الأضرحة

تبعثُر الأزمنة وانشطار المكان

 

علي السعدي

 

 عزيز التميمي قاصٌّ عراقي من جيل الثمانينات، فاجأتْه الحربُ وهو يُعِدُّ لمشروعه الأدبي، وحاصَرَه القمعُ حين بدأ بطرح الثمار. فما أن أصدرت وزارةُ الثقافة والإعلام العراقية مجموعته القصصية الأولى نصوص حتى منعتْ روايتيه التاليتين الوحل ولقاء الخنادق، وتمَّتْ مصادرتهما. وكالعديد من أقرانه ممَّن نزفهم جسدُ الوطن، اضطر إلى ترك العراق، وسرَّبتْه المنافي من عمان إلى بيروت، ومن بعدُ إلى أمريكا، ليستقرَّ هناك. أصدر في بيروت مجموعته الثانية تميمة الميعاد؛ وفي عمان أصدر رواية الأضرحة،* وهي موضوع قراءتنا التالية.

وكأنك في الزمن المتوالد من تزاوج الرؤيا وانشطار الحلم، حيث تَتَنَوْمَسُ الذاكرةُ بتشيُّؤ إبداعي يجري الإعلانُ عنه كما لو أنه مشهدية مُمَسْرَحَة في انكشاف شديد التواتر. فما أن ترتفع ستارة القصِّ عن لحظات رؤيوية كثيفة، حتى تتصدع سقوفُ مخيِّلتك، وأنت منوجد في عالم تنظر إليه مشدوهًا، قبل أن تبدأ بالتسرب إليه، أو الانجذاب نحوه، حتى التماهي – شرط ألا تكون من المستسهلين جَمْعَ الأصداف من شواطئ ساكنة أو الاكتفاء بالزبد النصِّي. ذلك لأن نصوصًا كهذه لا تلفظ زبدًا! فهي – وقد تشكَّلتْ من دون ضفاف – إنما تحرص على مضامينها في جيوب قيعانها، تاركة لك لذة الاكتشاف والنبش في ما اختزنتْه مخيلتُك، التي ما أن تشرع بالاقتراب حتى يتلبَّسها شيطانٌ عابث يلاعبك الاستخفاء. إذ لا تكاد المضامين تُظهِر أطرافَها إلا وتتلاشى ساحبةً وراءها غبار الأسئلة: ماذا يريد هذا الطارق بلا استحياء على جدران ذاكرة محمومة – وبكلِّ هذا الصخب الجميل؟ وعمَّن يبحث أبطالُه العشرة وطوسيُّهم، صاحب الحضرة، في قائمة المدعوين أو في سحنات القادمين بلا دعوات – وهم يتنفسون الجمر في الوطن–المنفى أو المنفى–الوطن؟

كلٌّ يعيش أزمته، مجتمعين متفرِّقين: إنسانُهم ذواتُهم المنفصلة عن ذاتها – أتلك جهنم الوعيد؟ أم تراها أشجار هجرتْها طيورُها في شتاء متقيح؟ – حيث السماء تمخر جبينَها غيومٌ فظة أخفتْ دمعتَها في جفن اليتم، ثم أعلنتْ – بكلِّ البراءة – أنْ لا عِلْم لها بما يجري هناك – حيث الأرض التي سيَّجتْ رئتيها متاريسُ الجدب، وحَفَرَ الطغاةُ على جسدها أخاديد الموت، لكنها الأم، ناقة المحامل ومجمرة الحنين، وخاتمة البدايات الموشومة بوجع الولادة ووجع الثكل، في تراتبية تجسيدية لكلِّ ما عرفتْه الخليقة، منذ حواء الغواية وعصيان آدم إلى تفاحة اللعنة واحتراق المسافات – حيث الأثمان يدفعها الأبناءُ وهم يكبرون بين أشداق الرياح، تسوسهم قتلاً، أو تشرِّد جمعهم كسرب إوز.

وفي الأصباح المعلقة على طارف الدمع والأماسي المغلَّفة بالدعاء الأمومي، كيما يأتي الرجوع رهينًا للحياة، تطل الرواية بشخوصها وأمكنتها المتداخلة بالأزمنة حتى الذوبان، وبلغة ذات رنين إيحائي وإيقاعات مشبعة بالرمزية والانزياح الدلالي، في نسيج متشابك وكثيف، كرشاش يقذف من فوهة شديدة الاحتباس.

وعلى الرغم من جمالية الأداء ورشاقة السرد، المنتمي إلى حداثة تجريبية متطورة وتقنية أسلوبية ذات أبعاد رحبة، إلا أن من الصعوبة بمكان على قارئٍ غير متمرِّس الإحاطةَ بمضامين كلِّية، أراد الكاتبُ زجَّها في تلك الرقصة وهذا الكرنفال اللغوي الزاخر بالانفجارات المتتالية. ذلك لأن الكاتب أراد لنصِّه أن يكون نصًّا مشاكسًا، لا يمتثل لموازين النقد ولزوايا القراءة السائدتين، فعمل على تذويب لغته، ثمَّ على صوغها في سبيكة لافتة الخصوصية والابتكار، ليُسقِط فيها، ومن خلالها، منظومته الإبداعية والمعرفية، ومن بعدُ ليخرج إلى تعرية واقع خرافي وحقائق جهنمية يمارسها طوسيٌّ يشعل حروبه كما يشعل سجائره!

ولا نُخضِع للقياس أبعادَ معرفتنا فيما إذا كان الكاتب هاذيًا أم رائيًا، ونحن نقارب النصَّ الذي يتحرك ضمن دائرتين تتشكلان معًا، لتكوِّنا في وحدة الدلالة واقعًا مرمَّزًا أو خيالاً جامحًا. لكننا نشغف بتلك اللعبة، يمارسها السياق باستفزاز ذهني يُشرِكنا فيه – أو يدفعنا إليه – كاتبٌ ينظر بعينين عابثتين. ففي غمرة الحدث (أو ما يوهمنا أنه الحدث)، يومئ الكاتب نحو مجاهل دروب وغابة فانتازيا، هامزًا القارئ: أنْ تابعْ وحدك واستدلَّ بحدسك، فتجهد للخروج من تلك المفازات الأسطورية المدهشة التي تتحرك فيها الأشياء وهي مأخوذة بسحر المغامرة، من دون أن تكون لتلك الأسْطَرَة علاقةٌ بما كتب الأولون. فالأسطورة هنا تنبثق من لغة عذراء غير مستلَبة، تكتسب مشروعيتَها من إبداع صاحبها، وإن لامَسَ حينًا ذاكرة جمعية أو ضَرَبَ في جدولة التاريخ ليستخرج جذر الأصفار. لكن، وأنت تتابع، تلتفت فجأة لتراه خلفك، أو بجانبك، أو ربما سَبَقَك؛ فينتابك إحساسٌ بتعب لذيذ، وتُسامِحه على فعلته التي أراد من خلالها – وهو مدرك لأسرار صنعته – أن يمارس عليك سطوته الكتابية، ربما إبرازًا لموهبة متميِّزة هي غير خافية أصلاً، أو ليساهم بكسر ما هو متقولب فيك. فالنص يتحرك بحيوية غرائبية، والمفردات تنفلت في كلِّ اتجاه حينًا، وتصدم كمقذوف ناري أحيانًا أخرى، مثيرة زوابع من معانٍ وإيحاءات شتى؛ لكنها تعود إلى مركز انطلاقها، إذ يمسك الكاتب بأطرافها بواسطة خيوط مخفية بمهارة.

وهكذا تحط بك صحارٍ وتأخذك وهادٌ ومدائن لم تسبق لك رؤيتُها، لكنك تشكُّ في إمكانية حصول ذلك، من دون أن تعرف متى وكيف، فتصل إلى حيث الطعنة معروفة المصدر، ولا تلتفت إلى حيث السراب المموِّه لافتضاح القلب في صمت المنافي، حين يتحول العمر إلى لحظات طائشة من فجر مُجهَض؛ ثم وأنت تنفض يديك عما ترى وتتخيل – باستنكار أم بإعجاب، هذا شأنك – ولتتصالح مع ما زرعتْه في وجدانك تلك الرواية، وهي تعصف بكلِّ ما حولك، مواصِلةً بناء عوالمها الخاصة التي لا تطيق السير إلا في دروبها، كاسرةً هادئة، مضخاتِ وعيٍ مبعثِرة جامعة. فلا أزمنة ولا أمكنة؛ كذلك لا تصاعد دراميًّا لحدث بعينه، وكأنك تراقب، بعين سحرية، حشدًا هائلاً، كلٌّ فيه يمارس طقسه واحتفاله، تاركًا لك حرية اختيار ما ترغب في رؤيته أو التركيز على نتوءاته وانحناءاته.

إنها الحداثة، بمجسَّات كَشْفِها، برؤيتها وابتكاراتها، حيث الخروج من الرتابة التي سادت فنَّ القصة والرواية أمدًا طويلاً، وألزمتْها حدودًا ومقاييس تآكلتْ وانثلمتْ في أكثر من موضع ومكان. فكان عزيز فاضل، في روايته هذه، ممَّن أحرجوا نقَّادهم، ووسَّعوا دائرة الفتق، لتنفتح على فضاءات أكثر تنوعًا وتجليًا، تاركًا لنصِّه أن يمارس حرِّيته في انتهاك وظيفة الرمز وإسقاط المحتوى في معجم دلالي متمرِّد وجامح، لتجاوُز تلك الحدود وتَرْكِها تُزاوِج وتفصل، تميد وتسكن، تَجِدُّ وتعبث، أينما أرادت ومتى عنَّ لها ذلك، لكنْ من دون تفتُّت ولا انفلاش: فكلُّ جملة وحركة وانعطاف مرتَّبة ومحسوبة جيدًا.

*** *** ***


* عزيز التميمي، الأضرحة، دار أزمنة للنشر والتوزيع، عمان 2004.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود