|
إحدى
عشرة دقيقة يسعى الروائي البرازيلي باولو
كويليو، الذي اختار لروايته الجديدة موضوعًا
دقيقًا وحساسًا، لأن يُحدِثَ لدى القارئ صدمة
عنيفة ومزعجة، خاصة أنه يبني هذا الموضوع على
قليل من الأحداث وكثير من الانعكاسات النفسية
العميقة للشخصيات، وكأنه يريد أن يُظهِر
حيوات معظم شخصيات روايته من الداخل، أي
بمعنى، كيف يفكِّرون في باطنهم، وكيف يحسون
ويتفاعلون مع الحياة الواقعية وتفاصيلها.
وهذا الجانب يشكِّل ركيزة نظرية هامة في
معرفة الجانب الإنساني الأعمق في متاهات
التفكير والذهن، وكيف تنبني طبقات النفس
الإنسانية، في الفرح والحزن، اللذة والكدر.
وهذا، بدوره، يكشف أدق التفاصيل المميِّزة
للشخصيات وبنائها النفسي الداخلي بما تأثرت
به من أحداث في الواقع الاجتماعي والسياسي
والعاطفي، بل والمادي أيضًا. الرواية
تحكي قصة فتاة برازيلية تعيش في داخلها، منذ
طفولتها، أحلامٌ أكبر منها. لكنها في
النهاية، مثل كلِّ الفتيات، تحلم بالفتى
الثري والذكي والجميل، وثوب الزفاف أيضًا.
لكن الحياة تسير على نحو معاكس تمامًا لما
كانت تأمله الفتاة؛ بل وذهبت بها الأقدار لأن
تصير مومسًا تسافر إلى البعيد لتكسب قوتها
وقوت عائلتها. لكنها، في الآن نفسه، تخطِّط
لجمع ثروة تشتري بها مزرعة وتؤمن مستقبل
عائلتها خلال مدة زمنية معينة. (جدير
بالذكر أن بطلة الرواية (ماريا – اسم مستعار)
لا تزال تعيش مقيمة في لوزان. وهي متزوجة
ولديها ابنتان، وقد أخبرت الكاتب بقصتها التي
على أساسها بُنِيَتْ هذه الرواية.) وتبدأ
رحلة كفاحها المريرة، تلك التي تكتشف من
خلالها أشد ألوان العذاب مرارة. لكنها أيضًا
لم تنقطع أبدًا عن جمع الثروة المعرفية،
فكانت دائمة الاشتغال على تثقيف نفسها،
وتشذيب روحها، من خلال قراءة الكتب المتعددة
والمتنوعة التي تستعيرها من المكتبة العامة. وتنطلق
الرواية، بأحداثها النفسية الداخلية
والواقعية المعيشة، عبر رحلة كَشْفِ واكتشاف
العوالم الغامضة للجسد الأنثوي وللروح
الإنسانية. كما أنها تصل إلى ثراء معرفي لـ"الجنس
المقدس". يقول الكاتب في
ملاحظاته: استغرقتُ
وقتًا مطولاً لأكتشف المعنى المقدس للجنس،
على غرار الجميع. وأعمِّم دون تردد: كانت
الفترة التي عشت فيها شبابي تتسم بالحرية
المتطرفة والاكتشافات المتنوعة والشطط.
تبعتْها فترة اتَّسمتْ بالجوِّ المحافظ
والقمعي. وهذا الثمن ندفعه دائمًا بعد فترات
المجون التي تمر بها المجتمعات، والتي لا
تختفي دون عواقب وخيمة. ويضيف: خلال
هذا العقد من الفجور والتفلُّت الجنسي [فترة
السبعينيات] نَشَرَ الكاتب
آيرفنغ والاس كتابًا يتطرَّق فيه إلى موضوع
الرقابة في الولايات المتحدة، ويشير إلى
الدسائس القضائية التي عملت على حَظْرِ نشر
أحد النصوص التي تتحدث عن الجنس، وكان بعنوان سبع
دقائق. في رواية والاس، ليس الكتاب هدف
الرقابة إلا ذريعة روائية، ونادرًا ما يظهر
موضوع الجنس في حدِّ ذاته. تساءلت حينئذٍ –
والكلام لكويليو – ماذا
بإمكانه أن يكون هذا الكتاب، وما المادة
الروائية التي يمكن أن يتضمنها. ثم دفعني هذا
التساؤل إلى آخر: ماذا لو حاولت بنفسي كتابة
رواية عن الجنس؟ وفعلاً
استطاع باولو كويليو أن يقارب الجنس بطريقة
جادة، تكشف عن مخزون نفسي عميق مختبئ في
الجانب المظلم من طبقات الوعي الداخلي
للنفسية الإنسانية. ورغم
"فحش" موضوع الرواية من منظورات
متباينة، إلا أن الكاتب يقدِّمه بلغة غاية في
النظافة والبساطة، ليصل بنا إلى اكتشاف كلٍّ
من اللذة عبر الألم والألم عبر اللذة، وذلك من
خلال وعي دقيق وعميق للجسد والروح
ومتطلباتهما في ظروف معقدة ومتباينة في العيش. ولا تقف
لغةُ الرواية عند هذا الحد؛ بل إنها تعيد
اكتشاف ذاتها في التجربة، بحيث تصبح نهجًا
متفردًا عبر إبداع راقٍ يتجسد في
رواية حملت عنوان إحدى عشرة
دقيقة*
– وهي التي تلخِّص عملية الخلق وتواصُل
الحياة الإنسانية على هذا الكوكب. إضافة إلى
أن اللغة استطاعت أن تتتبَّع التفاصيل
الدقيقة للحدث في الواقع، من جهة، وتأثيراته
وانعكاساته داخل النفس والروح الإنسانية، من
جهة ثانية. لكن
موضوع الرواية، الذي يصور حياة الفتاة
البرازيلية ورحلتها في المجهول بغية تحقيق
أهدافها الإنسانية، عبر مهنة، يعدُّها
الدارسون من أقدم المهن في التاريخ، ووصفه
الدقيق ومتابعته للمشاهد التي تنعكس في
مرويَّات الرواية، كان من أهم علامات النص
بروزًا في سموِّه، بجعله موضوعًا كهذا
موضوعًا صالحًا بجدارة لأن يكون ميدانًا
للإبداع والإبهار، خاصة لأنه لا يقدم الجنس
كسلعة تباع وتشترى فحسب، بل يصور العوالم
النفسانية لكلا الطرفين وذلك من خلال ماريا،
بطلة الرواية: ذاتها ونفسيتها، من جهة،
ومحاولاتها الدؤوبة لفهم الأشخاص الآخرين
الذين يرتادون الحانات، في أوروبا طبعًا، من
جهة أخرى. باختصار،
فقد نجح الكاتب في تقديمه موضوعًا مميَّزًا
لروايته، ورَفَعَه من حيز الفهم الساذج
والسطحي إلى مكانة الصدارة الإنسانية في
تفاعله مع الروح البشرية بشكل عام. خلاصة
القول إن هذه الرواية تصلح لأن تكون نموذجًا
مبدعًا متفردًا في محاولات الكشف عن طبقات
الوعي الإنساني الداخلي لكلٍّ من الذكر
والأنثى، في عالم تتشابك فيه العلاقات
الاجتماعية
تشابكًا مروِّعًا. بالإضافة إلى أنها تقدم
فهمًا عميقًا ومميزًا ومتفردًا للجسد، على
اعتبار أنه ليس الحاضن أو الوعاء الذي تسكنه
الأحاسيس والمشاعر والروح فحسب، وإنما له،
بدوره، دلالاته النفسية والشعورية القوية
التي تؤثر في تشكيل طبقات الوعي الإنساني
بشكل عام. ***
*** *** * باولو كويليو، إحدى عشرة
دقيقة، بترجمة ماري طوق، شركة المطبوعات
للتوزيع والنشر، 2003؛ 271 ص.
|
|
|