|
روائي مرافئ الرحيل: الكتابة متعة أنانية
والأرض مَكْث عابر بين
أسئلة أعددتُها في تأنٍّ قبل اللقاء، وأخرى
راحت تومض من نسيج الأجوبة، وعلى هدي صوت
هادئ، يرحل بمحدِّثه إلى بحار بعيدة، فاتني
أن أسأل جان ماري غوستاف لوكليزيو Jean-Marie Gustave Le Clézio عن المرافئ التي حطَّ فيها ومنها
ترحَّل. فالبحر على شاطئ صفحاته، ولا تكاد
سفينتُه أن ترخي مرساتها حتى تقلع إلى إبحار
آخر على إيقاع أشرعة تتحدى الرياح والسأم،
وعنوانها مرافئ مجهولة، ناسُها غربة،
ولياليها ذكريات مبتورة. كأن
بينه وبين محدِّثه غشاءٌ صمت يفرض على الوافد
إليه احترامَ حميمياته، وتلك العزلة التي
ينسجها الكاتب شرنقةً حول أحلامه. في
كتابه المصادفة، الأخير بين مؤلَّفاته
المتلاصقة على سكَّة زمنية عمرها أربعون
عامًا، عدت مرات إلى العبارة التي دلَّتني
على عنوانه والأسلوب الذي عليَّ تبنِّيه
لأقرع نافذته وأدخُل: كان هاجسه اللحظة الحاضرة، ليعيشها
بلا أمس، بلا غد. كان يسعى إلى نسيان كلِّ شيء.
الواقع ضوء واضح، مشحوذ، مؤلم، ضاغط. شَعَرَ
بتلك القوة المنسابة من سفينته تتغلغل فيه
وتمنحه الحرية. مي منسى *** أنت المبحر دومًا في اتجاه جغرافيات
غريبة، أين جذورك؟ جذوري
من الرحَّل. والدي بريطاني، والدتي فرنسية.
عائلة والدي اغتربت إلى جزيرة موريس في القرن
الثامن عشر. أما أنا فاخترت فرنسا موطنًا.
فيها أكملت دراستي، ورغم أسفاري العديدة،
شتلت جذوري. أكثر من أربعين كتابًا، بين رواية
وقصة وكتب مصوَّرة، أذكر منها عناوين تدل على
محتواها، من محضر رسمي، إلى الطوفان،
فـالحرب فـالحلم المكسيكي – وجميعها
يشي بالشرِّ، بالطغيان، بالظلم والموت. هل
تؤمن أن للكُتب قَدَرًا إصلاحيًّا؟ وهل أنت
رجل خير في كتاباتك؟
رجل
خير؟! إنها كلمة بليغة، فضفاضة. بل أقول إنني
أشعر بفضل الكتابة عليَّ. إنها متعة أنانية
تمنح الكاتب، أولاً، الاكتفاء والرضا،
تثبِّت هويته، تملأ فراغًا ما. بعد ذلك، لا
بدَّ من أن نفكر في الآخرين، وهذا أمر محتوم. كأني أحسست في بعض نصوصك بأن الكتابة
مشروع مصالحة مع العالم... لا
أعتقد أني شعرت يومًا بمعاكسة ما مع العالم.
بيد أني أشعر بمشقَّاتٍ وبضيق، ككلِّ كائن
بشري. أعترف بأن الكتب كانت عزاءً لي في وقت من
الأوقات – من غير ذاك الإحساس بأنها كُتِبَتْ
بغية المصالحة مع الذات أو الآخرين. الشعور
بالرضا يأتي بعد الكتابة، حين يلمس الكاتب
أنه حقق خيرًا ما. الكتابة عبارة عن تبادل
نِعَمٍ وخيرات لما تبذله من تواصل وموسيقى. هل ترى في الكتابة موسيقى، أو تسمع في
كلماتها نغمًا؟ كيف تفسِّر السحر الكامن في
الكلمة، وَقْعًا ومجازًا؟ إنها
موسيقى الكلمة تبلغ السمع أولاً، لأن الكلمة
تستند إلى الذاكرة. لكلِّ كلمة لغة وإيقاع.
إنها العنصر الذي يؤجِّج الذاكرة
والانفعالات والعاطفة، مثل الألم. ذاك الصدى
الذي يواكب الكلمة يُشعِرنا بالحياة في كثافة. هل تمنح الكلمة القَدْر الأكبر من
تفكيرك؟ هل تنبش في تربتها كي تعثر لها على
مفاعيل أعمق تأثيرًا وأقوى كيًّا؟ بكلِّ
تأكيد... لفترة طويلة، كنت أطرح على ورقتي
لائحةً بكلمات مختلفة تهبني لذةً لا توصف حين
أرصفها على صفحاتي. كلمات أسمع رنينها، أتمتع
بشكلها، أكيل أوزانها. إني عاشق كلمة ولغة. وما علاقة الموسيقى التي نسمعها
بالكلمة المرصوفة على ورقة؟ الموسيقى،
كما أتعاطى معها، ليست صوت الكلمة فحسب؛ إنها
سيل تطلقه الذاكرة ويعود إليها. هل ثمة نشيد كوني يتعالى من داخل كاتب
لم يكتفِ بالتيه في بلدان العالم، بل نقله
سَفَرًا وترحالاً إلى كتبه؟ لا
حدود جغرافيةً للكتابة بمادة الأدب. وليس
قَدَرها الذوبان في ما يسمى "الأمَّة".
أقرأ جبران خليل جبران كأني أنتمي إلى ثقافته.
أطالع شعر فينوس خوري غاتا أو صلاح ستيتيِّه
أو قصائد سيزير، وأشعر بقربي منهم، وإن كنت
بعيدًا عن حضارتهم. وليس ضروريًّا كذلك أن
أكون من الميسيسيبي ليتعالى من داخلي صوت
وليم فوكنر وريفيَّته الرعوية وحبُّه للأرض.
هذا "النشيد الكوني" يزيل الحدود
والمسافات والأعراق بين أصحاب الأقلام
والمؤلِّفين الموسيقيين. لعلَّك القائل عن الكاتب: "إن يد
الكاتب ميزان يسجِّل الزلازل." هل يعني ذلك
أن الكاتب رؤيوي يرى الأحداث قبل حصولها؟ اليد
هي العنصر الأقرب إلى نبضات قلب الكاتب بين
كلِّ أعضائه. هي التي تتواصل مع الفكر وتصبح
محرِّكه، فيُمْلي عليها ما تتنبأ به رؤاه
الباطنية من صدمات وكوارث حياتية. تلك اليد
أراها تُسابِق الفكر أحيانًا، تُبالِغ في ما
يمليه عليها بذبذباتها الخاصة. لا أقول إنها
وسيطة بين الفكر والحدث، بل لها خصائصها في
الكتابة. لا أتعاطى مناجاة الأرواح spiritisme،
ولا أؤمن البتة بأن ثمة تواصلاً مع العالم
الآخر بواسطة الكتابة. لكن ثمة رعشات تصدر من
باطن الكاتب تجعله، على نحو غير واعٍ، قابلاً
لتلقِّي أيِّ بلاغ، لقراءة أية ذبذبات،
لتسلُّم رسائل سَها حسُّه الواعي عن اكتشاف
ما توحي به من أحداث مستقبلية. ومرات كثيرة يقوم دورُ الكاتب على
سَرْدِ ما جرى، كأنه يتحسَّب به لأخطار
مستقبلية، كما في كتابك الحلم المكسيكي... أليس
من قبيل المصادفة أن تكتشف حضارتُنا الغربية
اليوم الأفكار الفلسفية والدينية التي كانت
من خصوصيات هنود أمريكا؟ إنسان الغرب كَسَرَ
توازُنًا، منجرفًا في عنف ذاته. وها هو يشعر
بالتزام كبير في إعادة تكوين انسجام الحضارات
التي خرَّبها. القضاء على الشعوب الهندية
أكبر كارثة عرفتْها الإنسانية. فرغم اختبائهم
في الجبال والصحارى والغابات، لا يزالون
يلقِّنوننا الصورة الأوفى لمبادئ الحرية
والتضامن وحلم الحضارات القديمة السابقة على
الغزو الإسباني. الهنود، على ما رويتُ ذلك في الحلم
المكسيكي، ما برحوا حراسًا لـ"أمِّنا
الأرض" ومراقبين لسُنَن الطبيعة ودورة
الزمن. كأننا نقرأ في رواياتك أحداثًا
مألوفة، عادية، في أسلوب سهل... وإذ ثمة خلف
العاديات مغامرات إنسانية، وتيه داخل الذات،
وسعي إلى اللامرئي، إلى المستحيل، كالسعادة
مثلاً. كيف تشق دربك في هذا الموج الهادر؟ أذكر
عبارة قالها سلمان رشدي لصحافي سأله إن كان
كاتبًا واقعيًّا. وكان جواب رشدي أن الواقع
غير موجود وأنه شيء خفي. هكذا الكتابة، تستلزم
من كاتبها السير في الدروب الوعرة، بحثًا عن
واقع خفيٍّ، شبه مستحيل، علمًا أنني لست
كاتبًا ميالاً إلى الكتابة المستغلقة. أحب
الوضوح. ولا يعني ذلك التبسيط، بل الوضوح الذي
يضع قارئًا أمام كاتب من دون أن يحتار في ما
تعنيه عباراته. مثالاً على ذلك، أجد أن مارسيل
بروست من الكتَّاب الواضحين. كَتَبَ في صفاء
المعنى وتركيب الجُّمَل، إذ عالج الواقع
ونَقَلَه إلى قارئه، من غير أن يفلسف أفكاره
ويبالغ في معالجتها. أليس بحثًا عن الزمن الضائع
محاولة ميتافيزيقية أكثر منها واقع حياة؟ أليس
الزمن مادة واقعية؟ الزمن أكثر الأشياء
الوجودية حقيقيةً. لذا من الصعب جدًّا
تقبُّله كمبدأ. يتمنَّى الكائن البشري أن
يكون خالدًا. وقد حاول مارسيل بروست الهرب من
سُنَّة الوقت، ساعيًا في لَمْسِ جوهر الواقع
المطمور في الباطن. كنتَ في الثالثة والعشرين حين كتبتَ محضر
رسمي، وكان له صدى في عالم الأدب… هذه
الرواية كانت لي الباب لأحضر رسميًّا في ساحة
الأدب، ونلت عليها جائزة أدبية. يومئذٍ أحاط
بي الصحافيون باهتمامهم، وبفضل كتاباتهم
اكتسبت شهرة الكاتب والأديب. بين 1963 و1999 لم يتوقف قلمك عن العطاء.
أي تأثير لكتبك القديمة في قارئ اليوم؟ لم
أسأل نفسي يومًا إن كنت أدَّيتُ خدمات ما من
كتاباتي. فأنا لم أبلغ الشيخوخة التي تتقاعد
عن العطاء كي أعيد النظر في الماضي. لكن ما
أشعر به، وأنا أقرأ لكتَّاب آخرين، أن للكتب
رسوليَّتها. يبعث الكاتب بمؤلَّفاته كرسائل
في كلِّ اتجاه، فيتلقَّاها القرَّاء في
حميمية – رسائل هي أحيانًا صرخات استغاثة أو
نداء إلى المشاركة في مزاح ما، لكنها نداء
دومًا. في بعض نصوصك تغلب العبارات المجازية
على المألوف. هل ثمة خلف المعاني المجازية رؤى
أو تنبؤات؟ لا
شكَّ في أن اللغة هي، في المطلق، مجاز؛ ولا
يمكن أن يكون لها وجودٌ خلافًا لذلك. اللغة لا
تدل ولا تتنبأ، بل تستدعي، تستحضر، تذكِّر،
مهما يكن كساؤها شاعريًّا أو واقعيًّا. تعمل
اللغة على نبش المطمور، تطيل مدى الزمن،
تثبِّته، ولعلها تشيِّد زمنًا جديدًا. والحرب؟ هل كنت شاهدًا عليها حين كتبت
عنها؟ ولدت
محوطًا بالحروب. اليوم تكلَّمتُ أمام طلاب
جامعيين في بيروت عن الحرب، منهم أبناء هذه
الفترة السوداء من قَدَرِهم. قلت لهم إني ولدت
في أثناء الحرب، ورأيت بأمِّ العين نتائجها.
عشتها في طفولتي، ولا تزال أصوات القنابل تضج
في داخلي. أحمل هذا الخوف الرهيب باستمرار؛
لذا أفكر دومًا في الذين ولدوا ونشأوا في
أجواء الحرب، ولاسيما اللبنانيون من الشباب
الذين عاشوها في دقائقها. الحرب واقع شرس. لم
تكد طفولتي تفرغ منها حتى بدأتْ مراهقتي
تتفاعل مع حرب أخرى، هي الحرب الكولونيالية،
وكنت معنيًّا بها على جبهتين: فمن ناحيتي
البريطانية، كان البريطانيون يحاربون
ماليزيا؛ ومن ناحيتي الفرنسية كانت فرنسا في
حرب مع الهند الصينية أولاً، ثم الجزائر. أي
أني عشت باستمرار في قلب ضجيج الحروب،
مهدَّدًا بالرحيل، ومقتنعًا بأنها حروب
ظالمة. هذا الواقع هو الذي شقَّ دربًا لقلمي. لا بدَّ من أن يكون لكتاباتك مفعول
إكسيري شاف، لمؤلِّفها على الأقل... أعتقد
ذلك. حين كتبت عن الحروب لم تكن هنالك
مؤلَّفات سبقتْني إلى هذا الموضوع. غير أني
كنت أسعى دومًا في نقل تجارب الطفولة، وتلك
الأجواء من العنف والبلبلة، إلى زمن معاصر
اشتعلتْ فيه أنواعٌ أخرى من العنف والشراسة
المتأجِّجة بالعنصرية، واحتقار الآخر، وكره
الأغراب، والتعسف حيال العامل، وكل تلك
الكوارث الاجتماعية التي صنعت الحياة
العصرية. من وحي أقوالك، أنتقل إلى مفهوم آخر
من الكتابة. فكأنها لا تشفي جرحًا ولا تدمله!
بل على الكاتب أن يحيا بقلمه في قلب التمزقات
لينتج... قطعًا!
فالغاية الأساسية من الكتابة والانطلاق فيها
خلقتْهما تلك الصدمة الكبرى أمام فجيعة العنف. وفي مرحلة ما من حياتك، رُحْتَ تبحث
عن الحضارات القديمة، ومنها كتابك الحلم
المكسيكي. لِمَ نَأَتْ بك المسافات؟ بالنسبة
إليَّ، لم يكن انتقالي إلى المكسيك مغامرة
بعيدة. كنت ممتلئًا بالحضارات الأمريكية–الهندية
منذ طفولتي، إنْ من خلال الأنصاب أو
المنحوتات، وبخاصة ذاك الغموض الذي أحاط بتلك
الحضارات وأخفى معالمها. كنت أهفُّ إلى
الكتابات وإلى كلِّ شيء بصريٍّ متصل بها،
كأنها جزء مني. أعتقد أن البشر – والقول
لجبران – ليسوا عناصر مجتزأة، منفردة، بل
يشكِّلون فيما بينهم وحدةً مع كلِّ ما يحوطهم
في هذا العالم. كلُّ كائن حيٍّ يحمل شيئًا من
الآخرين. هذا الأمر كان ناقصًا لدى هنود
المكسيك. ذاك الصمت... ذاك الصمت الرهيب. لم يَشِ أحد بهذا الصمت مثلك أو من
بعدك؟ هناك
شاعرة معاصرة من أصل أمريهندي تعيش في كندا.
إنها من قبيلة الجبليين المقيمين في الغابات.
حَكَتْ عن هذا الصمت الذي يعصف بالضمائر،
والذي ارتفع جدارًا عاليًا حول الشعب
الأمريهندي. كم أقمتَ هناك؟ من
1967 إلى 1995. عشرون سنة متواصلة، إلى أسفار
متلاحقة. وكم أثَّرتْ هذه الإقامة الطويلة في
أدبك؟ كثيرًا...
ولا أشير هنا إلى تأثرات من الأدب المكسيكي
المشغول بأقلام مؤلِّفين رائعين، بل إلى حياة
الناس وتفاعلهم معها، إلى الطريقة التي
يعبِّرون بها في كلِّ ما يقومون به، وفي
سَرْدِهم أحداثًا جَرَتْ، وفي علاقاتهم
بعضهم مع بعض، وفي اختصار، في يوميات الحياة. وفي كلِّ عودة لك كنت تصطدم بجدار
الصمت إزاء حضارتهم الفانية. ألم تشعر بضيق؟ لو
شعرت بذلك لما عدت. لِمَ غادرت المكسيك، إذن، بعد عشرين
عامًا من السعي إلى الانتماء؟ بل
دفعني إلى الرحيل شعوري بمضايقتهم. كان صعبًا
جدًّا أن أنتمي إلى أرض المكسيك وأن أمتزج
بالنسيج المكسيكي. نحن مختلفان جدًّا. شعرت
بعجز سعيي في التقارب من المكسيكيين. فأنا
مدموغ بثقافة أوروبية تطبَّعت بحضارة
إكزوتية من الأرض الموريسية التي انتميت
إليها في أعوام الاغتراب. كأن ثمة استحالة أن تذوب حضارتان
الواحدة في الأخرى؟ بل
هو الشعور الحميم بأنني أضحيت عنصر مضايقة
وإزعاج. ومن هذا الإحساس رحت أتنقَّل في أراضي
المكسيك الشاسعة. فمن مكسيكو إلى يوكاتان؛ ثم
عشت فترة في باناما، عدت بعدها إلى المكسيك،
حيث أقمت اثنتي عشرة سنة في ولاية أناهواك.
وفي كلِّ مرة كنت أعِدُ نفسي بأنها الأرض التي
اخترتها نهائيًّا للعيش والاستقرار، من دون
أن يعاودني هاجس الرحيل. كأنك غجري، بيتك الدروب والمغامرات… قد
أكون من فصيلة الرحَّل، وفي حاجة ملحة إلى
غَرْسِ جذوري بعيدًا. كالطيور المهاجرة؟ بل
كالطيور العابرة. الأرض إقامة ومكوث عابران.
سرعان ما تناديني البحار إلى الرحيل. قال نقَّاد عن أسلوبك إنه ينتسب إلى
فكر ما قبل سقراط، وإلى لوتريامون، وميشو،
ويدور حول نظامين: التناسل والكنية، العدوان
والبقاء، مأساة الحياة والظلال التي ترميها
الكتابة. سؤالي لكَ يختلف: ما علاقتك بالمسيح؟ علاقة
صعبة، عسيرة. كان في استطاعتي أن أردِّد ما
قاله هنري ميشو: "أحببت المسيح حبًّا يوازي
حبِّي للشاعر الصوفي هِلِّل." ابتعدت عن
الإيمان، لا بسبب المسيح، بل بسبب الحياة
الاجتماعية والمهنية التي أبعدتْني عن
الدين، فلم يبقَ المسيح قلقي وحاجتي. قرأت
حديثًا كتابًا للشاعر جان غروجان عنوانه السخرية
المتزهدة، وهي بحث في الأناجيل. إنها قراءة
حقيقية في كلٍّ من الأناجيل الأربعة، على ضوء
فلسفة مختلفة تمامًا عما قرأناه ودرسناه إلى
اليوم. لم يصوِّر المسيح كائنًا لطيفًا،
عذبًا رحومًا، بل صوَّره عنيفًا ساخرًا في
المعنى اليوناني للسخرية التي تضع المرء أمام
حقيقته. هنا أشعر بقربى إلى المسيح أشد
وبانتساب معاصر له. أدهشني في المكسيك تعبُّد
المكسيكيين ليسوع الملك. الثورة المكسيكية
شُنَّتْ ضدَّ الفلاحين. كما في فرنسا، كانت
تلك الثورة دينية. في العام 1928 انفجرت في
المكسيك حرب الـCristeros،
الأُمَناء ليسوع الملك. هذا التاريخ حرَّكني
وأطلعني على روح الإنسان الملتزم بدينه
وبمسيحه. صديق لي اهتم بتلك الحرب، وكَتَبَها
بفظاظتها وقسوتها، وترك لمن أتى بعده شهادات
تاريخية ثمينة. لمستُ من حديثك أنك تقرأ لسواك من
الكتَّاب. من هم المفضَّلون لديك؟ أجيبكِ
فورًا بأنني سعدت بقراءة القوة والمجد
لغراهام غرين. كَتَبَ عن حرب مغمورة فريدة،
مِحْوَرُها المجتمع الفلاحي المكسيكي الذي
ضربتْه في قسوة السلطةُ المركزية الماركسية،
وكانت حربًا غير متكافئة وضعت الـCristeros
في مواجهة مع السلطة. والرمز هو التمثال
الكبير ليسوع الملك الذي شاهدتُ في لبنان
مثيله على الطريق الساحلية، ضاحية بيروت. هل انقشعتْ كتاباتك مع مرور الزمن، أم
لا تزال في نفقها الأسود؟ لم
اشعر بأني مؤلِّف قاتم. كنت أشعر أحيانًا
بفقدان بعض توازني، وأنا في حالات نفسية
صعبة، أترجمها في كتاباتي. الآتي إليك للمرة الأولى يقف عند حدود
تفصله عنك، كأنك اخترت السكن في منطقة
محرَّمة... لعلِّي
بنيت تلك الحدود مرغمًا. أحزن حين يقال لي ذلك.
فأنا لا أبغي بناء حواجز بيني وبين الآخرين.
ربما لذلك أكتب، وبسبب من ذاك الضيق الذي
يأسرني، أؤلِّف قصصًا لأزيله. في كتابك الهرب تكلَّمت على تقنية
حرة، على إضافات... لا
بدَّ من أن تومض أفكار ونحن على سكة التطور في
ما نكتبه. في هذه الفترة خَطَرَ في بالي أن
أفجِّر الرواية، فلا تكون لها حدود من بداية
ونهاية، ولا تحمل آثارًا من كتَّاب آخرين، من
فقرات من أفكارهم. الهرب ليست إضافات، بل
تركيب من مواد مختلفة. في تلك الآونة كنت أشعر
بحال من اللااستقرار، وكانت خشبة خلاصي
الوحيدة حقيقتي. هل تشعر بأن التوق إلى الحياة مغامرة؟ بالطبع...
بالطبع. إنه قول صحيح. أحيانًا تكون المغامرة
جميلة، وأحيانًا أخرى حزينة، قاسية. شخصيات كتبك هاجسُها الترحال والموت.
ما هذا الشعار في العيش الذي يسكن الإنسان؟ يا
له من بُعْد جوهري! فحتى المجتمعات المستقرة،
ذات المصير المضمون، المحميَّة من المتاعب
الاقتصادية، تعاني الخوف الدائم، الخوف من
السقوط والانزلاق. ولا أتكلم على الموت.
فالموت ليس هاجسًا. إنه أمر بديهي. يكفي أن
نطلَّ على الحياة كي تبدأ المغامرة، والموت
في محاذاتنا. وبقدر ما نحس به في جوارنا تسقط
منه مظاهره الدرامية. ومن كتبك الأرض المجهولة، فيه
تبدو كأنك مضيت فيه على خطى الأمير الصغير
لسانت إكزوبيري... في
الحقيقة وددتُ أن أجعل من هذا الكتاب عملاً
للأطفال، كما فعل سانت إكزوبيري في تحفته. لكن
ما حصل هو كتاب مصوَّر بدأ ببعض الأفكار،
كدفتر سفر، ورسوم أحوط بها تدويناتي، لأني
أحب الرسم وأحب الأطفال أيضًا. بفضلهم احتفظت
بنظرة بريئة إلى العالم المحيط بي. أي كتاب قرأت في فتوَّتك وترك أثرًا
فيك؟ حياة
لغي دو موباسان. كتاب معتم، أسود؛ لكني لم
أقرأه في سوداويَّته. إنه قصة امرأة مظلومة،
محتقَرة، مهانة. ولم أكن حتى ذاك قد اختبرت
قَدَرَ النساء على هذا النحو. فوالدتي كانت
موسيقية مرهفة، ووالدي طبيبًا رسالته معالجة
المرضى في الأماكن الصعبة؛ كان "طبيبًا بلا
حدود"، قبل أن تولد هذه الحركة. في أية سنٍّ شعرت بانجذاب إلى المرأة؟ الرعشة
الأولى حصلتْ مع هذا الكتاب لغي دو موباسان.
اضطربتُ حيال هذه القوة الشهوانية التي
وَصَفَها، وذاك الشبق الذي يرشح من رجل قصته. هل تحرِّك الكتب بنظرك اضطراباتنا
الأولى؟ مرارًا.
الكتب كانت من بين الأسباب التي عرَّفتني إلى
الحياة وطبائع شخصياتها. لكن الكاتب الذي ترك
الأثر الكبير فيَّ هو رامبو، بشعره وحياته. ثم
ركَّزت اهتمامي على كتاب فخ للقلب
الروائي الأمريكي جيروم سالنجر. هذا الكتاب
أصبح كتاب وسادتي ككتب الصلاة؛ فهو يصوِّر
ضيق العيش في الزمن الحديث. وبين كتبك، أيها الأثير لديك؟ كلُّها.
أحبها كأولادي، وأخشى، في آنٍ واحد، إعادة
قراءتها. أبقيتُ منها ذكريات... إنها جزء منِّي. *** *** *** قابلتْه:
مي منسى عن
النهار، الثلثاء 27 تشرين الثاني 2001
|
|
|