الأدب بين الذات والموضوع

 

محاسن الجندي

 

إحدى مزايا الجوهر الإنساني عدم مُوادَعة أولئك الذين يعتبرون ظلم الإنسان للإنسان مبدأ راسخًا في حياتهم، وعدم الرضوخ لأولئك الذين يدافعون عن الظلم الاجتماعي ويبذرون البؤس بين ملايين البشر.

ولعل أكثر مَن يتمتع بمزية تحسُّس ذلك الجوهر هو الإنسان المبدع – أديبًا كان أم فنانًا أم مخترعًا. إنه الأقدر على إزاحة حدود الزمن، بما يحمله من طاقة داخلية يبثُّها في أعماله الإبداعية لتؤثر في الكثيرين من حوله، وتؤثر أيضًا في أجيال المستقبل.

إذًا فالأدب يحمل موقف الكاتب من حركة الحياة ونبض الواقع، باعتبارهما أساسًا للحياة البشرية ومصدرًا للإبداع. والأدب، بهذا المعنى، حوار حي ومتواصل بين الكاتب والعالم. فالواقع ثري – أثرى من مخيِّلة الإنسان – واسع ومتعدِّد الأشكال، مليء بالمتناقضات.

إن عمل الأديب الفردي الذاتي ليس إكمالاً وإتمامًا للموضوع، ليس تابلاً شهيًّا يضيف شيئًا أكثر جوهرية. كتب دوستويفسكي:

ليس مطلوبًا من الفنان الصدقُ الفوتوغرافي أو الدقة الميكانيكية، بل شيء آخر أوسع وأعمق. الدقة والصدق ضروريان ومهمان؛ إلا أنهما مجرد مادة يُخلَق العمل الأدبي منها فيما بعد. المطلوب منه أن يرى لا كما ترى العدسة الفوتوغرافية وإنما كإنسان.

إذًا فواقعية المبدع لا تنفي ذاتيته؛ فالأدب، في النهاية، هو الواقع كما يراه الكاتب.

هناك حضور دائم للذات التي ترى، تحاكم، تتخذ موقفًا. وهذا لا يعني أن هناك تعارضًا إلغائيًّا بين الواقع والذات. فالذات واقع داخلي أصغر من الواقع الخارجي؛ وهذا رافد آخر لواقعية الأدب التي تأتي من مصدرين:

1.    الخارج الثري اللامتناهي؛ و

2.    الداخلي: الواقع الأصغر الذي لا يقل ثراء.

وبين الواقعين تكمن تلك الوحدة الجدلية الحية.

هذه الحدود الثلاثة – الواقع، الذات، والعلاقة بينهما – هي الأقانيم الثلاثة لكلِّ الفاعلية البشرية – والأدب أحد وجوهها. فلولا التحام فان غوخ بتلك الطبيعة فائقة الجمال لما رأينا تلك الحقول الملتهبة بالضياء في لوحاته؛ ولولا اشتراك تولستوي في الدفاع عن سيفاستوبل لما استمتعنا بعمله الرائع الحرب والسلم؛ ولولا نفي دوستويفسكي إلى شمال روسيا ومعاناته في السجن لما ولدت روايتُه ذكريات من بيت الموتى؛ ولولا ذهاب إرنست همنغواي إلى مجاهل أفريقيا وتجواله في أنحاء العالم لما قرأنا رائعته ثلوج كليمنجارو؛ ولو لم يشتغل أستروفسكي في محكمة موسكو لما تزوَّد بذخيرة هائلة، جسَّدها فنيًّا في عدد من مسرحياته؛ إلخ.

سأملأ العديد من الصفحات لو مضيت في تعداد الأمثلة الكثيرة الموجودة في تاريخ الأدب. من هنا سوف أتعرَّض لذكر بعض النظريات التي وصفت عملية الإبداع: أولاها نظرية فرويد التي انتشرت انتشارًا واسعًا، ومفادها أن العمل الفني (أو الأدبي على حدٍّ سواء) هو وليد ميدان اللاوعي في الذهن البشري، وأنه يظهر تحت ضغط التكوين الجنسي وتأثيره؛ أو بمعنى آخر، هو عملية التسامي أو التصعيد للسلوك الجنسي عند الفرد. ففرويد يؤكد على الصفة الفردانية للعملية الإبداعية. ولكن، هل يمكن أن نقزِّم روايات دوستويفسكي (الجريمة والعقاب، الأخوة كارامازوف، الشياطين، الأبله)، لتكون فقط تصعيدًا للطاقة الجنسية عند ذلك العبقري؟!

ثم يأتي بعده كارل يونغ ليصحِّح قليلاً في هذا الصدد، لكنه يبقى في نفس البوتقة حول تهميش دور المبدع الحقيقي في التخيل الأدبي وتلك العملية الجدلية بينه وبين الواقع. إذًا الفنان أو الأديب، في رأيه، ليس فنانًا موهوبًا يتمتع بإرادة حرة وعقل متميز، بل هو مجرد كائن بشري معبِّر عن حياة البشر البسيكولوجية اللاواعية عبر لاوعيه الجمعي. وتراكُم الخبرة البشرية في الذهن البشري هو، بنظره، مجرد دالَّة على تلك القوة الروحية التي وجدت تعبيرًا لها في الإبداعات التي تحمل اسم المبدع فقط – وكأن الفنان، في هذه الحالة، مجرد "قابلة" سُخِّرَتْ لاستيلاد الأعمال الفنية؛ أو هو قَدَر الكاتب أو الشاعر أو الفنان الذي يحدد تطوره النفساني والإبداعي بهذا المعنى الذي أراده يونغ.

فموسيقى موتسارت تعيش في روح كلِّ نمساوي، وقد ساعدها موتسارت على الولادة؛ وإبداعات فكتور هوغو موجودة في أذهان الشعب الفرنسي ككل، وساعدها ذلك الأديب العظيم على الوجود؛ وأيضًا نفهم من ذلك أن غوته لم يخلق فاوست، بل إن فاوست هو الذي خلق غوته، مادام موجودًا في لاوعي كلِّ ألماني؛ وبذلك يكون هذا العالِم النفسي قد قدَّم ذلك المبدع الخالق كضحية للاعقلاني وللعشوائية القَدَرية.

إنما هاتان النظريتان ليستا الوحيدتين. فهناك، مثلاً، تلك الظاهرة التي عُرِفَتْ بفنِّ العبث والتي حاولت تجريد المبدع من الصفات الخاصة، ومن خصوصية رؤيته التي تجد في الواقع الثري أكثر مما ينبغي، ومن قدرته على التخيل والقبض على ما هو غير مادي في الواقع. هؤلاء العبثيون أيقنوا أنهم اكتشفوا جوهر العالم عندما يؤكدون أن الحياة عبثية absurd، وأنها مجرَّد فوضى، ومجرَّدة من أيِّ مغزى، وأن المبدأ الوحيد الذي يحدِّدها هو الموت. من أمثال هؤلاء يونيسكو وبكِّيت. فإبحار هذين في الميتافيزيقا أفقَدَهما تلك القوة الحقيقية التي تنمو وتزدهر على أساس العلاقة الوثيقة بالواقع والاهتمام بالظواهر الاجتماعية. يقول إيفان فرانكو:

فليكن في العملية الإبداعية أكثر ما يمكن من الدم الحي والأعصاب. عندئذٍ فقط سيكون العمل حيًّا ومعاصرًا ومليئًا بالمشاعر الإنسانية الأكثر حرارة ودينامية.

وسوف ينتج عن ذلك التواصُلُ بين المبدع والمتلقِّي. وقد كان تولستوي على حق حين كتب بهذا الخصوص:

إن الفن واحدة من وسائل اتصال الناس فيما بينهم. إن كلَّ عمل فني يجعل الإنسان المستقبِل [المتلقِّي] يدخل في اتصال مع مَن أبدع أو يبدع فنًّا، ومع أولئك الذين فهموا، أو سيفهمون فيما بعد، انطباعه الفني. فالصلات بالقارئ أو المتلقِّي في نظر الأديب أو الفنان الأصيل هدفُ إبداعه ومغزاه. فالصفة الملازمة للإبداع هي التوجُّه الثابت والأكيد إلى المتلقِّي والآخذ في الحسبان القيم الفنية العالية.

ويقول رومان رولان:

إنني لا أستطيع الفصل بين سؤالَي "لماذا؟" و"من أجل مَن أكتب؟". لقد كان نشاطي دائمًا، وفي جميع الأحوال، ديناميًّا. كتبت من أجل أولئك الذين يسيرون إلى الأمام، لأنني بالذات أسير دائمًا إلى الأمام؛ ولو لم تكن الحياة تعني لي الحركة إلى الأمام بالطبع لكانت بالنسبة لي لاشيء.

إن سعي الكاتب إلى العثور على وسيلة تواصُل مع القرَّاء لا يعني على الإطلاق الاستجابة إلى أذواقهم المختلفة، الجمالية منها أم الفكرية، بل يجب إقناعهم بصدق فهمه للحياة وبصدق أفكاره بالقدر الذي يستطيع فيه شَحْنَهم بالأفكار وبالمشاعر الإنسانية الراقية. بيد أننا نتساءل هنا فيما إذا كان الاحتكاك الحي بالعصر ومشاركة الكاتب في تيارات اجتماعية تعيق فهم الأجيال القادمة لمؤلَّفاته وتُبعِده عن الأبدي.

المعروف أن كثرة من الكتَّاب يتوجَّهون في إبداعاتهم ومؤلَّفاتهم إلى المواضيع الأبدية حصرًا، لكنها لم تنجُ أبدًا من النسيان الكامل والسريع. فأولئك الذين، في طريق بحثهم عن الأبدي، ينعزلون عن حياة الإنسان، بطموحاته ومشاعره وأفكاره وآلامه، يفقدون شيئًا جوهريًّا. إنه الخطر الحقيقي الذي يهدد المبدع، ألا وهو اللامبالاة بالحياة وبالإنسان في علاقتهما الراهنة. فمَن كان لامباليًا بالراهن، بالقريب، سوف يكون غريبًا أيضًا عمَّا هو بعيد. كما أنه ما من شكٍّ أن المبدع لن يكون ناجحًا وآسرًا إذا هو اعتبر الآني صفة جذرية للعالم، إذا هو لم يكشف عن مسارات الحياة العميقة وجوهرها وعظمتها.

لن ننسى أبدًا الإلياذة، ودون كيخوتي ثربانتس، وشخصيات شكسبير، وروائع دوستويفسكي وتولستوي، وبؤساء فكتور هوغو، وزوربا كازانتزاكيس؛ فهذه الروايات بشخصياتها تكاد أن تصبح من المطلقات. يقول سارتر:

إن التعطش إلى المطلق يعيش في قلب كلِّ بشري. ولكن هل من الضروري أن نبحث عن المطلق في البعيد وحسب؟ إنه بجانبنا، فيما بيننا. نحن أنفسنا نخلق المطلقات؛ ولأن مشاعرنا وأفعالنا موجودة فهي تمتلك هذه الميزة. وبهذا المعنى فإن الزمن أيضًا مطلق – تلك المرحلة التاريخية التي نعيش فيها الزمن، بعلاقاته الإنسانية الحقيقية، بتناقضاته أو طموحاته. ولكن العصر يتبدل، وتصبح واضحةً ونسبيةً طموحاتُ المرحلة التاريخية العابرة؛ لكن مؤلَّفات المبدع تحمل في ذاتها حقيقة زمانها المطلقة. يجب علينا أن نكتب من أجل زماننا كما فعل الكتَّاب العظام.

إن حقيقة القوى التواصُلية في مؤلَّفات الأدباء العظام هي نتيجة لغوصهم العميق في حياة عصرهم والتحامهم بقضاياه؛ وهي تُعتبَر مقدمة حقيقية لتوجُّههم إلى الأجيال المقبلة.

إن التميز النوعي للأديب الموهوب يرتبط ارتباطًا متينًا بالقوة التعميمية للشخصيات الفنية نفسها التي ترسِّخ الملامح النموذجية لظواهر محددة من الواقع، وأيضًا للطِّباع البشرية وللمعاناة الإنسانية. فدون كيخوتي ثربانتس، وهاملت شكسبير، وآنا كارينينا تولستوي، وجان فالجان هوغو، والأب غوريو بلزاك، وسي السيد نجيب محفوظ، ومدام بوفاري فلوبير، وراسكولنكوف دوستويفسكي – هذه الشخصيات جميعًا التي خلقها خيالُ هؤلاء المبدعين تكشف عن مزايا الطِّباع البشرية التي تظهر في مراحل متعددة من تطور المجتمع الإنساني، كما وتعكس، في تناقضاتها وسيرورة حياتها، السمات الاجتماعية والسياسية لعصرها. وهنا بالضبط تكمن قيمتها الجمالية الكبرى والتحامها اللصيق بالأبدي، الذي لا ينفصل مطلقًا عن الآني عند الكاتب العظيم والمبدع الكبير.

وهنا يجدر القول إن رحابة المادة الحية التي يستوعبها الكاتب بتجربته الروحية، وذلك الإحساس العميق بالواقع الذي يتيح له أن يشعر ويرى في الصغير والعادي انعكاسًا لما هو عظيم وغير عادي، وتأثير الحياة بكاملها على شخصيته بطُرُق معقدة، تمارس بالغ الأثر عليه وعلى نواياه الفنية وعلى القربى الداخلية من ظواهر مجتمعه ومشاكله. فهذه العوامل هي قوام الاتقاد الداخلي الذي يتعذر الخلق والإبداع من دونه. إنه تلك العملية الجدلية التي تخلق للمبدع خصوصيته وتفرُّده وذاتيَّته الإبداعية؛ إنها تعكس التفاعل بينه وبين العلاقات الاجتماعية وأحداث عصره التي تحيط به عن كَثَب. إن المبدع يعكس المسارات الحياتية الاجتماعية العميقة، في الوقت الذي يظل فيه ذاتًا ساطعة لا تتكرر – يظل هو نفسه.

يقول برتولد بريخت:

إن الواقعية لا تتميز بضيق النظرات، بل على العكس، بسعتها. إذ إن الواقع واسع في حدِّ ذاته. وهناك وسائل كثيرة لقول الحقيقة وأساليب كثيرة لإخفائها.

ويقول ك. فيدين:

إن الواقعية، في معظم الحالات، ما هي إلا نقطة استناد للقوة التي نسميها الخيال.

ويقول باوستوفسكي عن التخيل الإبداعي:

لقد خلق الخيال قانون الجاذبية، وقصة تريستان وإيزولده، وتحطيم الذرة، والنور الكهربائي والراديو، ونظرية النسبية، وروميو وجولييت، ولوحة تيسيان الخريف الذهبي.

فالفكر الإنساني من دون خيال عقيم، بمقدار ما الخيال عقيم من دون الواقع.

وأخيرًا، فإن طرحي هذا لا يتضمن الكشف عن جميع ميزات الذات الإبداعية، بل أشرت فقط إلى بعض ملامحها الأساسية كما بدت لي. أردت أن أسلِّط الضوء على ذات الكاتب الإبداعية في علاقتها مع العالم أو الواقع وتجسيدها له في حاجات المجتمع وطموحاته وصيرورته نحو الأرقى والأفضل للإنسانية.

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود