|
أذنا
القمر في
قديم الزمان، في مدينة تدعى اللاذقية، كانت
الطمأنينة والسلام يرفرفان فوق كلِّ مكان،
دون أن يحسب أحدٌ حسابًا للمكائد والخداع.
فالخير كثير وفي متناول الجميع. كان الناس
يأكلون الفاكهة التي تُثقِل غصون الأشجار،
ويقيمون الاحتفالات عندما تينع الكروم،
ويرقصون حول النَّار، ممسكين بعضهم بأيدي بعض
على شكل دبكة، ويغنُّون المواويل. الرِّجال
يحتذون جزمات طويلة سوداء، ويلبسون سراويل
منفوخة عند الرُّكَب، وفوقها قمصان بيضاء.
أما النساء، فكنَّ يلبسن الفساتين الضيقة
الخصر، الواسعة عند الورك، طويلة تصل حتى
الأرض، ويربطن أوشحة مذهَّبة على شعورهن
الطويلة. كانت موائدهم عامرة
بالطيِّبات من النباتات، التي كانت
تُنضِجُها النار وتحيلها طعامًا مريئًا
شهيًّا. ولم تبخل الطبيعة باللبن ولا بالشهد
الذي يفوح بأريج الزعتر البري، يخفق قلبُها
فرحًا على وَقْعِ أقدام أصدقائها البشر، تجود
بغذائها الشهيِّ الذي يغطِّي الموائد، دون
حاجة إلى ذبح الحيوانات. كانت الطيور تحلِّق في
الأجواء دون أن تهدِّدها الأخطار. فلم يعرف
الناس صناعة الأسلحة لعدم حاجتهم إليها. فترى
الأرنب البري يعدو بين الأعشاب بلا خوف. ولم
يكن السمك يسقط ضحية بريئة للطُّعم الملقى
إليه، فيعلق بالشصِّ، لأنَّ البشر كانوا
يسبحون مع الأسماك كأصدقاء. كما أن الأمواج لم
تكن تخاف الاقتراب من الشاطئ بقوة واندفاع،
فتداعب دواليب الأطفال، تسرقهم حينًا،
تردُّهم أحايين، تعلِّم الأطفال لعبة الصمود
في وجهها دون الوقوع في الماء. وعندما يقع أحد
الأطفال، يأتي دور الذي يليه، وهكذا دواليك،
حتى يعمَّ الفرح الشاطئ كلَّه. وفي يوم من الأيام، أراد شاب
غني جدًّا، يدعى فياض، الزواج من ابنة شيخ
كبير، تدعى نور، وذلك كصفقة ليضاعف ثروته.
وكان شرط أبيها للقبول بهذا الزواج هو الحصول
على أكبر محصول في البلد، ليبيعه إلى البلدان
الأخرى المجاورة على بواخر كبيرة حديثة الصنع. وبعد عناء دام شهورًا
وشهورًا، حُرِثَتْ أراضي فياض بعناية فائقة
ورُمِيَت البذور. وفجأة، أتت التيوس البرية
واقتلعت الغراس الفتية من التربة بقرونها
المدبَّبة، هادمة بذلك الآمال المعقودة على
الحصاد، فتأجَّل بذلك زواج فياض الطامع بابنة
الشيخ الكبير، نور، وبأموالها إلى أجل غير
مسمَّى، فجافاه النوم، وانقطع عن الطَّعام
أيامًا وأيامًا. ثم قرَّر الانتقام لآماله
الخائبة من الحيوانات كلِّها. شنَّ فياض حربًا ضروسًا على
الحيوانات. وكانت التيوس البرية أولى
الحيوانات التي نُحِرَتْ استحقاقًا للموت.
فحوَّل الأنهار إلى مجارٍ للدماء، بعد أن ذبح
أيضًا النِّعاج الوادعة التي لم تُخلَق إلا
لنفع البشر. ففي ضروعها شراب كانت تقتات به
البلاد، وعلى ظهورها أصواف تُنسَج منها ثيابٌ
حانية. فنفعُها له وللبلاد حيَّةً أكثر من
نفعها له ميْتة. ولكن كيف يكبح جماح غضبه؟ كيف
لا ينتقم ممَّن سرق منه سعادته وجنَّته التي
كان يحلم بالسطو عليها؟ وما أشقى الثور الذي لم يعرف
الخديعة والمكر ولا الأذى! فقد ولد قويًّا
ليحتمل أشقَّ الأعباء، ويحرث الحقول بكلِّ
صبر. لكن فياضًا لم يرضَ بما يعطيه من فوائد،
فهوى بالساطور على ذلك العنق المكدود في
خدمته وفي حَرْث الأرض الصلبة لإنبات الحصاد
بعد الحصاد، وصار يبيع البعض من الثيران
حيًّا إلى إسبانيا من أجل المتعة. فقد كان أهل
تلك المناطق يتمتَّعون بأمزجة غريبة، يحبون
مُعاركة الثيران، فيغرزون الرماح في جسم
الثور المتألِّم، معتقدين أنهم أبطال،
ويلوِّحون في وجهه بأقمشة قرمزية كي يثيروه،
فيعدو وراءهم جاهلاً ألاعيبهم وآثامهم التي
تتكلَّل بأكاليل الغار وبالمتعة المحرَّمة
والأموال والضحكات والصرخات ونزف الدماء. وكان كوكب ديانا – أي القمر
– يتألق في الليل، فتلتمع دموعُه حزنًا على
الأرض وعلى حقد فياض الذي حوَّل الدنيا إلى
دماء مسفوكة. كان هذا الكوكب لا يبقى على صورة
واحدة، بل يتغير حجمه من ليلة إلى أخرى، إذ
يكبر كلَّ يوم وهو في طريقه إلى الاكتمال، ثم
يصغر كلَّ يوم وهو في طريقه إلى الاختفاء.
فتساءل كوكب ديانا: هل ستتغيَّر أعماق فياض
كما أتغيَّر أنا؟ لم يكن فياض يعلم أن أجسامنا
نفسها تتغيَّر كالقمر، ولا تكون في الغد مثل
ما كانت عليه بالأمس، ولا مثل ما هي عليه
اليوم. لقد كان ذات يوم في رحم أمِّه نطفة تأمل
بإنسان مكتمل، يحب الكون. فتناولتْه يَدُ
الطبيعة وأمدَّتْه بالعون. لم تشأ أن يبقى
سجينًا في رحم الأمِّ الضيقة، حيث لا يستطيع
فيها حراكًا، فدفعتْ به إلى الهواء الطلق.
وحين خرج الطفل إلى النور لأول مرة بقى
مستلقيًا لا حول له ولا قوة، ثم بدأ يحبو
زاحفًا على يديه وقدميه كالقطَّة. ورويدًا
رويدًا، انتصب على ساقين مرتجفتين لا تثبتان.
وقد اعتمد كثيرًا في البداية على أمِّه
لتسنده، ثم ما لبث أن صار قويًّا سريع الحركة
والعدو، يمرُّ بمراحل الشباب ويبلغ سنوات
الرجولة. (وقد قيل إن الإنسان آنذاك لم يكن
يشيخ أبدًا. فقد كان يعمِّر آلاف السنين دون
أن يموت.) ولما بدأ فياض في قتل
الحيوانات، دخل الإنسان مرحلة الانزلاق على
منحدر الشيخوخة. وهكذا تجرَّد فياض من قوَّته
التي كان يعتز بها، وصار عجوزًا تقرقع عظامُه
من شدَّة التعب، بعد أن ترك ميراثًا هائلاً من
الأحزان لوَّثت الأرض والماء والهواء. وفي الوقت المحدَّد، قرَّر
القمر أن يتدخل – ولو لمرة واحدة – في حياة
البشر. فقد استاء القمر من ابن أخي فياض
الصغير– واسمه سودان (فقد ولد داكن اللون،
ولهذا سمَّتْه أمُّه سودان) – الذي بدأ يكبر،
آخذًا طباع عمِّه فياض. لم يكن يعجبه شيء على
الإطلاق: فإن كانت الشمس قوية، اعترض وقال:
"أفٍّ، الحرُّ شديد!" وإن هطلت الأمطار،
انزعج لأن رأسه قد تبلَّل. وإن عصف الهواء،
لعن الغبار وشتمه لأنه لم يعد قادرًا على
النظر بعينيه. وإن هبطت الثلوج، زَعَمَ أن
أوصاله تجمَّدتْ من البرد. وإن أتى الربيع،
ملَّ ألوان الورود، فداسها بقدميه. كما أنه
كان ينزعج من أصوات الطيور، فيصطادها لإنهاء
حياتها. حتى القطط كان يقتلها بشراسة دون أن
يصغي إلى توسلاتها، ويسجن اليمامات دون أن
يطلقها في الهواء لحظة، حتَّى ضمرتْ أجنحتُها
ونسيت الطيران. مما أدَّى إلى تكاثُر الناموس
والحشرات والديدان تكاثُرًا مريعًا. وكذلك
تكاثرت الفئران في البيوت والشوارع والحدائق. في كلِّ صباح، كان الحي
يستفيق على صوت أمٍّ لا تنفكُّ تتوسَّل إلى
ابنها: -
سودان،
سودان، سودان، اترك الحيوانات تعيش بسلام! لكن أحدًا لن يسمع جوابًا.
فاستغرب أهل الحي هذه القصة، وصار الجميع
يتساءلون: لم لا يردُّ سودان؟ البعض قال إنه أطرش. البعض
الآخر قال إنه مشاكس كبير، وهو لا يرى الأشياء
من حوله، إلا ليكسرها أو يصطادها أو يقتلها.
والبعض الثالث أكَّد أنه مجنون، أو أن
العفاريت قد تلبَّست روحه. فسودان لا تدمع
عيناه أبدًا، لا يشعر بفرح أو بحزن، حتى إنه
يجهل ما هي العواطف. أمُّه تعمل في الحقول منذ
الصباح الباكر، ولا تعود حتى المساء، فلا
يمدُّ إليها يد العون أبدًا. وهي عاجزة تمامًا
عن رَدْعِه كي لا يسيء إليها وإلى الغابات. جلست الأم حزينة تفكر: كيف
تجعل ابنها يحب الأشياء؟ كيف تجعله يبتسم أو
يضحك؟ فسودان لا يعرف أن يضحك أبدًا، لأن
العواطف هربت منه إلى جبال بعيدة، تقبع هاجعة
في مغارة عميقة تحت الأرض، تخاف أن تطلع إلى
النور. وزادت تجاعيد جبينه ووجهه، مع أنه
مازال فتيًّا. فقد كان سودان يعتقد أن قوَّته
تكمن في كبت أحزانه وأفراحه، وأن الضعفاء فقط
هم الذين يضحكون ويبكون، ويعبِّرون عن
مخاوفهم. أما الأقوياء الشجعان، فلا يعرفون
معنى لبسمة أو دمعة. دخلت الأم غرفتها بعد أن
جمعت أعواد القرفة والناردين الطيب الرائحة
وكمشة من أعواد الكافور المختلط بالمرِّ
البري، وأحرقتْها كي تصلِّي وسط جوٍّ من
العطور العبقة، ترجو القمر أن يساعدها في ردع
ابنها. في الصباح الباكر، استيقظ
سودان متلمِّسًا رأسه مذعورًا. لقد فقد
أذنيه، وصار شكلُ رأسه غريبًا، عجيبًا
ومضحكًا في آن واحد! كيف سيخرج إلى الشارع؟ كيف
سيقابل رفاقه؟ وأين سيبحث عن أذنيه؟ هل يمكن
أن تكونا تحت السجادة؟ أم تحت الوسادة؟ هل
يمكن أن تكونا في الدروج، أم في الخزانة، أم
في غرفة أمِّه؟ ركض سودان نحو أمِّه الغافية
لاهثًا: -
أمَّاه،
أمَّاه، أمَّاه، هل رأيتِ أذنيَّ؟ استيقظت الأم مذعورة. -
ماذا؟
أذناك؟! آه، يا للهول! ماذا حصل؟ كيف أضعت
أذنيك؟ ألم تأتِ بهما بالأمس؟ لم يجب سودان، لأنه لم يسمع
شيئًا من كلام أمه، فكتبت له على ورقة: "ألم
تشعر في الليل بشيء ما؟" أجاب سودان (وكانت
المرَّة الأولى التي يجيب بها والدته عن سؤال
توجُّهه إليه): -
بلى،
يا أمي. كنت غافيًا من شدة التعب، فشعرت بضوء
عظيم يضيء غرفتي كلَّها، ورأيت، فيما يرى
النائم، أن قمرًا يفتح شبَّاكي، يدخل غرفتي،
ينام قربي، مؤنِّبًا إياي أني لا أصغي إلى
نداء أحد. ولهذا قال إنه سيأخذ أذنيَّ كي يصغي
بهما هو، لأني لست في حاجة إليهما. فسخرتُ منه
ونهرتُه في المنام. وعندئذٍ رحل، واختفى. ولمَّا أتى المساء، شاهد
الناس وسط السَّماء، لأول مرة، قمرًا بأذنين!
في تلك الليلة لم يَنَمْ أحدٌ من شدة الدهشة،
متسائلين: لِمَن هاتان الأذنان؟ ولما كان سودان خجلاً فقد
غطَّى رأسه بقلنسوة تخفي مكان الأذنين، حتى
لا يراه أحد ويعلم أن أذنيه طارتا والتصقتا
بوجه القمر. فبدأ يفكر للمرة الأولى في حاله،
في أمِّه، في الناس، في السماء، في الغيم
والغابات. قال لأمِّه: -
عليَّ
أن أصعد الجبل لأتحدَّث مع القمر عن قُرب.
فربما يرقُّ لحالي ويردُّ إليَّ أذنيَّ. فكتبت له الأم رسالة قائلة
فيها: -
سودان،
خُذْ هذا الخاتم. إنه هدية من والدك لي قبل أن
يرحل عن هذه الدنيا. إنه خاتم سحري، سيجعلني
أشعر بك في كلِّ أحوالك. ضعه في إصبعك، ولا
تخلعه... قرأ سودان الرسالة، ووضع
الخاتم في إصبعه، ورحل بعيدًا دون أن يقول لها
كلمة وداع، دون أن يضمَّها، أو حتى يقبِّلها. اختار أعلى جبل وبدأ
يتسلَّقه. وكلما زاد صعوده، كانت الأم تفقد
حرارة جسمها شيئًا فشيئًا، مانحة طاقتَها
لابنها ليحتمل آلام الصعود والبرد والجوع. استغرق صعود سودان الجبل
سبعة أيام وسبع ليال. تمزَّق حذاؤه، تشقَّقتْ
يداه، سالت الدماء من جروحه، عانى الجوع
والعطش. لكنه كلما صعد كانت العواطفُ تقترب
منه، شيئًا فشيئًا، حذرة. بدأ يحس بالفرح ينمو
في قلبه، ممَّا أنساه تعبه وآلامه. فاض فيه
الفرح كلما نظر إلى الأشياء من حوله. فقد نسي
ذاته، وصار يهتم بكلِّ شيء يجري من حوله: يا للفرحة! هاهو ذا الهواء
يقيم حفلة راقصة مع الشجر ليدهشني، قال سودان.
وتلك أشجار الصنوبر العملاقة تحرسني بعيونها
التي بلون البنِّ. وجذع الزيتونة هناك... آه،
كم هو ضخم! إنه يشبه أصابع إنسان عجوز يغمِّس
بالتربة اللقمة. وكلما تعب، استلقى وتأمل
الأشياء بغبطة لم يشعر بها من قبل. آه، يا له من خيط طويل جميل،
خيط النمل الأسود هذا! آه، كم يسافر، كم يتعب،
كيف ينسلُّ تحت القشِّ الأسمر، وبطمأنينة
يربط الشجرة إلى الشجرة، قال لنفسه سودان. أما
النعناع، فقد رآه ينتعل خُفًّا بنِّي اللون،
معتمرًا قبَّعة من فرح أخضر. وعندما اقترب منه
وشمَّ رائحته، تذكَّر أنه ممزوج برائحة أمِّه
التي اشتاق إليها للمرَّة الأولى. ودخلت
الطمأنينة إلى قلب سودان. ولما أتى الليل، احتمى
بمغارة صغيرة، غطَّى بابها بالأغصان ونام
فيها بسلام. وقد رأى أمَّه في الحلم كيف كانت
تتوجَّع من شدة البرد، وتتدثر بشال من الصوف
وهي ترتعش. وعندما قرأ القمر سريرة سودان،
وَضَعَ سحابة على وجهه، ونزل متخفِّيًا بها
إلى المغارة، معيدًا إليه أذنيه. في الصباح، استيقظ سودان
متلمِّسًا أذنيه، مغتبطًا بهما بشدة. إذ لم
يعرف قيمتهما إلا عند فقدهما. وتغيَّرت
سحنتُه فبدأت تميل إلى البياض. وبدأ النزول، وعيناه
تلتمعان مثلما تلتمع عيون السلحفاة، وصار
وجهُه أكثر إشراقًا. وبدأت الحرارة ترجع إلى
جسم أمِّه شيئًا فشيئًا، فعرفت أنه الآن
يقترب. وعندما صار جسمُها كالنار فتحت باب
الدار، وإذا بسودان يهمُّ بقرعه. احتضن
واحدهما الآخر بقوة، وصارا يتحدَّثان في صمت،
فامتلأ الجوُّ برائحة طيب، وتلوَّنت الأرض
بأحلى الأزاهير وأرقِّها. ومنذ ذلك اليوم صار الجميع
ينادونه بضياء بدلاً من سودان. ***
*** ***
|
|
|