|
لا ظلَّ يؤذي على مركب
غريق أربع قصائد رونيه شار (1907-1988) معروف جدًّا في
وسطنا الشِّعري والثقافي الفرنكوفوني. يوصَف
غالبًا بأنه شاعر الحنين إلى طفولته في
البروفونس وإلى العالم السابق للثورة
الصناعية والنووية. اصطلح النقاد
والإنتلجنسيا الثقافية على اعتباره شاعرًا
فيلسوفًا، من أهم الشعراء الفرنسيين منذ عهد
السوريالية، وربما منذ بول فاليري. إلا أنه
ليس بالشاعر القريب المنال. فالقارئ العادي
لقصائده كناطح صخرة. ولعل ذلك، فضلاً عن نسيجه
الصوغي الحرون، لم يُشجِّع على ترجمته في شكل
واسع كبعض أترابه من الشعراء، اللهم إلا في
محاولات نادرة ومجتزأة. هاهنا محاولة، اخترت فيها أربعًا من
قصائده: أولها قصيدته الطويلة "وجه الزفاف"
التي تُعَدُّ نقطة تحوُّل في شعره، حيث بعض
الأبيات، التي هي من أروع ما كُتِبَ، تجاور
حُممًا من الصور الغامضة وغير المترابطة.
ولدى نشرها في العام 1944 تركت أثرًا عميقًا بين
هواة الشعر. وفي صددها يقول شار: "في صيف 1938 كنتُ
عاشقًا. وهذه القصيدة هي ذكرى ذلك العشق."
إنها احتفال بالمرأة، وإعلان انتفاضة شاعر.
وهي ليست قصيدة عرس، بل وصفٌ للأعراس
الحقيقية مع الجمال في حدِّ ذاته. وبغية إلقاء بعض الضوء عليها، رأيت أن
أذيِّلها بشروح استقيت معظمها من الكتاب
الضخم الذي أصدره سنة 1990 لدى الناشر غاليمار
صديقُ شار وراوي قصائده، على طريقة الرواة
العرب، الكاتب والمؤرِّخ بول فاين، وعنوانه رونيه
شار في قصائده.*
استطاع فاين أن ينتزع من شار مفاتيح كثيرة
خوَّلتْه أن يشقَّ شِعابًا ودروبًا إلى غابة
رموز شاعرنا العَقْداء. وفي هذا المجال يقول
فاين: "قد يعترض البعض، باعتبار أن الشعر
ليس في "ما تقوله القصيدة". وردِّي أن ذلك
لم يغب عن بالي. إلا أن شار في الواقع ليس
بروتون. وإن لم يكن شعره في المعنى، فهو لا
يوجد في كلمات لا ندرك لها معنى. ثم لماذا نكون
ملكيين أكثر من الملك؟ إن شار نفسه كان يهمه
جدًّا أن يكون مفهومًا." هـ.ف.ص. *** وجه الزَّفاف الآن
اختفوا، يا مُواكِبيَّ[1]
وقوفًا في
المدى، إن
عذوبة العدد أخذتْ تنهدم. انصرفوا
يا حلفائي، يا غاصبيَّ، يا أدلَّتي. كلُّ
شيء يجذبك أيتها الكآبة الخَنوع. أُحبُّ. الماء
يثقل في يوم أكثر من الينبوع.[2] الفلذةُ
القرمزية[3]
تجتاز أغصانها البطيئة إلى جبينك،
أيها البُعد المؤمَّن. وأنا،
على مثالك، مع
القشِّ المزهر عند طرف السماء صارخًا باسمك، أقوِّض
الآثار، مُصابًا
بسليم الضياء[4]. يا
زنَّار البخار، أيها الحشد المروَّض، يا
قاسمي الخوف، المسوا
انبعاثي. يا
جدران ديمومتي، إني أتخلَّى عن مؤازرة رحابتي
العَرَضيَّة، أُشجِّر
سبيل المبيت، أعرقل باكورة البقايا. وملتهبًا
بالوحدة النقالة، أستدعي
التجذيف على ظلِّ حضورها.[5] الجسدُ
المهجور، المناوئ لمزيجه، عاد البارحة يلهج
بالسوء. أيها
الغروب، لا ترجع عن رأيك، اهْوِ بهراوة
مخاوفك، أيها
النعاس الكريه. المقوَّر
décolleté
يُنقِص عظام منفاك، ومسايفتك. إنك
تعيد الطزاجة إلى العبودية التي تنهش ظهرها. يا
هُزأة الليل، أوقفي هذه العربة المأتميَّة[6] ذات
الأصوات الزجاجية والأسفار المرجومة. باكرًا
أُنقِذْتُ من مدِّ الجراح المبتكِرة.[7] (معول
العُقاب يقذف عاليًا الدمَ الواسع الفوهة.) على
القدر الراهن قُدْتُ إعفاءاتي نحو
اللازورديِّ المتعدِّد المصاريع[8]، الانشقاق
الغرانيتي. يا
قبَّة الدَّفق على إكليل جوفه،[9] يا
دمدمة البائنة السوداء! يا
حركة نُطْقِه المنزوفة! أيها
المولِّد، قُدِ المتمرِّدين، ليكتشفوا
قاعدتهم، اللباب
الممكن تصديقه في الغد الجديد. لقد
لأَمَ المساءُ جُرْحَه القرصاني حيث كانت
الصواريخ الغامضة تسافر
عبر جَزَعِ الكلاب المستمر. إلى
الماضي صفائح الميكا الحِدادية على وجهك. يا
زجاج النافذة الذي لا يخمد[10]: سَبَقَ أن
لامستْ نفسي
صداقة جرحك. كان
يُسلِّح ملكيَّتك غير الظاهرة. ومن
شفاه الضباب نزلتْ لذَّتنا على
عتبة الكثيب، على السقف الفولاذي. وكان
الوجدان يعزِّز جهاز إقامتك المرتعش. وتمدَّدت
البساطة الوفية في كلِّ مكان. يا
دمغة شعاري الصباحي، يا الفصل الميت للنجمة
المبكِّرة، إني
أسرع إلى طرف قوسي، الكوليسيوم المخندَق[11]. كفى
تقبيلاً لِلَهَبِ الحبوب البالغ. الحلاَّجة[12]،
العنيدة، تُخضعِها تخومنا. كفى
لعنًا لمرفأ التماثيل الزفافية. إني
ألمس عمق إيابٍ متراصٍّ.[13] أيتها
الجداول، يا مجموعة أنغام الموتى
المتجوِّفين، أنتِ
التي تتعقَّبين السماء القاحلة، امزجي
تقدُّمك بعواصف العارف أن
يبرأ من الفرار، عوضًا
عن دروسك الصحية، في
وسط السقف يختنق الخبز ليحمل القلب والنور. خُذْ،
يا فكري[14]،
زهرة يدي التي يمكن اختراقها، فيستيقظ
الزرع المبهَم. لن
أرى جوانبك – تلك الخشارم من الجوع – تجفُّ، تمتلئ
بالعوسج. لن
أرى العنقوص يخلفك في بيتك الأخضر.[15] لن
أرى اقتراب المهرِّجين لإزعاج طلعة النهار. لن
أرى سُلالة حريتنا تكتفي بذاتها في مَذَلَّة. أيتها
الأوهام، لقد صعدنا إلى النَّجد[16]. كان
الصوان يرتعش تحت سروع الفضاء. والكلام،
المرهقُ من التهشيم، كان يشرب من
رصيف الميناء الملائكي. لا
بقاءَ وحشيًّا: إن
أفق الطُّرُق حتى فيض الندى النهاية
الحميمة لما لا يعوَّض. هو
ذا الرمل الميت[17]،
هو ذا الجسد المنقَذ: المرأة
تتنفس، الرجل ينتصب واقفًا. (من
مجموعة: سُخط وسر) أيها العمَّال
الغامضون... أيها
العمَّال الغامضون[18] إلى
القتال مع صمتي، حتى
الملاَّح يشتمكم متضامنًا
مع زجاج النافذة! حتى
الثغر الذي أقبِّل كبرياءه
البكماء! من
كلِّ مكان أسمع التماسات العفو، ثم
تهدر وتتدفَّق، هاربة
أمام الشعلة، في
احتضار يتفتَّح في غدٍ دغلاً. الجمع،
حيث يعيش في المدينة، أخذ
يهيج. والضوء
الذي يفتري الكذب عليه طبلٌ
في الفراغ. إلى
أشواك السيل صوفي
يثبِّت ألمي. ليَحْيَ! "هذا
البلد ليس سوى نذر لروح، رمس مضاد." في
بلدي، تفضَّل براهين الربيع العذبة والطيور
السيئة الملبس على الغايات البعيدة. تنتظر
الحقيقة الفجر إلى جانب شمعة. زجاج النافذة
مهمَل. ما همُّ اليَقِظ. في
بلدي لا يسأل إنسان منفعل. لا
ظِلَّ يؤذي على مركب غريق. تكاد
أن لا تُعرَف في بلدي تحيةُ صباح الخير. لا
يُعار إلا ما يمكن ردُّه مزيدًا. ثمة
أوراق، أوراق كثيرة، على أشجار بلدي.
والأغصان لها الحرية ألا تحمل الثمار. لا
يوثَق بحُسْنِ نيَّةِ المنتصر. في
بلدي يقولون شكرًا. متاهة احفرْ!
كانت تأمرني حلقة المعدن. انزفْ!
كانت تردِّد السكين. وانتُزِعَتْ
منِّي الذاكرة، وقُتِلَ
عمائي شهيدًا. أولئك
الذين أحبُّوني، ثم
كرهوني، ثم نسوني، كانوا
ينحنون ثانية فوقي. بعضهم
كان باكيًا، والآخر فرحًا. أيتها
الأخت الباردة، يا عشبة الشتاء، فيما
كنتُ أسير، رأيتك تكبرين، أعلى
من أعدائي، وأكثر
خضرة من ذكرياتي. (من
مجموعة الصبَّاحيُّون) ***
*** *** تقديم
وترجمة: هنري فريد صعب *
Paul Veyne, René
Char en ses poèmes. [1]
هؤلاء المُواكبون هم
العمَّال داخل دماغ الشاعر، الذين
يتجسَّسون على الحقيقة ويلحون عليه كي يكتب. [2]
القيم صارت معكوسة:
فالديمومة لها أهمية أكثر من اللحظة
الجديدة. [3]
هذه الفلذة القرمزية هي
الشمس التي تعبر أشعتُها المتمهِّلة إلى
جبين الحبيبة. [4]
لم يعد شاعر الغموض ولا ابن
العتمة تحت نجوم السورغ، مسقط رأسه؛ إنه
الآن مصاب بمرض الضياء السليم. [5]
يتصوَّر نفسه، في وحدته هذه
مع الجمال، كسابح يُميِّز تحته، في عمق
الماء، ظلاً هائلاً. [6]
كلُّ عمل هو أشبه بمحطة،
وكلُّ قصيدة تنطلق هي أشبه بقطار. ويقول شار
في غير مكان، مختصرًا تحقيقات بداياته: "إني
أطوِّف في المحطات." [7]
تحوُّلٌ في مسار القصيدة،
حيث الأبيات تأخذ بالتلاحُق في حمم متفرقة. [8]
الشاعر مولَع بعالم النبات؛
وهذه الصورة من وحي كِمِّ الزهرة، حين
تتفتح مصاريعُه عن الثمرة. [9]
اعتاد الشاعر أن يلجأ إلى
الجبل الأزرق (جبل لوبرون) في مسقط رأسه
للاختلاء بحبيبته في جوفه. [10]
يشعُّ زجاج النوافذ مدة
وجيزة عند غروب الشمس. أما زجاج النافذة
الذي تلوِّح من خلفه الحبيبة فيشع في وجدان
الشاعر أبدًا. [11]
استوحى شار هذا البيت من
مشاهدته العقد الكامل للكوليسيوم في روما. [12]
يطرد الشاعر الآن من فكره
تلك المستبدة في مغامرات سابقة، التي كانت
تستهلكه في بطء كأنها تحلجه حلجًا. [13]
ما يشعر به الآن أشبه بإياب
غطَّاس من مغامرته في الأعماق. [14]
يدعو الشاعر حبيبته الأثيرة
ma pensée.
والكلمة، كما نلاحظ، مؤنثة في الفرنسية،
فيما هي مذكرة في العربية. فتركتها على
تذكيرها، على مثال الشاعر العربي في مخاطبة
الحبيب. [15]
العنقوص حشرة مفترسة تشبه
السرعوفة، تكمن على النبات لاصطياد
الهوام؛ وهي عند اليونانيين القدماء هامة
تمتص الدماء. و"البيت الأخضر" ترجمتي
لـserre
الفرنسية أو greenhouse
الإنكليزية، فيما تضع قواميسنا مقابلها
إما "الدفيئة" وإما "المستنبت".
ولست أدري لماذا المعرِّب الأنكلوفوني لم
ينتبه إلى جمالها في الإنكليزية فينقلها
حرفيًّا إلى العربية من دون تكلُّف. [16]
إنه نَجْد جبل لوبرون حيث اعتاد الشاعر أن
يتردد عليه مع الحبيبة، حيث كلُّ شيء يدعو
إلى السفر مع الأحلام والأوهام. [17]
ينتهي الشاعر إلى قرار
حميم، بعد هذه الرحلة مع الكتابة والعشق،
فيصادق الزمن – هذا العدو الداخلي. وهكذا
يموت الرمل في الساعة الرملية، ويكون
الخلاص. [18]
هم العمَّال داخل دماغه
الذين يواكبونه من دون أن يعرف إلى أين.
|
|
|