعتد الأثيم"؟!

أتساءل بعقلي وبقلبي، فلا أجد جوابًا شافيًا – إلاَّ ذلك الذي يعيدني، دائمًا وأبدًا، إليك، وأنت وحيد تتألم على صليبك...

يسوع، يا مسيحي...

3

في الوحدة... والمحبة... والألم...

وأتفكَّر أن الأمر قد لا يكون، بالنسبة إلينا، سوى مجرَّد كلمات نردِّدها، إن لم نقل مجرَّد هواجس فلسفية؛ لأننا، مهما حاولنا، ليس – ولن يكون – في وسعنا تخيُّل ما يمكن لكون "الكائن" وحيدًا وأزليًّا ومطلقًا معًا أن يعنيه، وخاصةً...

ماذا يمكن أن يعنيه هذا الأمر من منظور المحبة و/أو السعادة و/أو الوحدة و/أو الألم...

أفكِّر أنه لا يمكن لنا – وليس في وسعنا – أن نتخيل كيف يمكن للمحبة أن تكون كلِّيةً ومطلقة...

وأحاول أن أتخيَّلك وأنت تتجسد هاهنا بيننا، يا يسوع، يا مسيحي...

أحاول، كما حاول كازانتزاكيس، أن أتخيَّلك وأنت تعيش حياتنا وتُصلَب في النهاية من أجلنا...

أحاول – فقط نحاول – فتثلَج صدورُنا، التي سرعان ما تتوقف بها المشاعر عند هذا الحدِّ الذي هو بشريتنا...

وأتفكَّر في السعادة، فأشرد متسائلاً...

لأنه ليس في وسعنا كبشر أن نتخيل ماذا يمكن للسعادة أن تعنيه، وكيف يمكن لها أن تكون كلِّيةً ومطلقة، لأن الخيال سرعان ما يتجاوزنا، ولاسيما أنه...

ليس بإمكاننا أن نتلمس السعادة هاهنا إلاَّ كومضات؛ لأنه ليس في وسعنا أن نعيش هاهنا إلاَّ هنيهات منها، لأن حياتنا على هذه الأرض، بحكم ماديتنا وأنانيتنا، كانت – وستبقى – مجبولة بالألم...

وأتفكَّر في الألم؛ ونحاول أن نتخيل كيف يمكن للألم أن يكون مطلقًا؛ نحاول أن نتفكر كيف يمكن للوحدة أن تكون كلِّيةً ومطلقة. وتتملَّكنا الحيرة...

ربما لأننا، لشدة أنانيتنا، لم نفكر يومًا كيف يمكن لهذا الجانب من شعور الإله بوحدته أن يكون؛ ولا حتى، بخاصةً، كيف يمكن للألم المطلق للإله المطلق في وحدته أن يكون؛ لأنه لم يخطر في بال معظمنا حتى أن يتساءل حول ما إذا كانت الألوهة – وهي المطلق – تتألم و/أو تعاني...

نزيه أبو عفش فقط، من بين الذين أعرفهم، تحدَّث عن ذلك الجانب من الألوهة؛ تحدَّث عن الألوهة كألم. نزيه الذي دعانا ذات يوم لأن نتفكَّر في الألم "مثلما كان ميكلانجلو يفكر في عذاب الصخر..."؛ نزيه الذي دعانا لأن نتفكر "... في ضجر الدودة... وفي أحزان النباتات... وفي تألم الطائر..."، كطريق نكتشف من خلاله في النهاية، ربما، لغة الألوهة. لكنْ...

ما هذا التجديف؟! وكيف وهل يمكن للألوهة أن تتألم و/أو تعاني كما نحن نتألم وكما نحن نعاني؟!

لأنه تجديف فعلاً... لأننا، في معظمنا، من حيث الجوهر ربما، وعلى الرغم من ادِّعاءاتنا الإيمانية كلِّها، أشباه ملاحدة...

فالمطلق، من منظور عقولنا وفلسفاتنا، مجرَّد عدم. والعدم هو لاوجود. وهذا قطعًا عديم المشاعر.

لكن الخليقة، في المقابل، هي تحقيق ذات. والتحقُّق وجود. والوجود هو، في الوقت نفسه، سعادة، وألم، وتحديدًا، مشاعر.

4

طوبى لأنقياء القلوب...

صوَّر كازانتزاكيس في رؤياه شخص السيد المسيح بأنه كان، منذ البداية، بسيطًا وطيب القلب، إن لم نقل ساذجًا.

صوَّره كصانع صلبان حالِم، حاول ألا يتفكَّر في مصيره الذي كان يتملَّكه.

صوَّره داعيةً لحلم يكاد أن يبدو مستحيلاً – وإن كان استطاع، عن طريق القلب، أن يُقنِع به بعض المختارين وبعض السذَّج.

وأتوقف هنا قليلاً...

وأحاول التأمل في سعة طيفنا الإنساني، فتشد أنظاري وعقلي صورُ أولئك الذين تمايزوا هاهنا عن إخوانهم من البشر؛ أولئك الأجمل والأبهى مرأى و/أو الأكثر ثروةً أو غنى؛ أولئك "الأذكى"، بحكم نجاحهم المادي.

ونلاحظ أن هؤلاء (الذين ليس في وسعنا أن ننفي عنهم إنسانيتهم) – وهم قلة القلة من بني البشر – قد تحجَّرتْ قلوبُ معظمهم، بحكم تلك المادية المحيطة والسائدة. وأتساءل...

أترانا لولاك، يسوع، يا مسيحي، فكَّرنا (مجرَّد التفكير وحسب) في التأمل في أولئك الذين يبدون، للوهلة الأولى، سذَّجًا؛ أولئك الذين لم يستعملوا، أو لنقل، لم يكن في مقدورهم أن يستعملوا، ذكاءهم لتكريس تمايُزهم وتفوقهم على الآخرين ممَّن حولهم؛ أولئك البسطاء الذين اتَّبعوا – ولم يكن في وسعهم إلاَّ أن يتَّبعوا – طريق القلب؛ فلم ينجحوا هاهنا كما "نجح" إخوانهم "الأذكى"!

وأتذكَّرني الآن واقفًا في الكنيسة – وأنا الذي نادرًا ما وطئتْ قدمُه عتبة كنيسة – أستمع بعين عقلي إلى ما يردِّد الكاهن – كالدرس المحفوظ عن ظهر قلب وبشكل جيد – من "كلامك الجوهري". أستمع إلى خطبتك على الجبل، تلك التي نعرفها بـ"تطويبات" إنجيل متى، وهي تردِّد على مسامعنا، كنغم حزين، أنْ "... طوبى للمساكين بالروح فإن لهم ملكوت السموات؛ طوبى للجياع والعطاش إلى البرِّ فإنهم يُشبعون؛ طوبى للرحماء فإنهم يُرحمون؛ طوبى للأنقياء القلوب فإنهم يعاينون الله؛ طوبى لصانعي السلام فإنهم بني الله يُدعون؛ طوبى للمضطهَدين من أجل البرِّ فإن لهم ملكوت السموات..."[7].

وأتفكَّر فيما بلغناه في عالمنا من كذب ونفاق...

لأني أتخيل وأتساءل فيمن منَّا يقبل بمجرَّد أن يُنعَت بأنه من أولئك "المساكين بالروح" و/أو "أنقياء القلب"، حتى وإن كان ثمن "شطاراته وذكائه" فقدانُ الملكوت!

لأني أتساءل وأفكر في كم منَّا يتحسَّس – فعلاً لا قولاً – آلام الجياع، فيرحم.

وكم منَّا، من أجل البرِّ، مستعد لأن يتحمل الاضطهاد، أو حتى أيَّ شكل بسيط من أشكال العذاب...

وأتفكر أننا كنَّا دائمًا – ولم نزل وسنبقى – للأفق الإنساني المنظور، نرفض بأن نُنعَت بالـ"مساكين بالروح"، لأننا نعتبر مثل هذه الصفة إهانة!

وأتفكَّر أننا كنَّا – ومازلنا – نرفض، إلى اليوم، أن نُنعَت بالأنقياء من حيث القلب لأن هذا يُعتبَر هاهنا، في عالمنا، سذاجة...

وأتفكَّر متسائلاً: أتراك لم تكن أنت نفسك، إلهي، بسيط القلب، ساذجًا، لمجرَّد اختيارك هذا الطريق؟ ألم تكن ساذجًا لمجرَّد دعوتك لما دعوت إليه من محبة وإنسانية؟!

وأتفكَّر أن دوستويفسكي، قبل كازانتزاكيس، كان قد صوَّرك ذات يوم كـ"الأبله""، وكأن الألوهة تبدو "بلهاء" في عالمنا!

وأستفيق من حلمي، لأتابع الكاهن مرددًا، كنغم حزين، داعيًا بصوت يثير النعاس: "... قد سمعتم إنه قيل: العين بالعين والسنُّ بالسنِّ. أما أنا فأقول لكم: لا تقاوموا الشرير، بل من لطمك على خدِّك الأيمن فحوِّل له الآخر. ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فخلِّ له رداءك أيضًا. ومن سخَّرك ميلاً فامشِ معه اثنين. من سألك فأعطِه. ومن أراد أن يقترض منك فلا تمنعه. قد سمعتم أنه قيل: أحبِبْ قريبك وابغض عدوك. أمَّا أنا فأقول لكم: أحبُّوا أعداءكم وأحسنوا إلى مَن يبغضكم وصلُّوا لأجل من يعنتكم ويضطهدكم، لتكونوا بني أبيكم الذي في السموات..."[8].

وأشعر برغبة في البكاء... لأن ما تطلبه منَّا يبدو وكأن لا سبيل إلى تحقيق البشر له، لأنه يبدو وكأن الإنسان يحتاج لأن يصبح إلهًا كي يحققه.

وقد كنت إلهًا، يسوع، يا مسيحي، لتحبَّنا كما أحببت، ولتتواضع من أجلنا كما تواضعت...

كنت إلهًا حين قدَّمت لنا المثال، فدخلت مدينتك المقدسة بكلِّ تواضع، راكبًا على ظهر أتان، وحين افتديتنا وغفرت لنا خطايانا، وحيدًا على الصليب...

لأنه فقط الإله يقول ما قلتَ ويفعل ما فعلتَ...

كنت إلهًا، يا مسيحي، في الوقت الذي كنَّا نحن فيه – ولم نزل – نتفكَّر ونعيش صورًا وخيالاتٍ لألوهة تتوافق مع ما ينقصنا؛ تلك الصفات التي رسَّخها في أذهاننا مَن أسميناهم أنبياءنا؛ تلك الصور التي تنسجم مع طبيعتنا.

وأتصفَّح حالمًا تلك الصفحات من الإغواء الأخير التي تتحدث عن ذلك اللقاء والحوار المرعب بين يسوع ويوحنا المعمدان، أو لنقل بين...

5

الإله والنبي...

لأنه يقال إن يوحنا المعمدان كان أحد الأنبياء؛ وهذه صفة تنطبق فعلاً على مَن صورَّه مرقس الإنجيلي، تلميذ بطرس، كـ"... صوت صارخ في البرِّية [أنْ] أعدُّوا طريق الربِّ واجعلوا سُبُلَه قويمة..."، "... يعمِّد... ويكرز بمعمودية التوبة لغفران الخطايا..."[9].

وأتفكَّر بأني، من خلال ما أؤمن به، لا أنفي النبوة ولا الأنبياء، ولا أؤكدهما...

فالنبي، من منظورنا، هو، ربما، ذلك الإنسان العظيم الذي تملَّكتْه الروح، من جهة، ووعى خطايا بشرية زمانه وعاهاتها، من جهة أخرى، فدعا هذه البشرية إلى الصَّلاح.

من هذا الجانب الحق، من هذا الجانب الروحي، وحيدًا، أتفهَّم تحسُّس النبي لألوهته تحسُّسًا ملموسًا ومباشرًا.

... كموسى، حين قابل الإله وحيدًا على الجبل، سواء من خلال العليقة المحترقة أو وسط الرعود والبروق، بعيدًا عن شعبه الذي كان يرتجف خوفًا مما لا يرى، أو...

كيوحنا، حين تلمَّس وحيدًا دعوته، فدعا إلى معمودية الماء، مبشِّرًا بقدوم ابن الإله، حتى كان وجاء مَن كان ينادي به...

وأتوقف هاهنا قليلاً عند رؤية كازانتزاكيس لهذا اللقاء الذي كان من أجمل ما كتب، واصفًا النبي الذي التقى بِمَنْ كان ينتظر...

حيث كان النبي، كسائر الأنبياء، ينتظر ألوهة جبَّارة، تدين وتعاقب. فإذا به يُفاجَأ لأنه قابَل مجرَّد حمل وديع:

"... وفجأة أطلق المعمداني صرخة، وهو لا يزال ينظر إليه..."، و"... امتلأتْ عينا الزاهد بالغبطة والخوف. فقفز نازلاً عن صخرته وتقدَّم منه، مشرئبًا بعنقه الكثير العُقَد"، و"سأله وصوته الأجش يتهدَّج: مَن أنت، مَن؟"

فـ"قال يسوع بتردد: لقد جئت... ثم سكت..."

فـ"مال النبي الهمجي فوقه وراح يتفحصه بصمت..."

ثم عمَّده بالماء، بناءً على طلبه، وهو يرتجف. فـ"... المعمداني، الذي مكَّنتْه السنواتُ الطوال التي قضاها في الصحراء في عزلة قاسية من التضلُّع في لغة الرب، كان الوحيد الذي فهم بينه وبين نفسه قائلاً، وهو يرتعش: اليوم عمَّد عبدُ الربِّ ابنَ الربِّ ورجاءَ البشرية!"

وتستمر الرؤيا، ويتناقش النبي والإله وجهًا لوجه.

والنبي، كسائر الأنبياء، كما سبق أن قلنا، كان يتوقع – إن لم نقل يحلم – بإله معاقِب جبار؛ لكن مَن يقابُله يجيبه ببساطة أنْ: "لو كنتُ نارًا لأحرقت، ولو كنت حطبًا لضربت. لكني قلب، وأنا أحب."

ويودِّع النبي والإله–الإنسان كلٌّ الآخر، فيفترقان كلٌّ ليواجه مصيره على هذه الأرض المظلمة: يوحنا ليُقتَل، والألوهة، التي آن أوانها، لتخترق بمحبَّتها ظلام عالمنا، وتُصلَب.

وأتساءل، متفكرًا بالحب، يسوع، يا مسيحي...

أتساءل، ويتجلَّى في الحلم أمامي وجهُ امرأة...

وأتساءل: أليست المرأة هي وجهك المُحِبُّ في عالمنا؟

6

مريم... ومريم... ومريم...

وأتفكَّر بمريم، كما يتخيَّلها كازانتزاكيس، من خلال قراءته الغنوصية للأناجيل؛ حيث لم تكن مريم واحدة في نظره، بل ثالوث مقدس، هو...

مريم الأم، أولاً وآخرًا – هذه التي وَلَدَتْ واحتضنتْ ابنها، فرعتْه بمحبتها؛ هذه التي تابعت، وتتابع مذعورة، حتى الصليب، مساره الإلهي... و...

مريم الحبيبة، ثانيًا ودائمًا وقبل الجميع – مريم المجدلية، الجسد والخطيئة والألم... مريم الروح والمحبة والندامة والفداء... هذه الحكمة التي حملت – ولم تزل – خطايانا كلَّها... فكافأتْها الألوهة بمحبَّتها وغفرانها.... هذه التي رافقت أيضًا مساره حتى الصليب. وخاصةً هذه التي لها، بعيد خروجه من القبر، كان أول مَن ظَهَر... و...

مريم الزوج والصديقة في النهاية... تلك التي حدَّدها كازانتزاكيس في الإغواء الأخير بأنها من وصفتْها الأناجيل كشقيقة أليعازر، صديقه الحبيب، فكانت زوجه وأمَّ أطفاله...

وهو ثالوث المرأة الواحد في النهاية... الواحد كالحلم الهابط من السماء ليلتقي مع ذلك الجبار الواحد، إله دياناتنا الساميَّة الثلاث؛ ذلك الثالوث الذكوري (الصاعد) الذي تتخيَّله المسيحية لألوهتها، المنبثق كالرمز المقدس من أعماق عالمنا...

وأحلم بتلاقُح الثالوث الأنثوي الهابط بالثالوث الذكوري الصاعد، ليصبحا، من خلالك، واحدًا... يسوع، يا مسيحي...

كالأسود والأبيض...

أو كالليل والنهار...

أو كالألوهة وإبليس...

و/أو – لم لا؟ – كتحصيل حاصل...

7

كيهوذا والمسيح...

وأراني أصِلْ هنا إلى نهاية تأملاتي، لأتوقف عند هذا المقطع الذي كان من أجمل ما كتبه كازانتزاكيس في رؤياه – هذه العلاقة بين مَن يظهران، لأول وهلة، وكأنهما على طرفي نقيض، بينما هما في النهاية واحد.

وهذه حقيقة من أعمق ما كُتِبَ في هذه الرؤيا التي تبيِّن، بمنتهى الجمال، ذلك الصراع والتكامُل بين الإنسان الفطري العنيف، المادي والذكي، الذي يسعى إلى حلم ملموس لشعبه، من جهة، والإنسان–الإله، المحب، الذي يستوعبه تقريبًا في النهاية، من جهة أخرى.

قلت "تقريبًا"، وأنا أعني ما أقول؛ لأن العلاقة بينهما تبقى علاقة صراع وتكامُل، كصراع يعقوب وإلهه على الجبل، حيث لا منتصر إلاَّ الحقيقة التي كان يبحث عنها – إلاَّ المحبة. وأتفكَّر أن...

كازانتزاكيس كان يجدِّف على الحبِّ هنا، ربما، كما أراني الآن أجدِّف...

لكن هل "... [يُلام]، إذا كان جدَّف..."

ولم لا نصلِّي...

"... لأهوائه

حاضنـ[ـين] في تجاديفه

حلمًا أو رجاءْ..."

لأنه، ربما...

"... لا يجدِّف إلاَّ

مَن يحبُّ السماءْ."[10]

لأنه فقط "مَن يحبُّ السماء" في وسعه أن يتلمس، بحق، الوحدة الحق لما يبدو في عالمنا وكأنه الأضداد.

كيهوذا والمسيح، ربما...

و/أو كالشيطان والإله...

*** *** ***


[1] أي "في البدء"، أو لنقل، فاتحة التوراة باللغة العبرية.

[2] إنجيل يوحنا 1: 1.

[3] سفر التكوين 1: 1-2.

[4] سفر التكوين 1: 26–27.

[5] سفر التكوين 32: 24-28.

[6] كنَّا سبق وأشرنا في مقالتنا "موسى وأبناء الإله الأصغر" عن كيفية ربط العقيدة السرية للسيدة بلافاتسكي مفهومَ إسرائيل والأسباط الإثني عشر برموز فلك دائرة البروج، أو لنقل، بمختلف تشعبات إنسانيتنا.

[7] إنجيل متى 5: 3-10.

[8] إنجيل متى 5: 38–45.

[9] إنجيل مرقس 1: 2-3.

[10] مقتطف من ديوان أدونيس الكتاب، الجزء الثالث.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود