الموجة والحبَّة

 

سمير كوسا

 

مؤلِّف هذا الكتاب،* جان بورلا، مفكِّر حر، يقدِّم لنا في كتابه هذا نتيجة عشرين سنة من الأبحاث التي أجراها بحثًا عن الحقيقة. فهو يقوم بدراسة مُعمَّقة للمعطيات التي تقدِّمها العلوم، ويكسر في بحثه طوق العزلة الذي يفصل بين العلوم، من ناحية، والفلسفة، من ناحية أخرى.

في القسم الأول من كتابه يدرس المؤلِّف الواقع كما تراه الفيزياء الحديثة، فيستعرض، أولاً، الانقلابات التي جاءت بها نظريتا النسبية والفيزياء الكوانتية (الكمومية).

فلقد عزَّزتْ النسبية مفهوم زمكان (= زمن–مكان espace-temps) لا يمكن فيه لأيِّ حادثين أن تقعا في الوقت ذاته (التزامن)، حيث ينتفي مفهوم الحاضر. أما الفيزياء الكوانتية، فقد ذهبت إلى أبعد من هذا، وكشفت عن عالم لامتناهٍ في الصغر تتقوَّض فيه مفاهيم الزمن والمكان والحتمية ويقينياتها والجوهر – بعبارة أخرى، الخواص التقليدية للمادة كافة.

ثم يقوم المؤلِّف بتأويل الفيزياء الحديثة من خلال أفكار مؤسِّسيها، وبالأخص بوهر وهايزنبرغ. ويُبيِّن أننا نرى، على مستوى القُسَيْمات particules، مظهرين متعارضين – موجي وجُسَيْمي – تربط بينهما عملية الرصد المخبري. فقبل هذا الرصد يبقى الواقع (أو الحقيقة) الفيزيقي كامنًا، غير متعيِّن، غير موضعي، من دون جوهر. أما مع الرصد المخبري، فنرى أن هذا الواقع يكتسب هذه الصفات كلَّها ليصبح نقيض ما كان، أي يصبح محيَّنًا actualisé، موضعيًّا، متعينًا، وجوهريًّا.

ولما كانت أنواع الرصد كلُّها، آليةً كانت أم لا، تتطلب في نهاية الأمر تدخُّل أجهزة حواس الراصد، ينتقل المؤلِّف، في القسم الثاني من الكتاب، إلى البحث عن الواقع من وجهة نظر البيولوجيا. لقد تركتْنا الفيزياء الحديثة أمام عالم متبدِّل، لا يعرف ثباتًا؛ إضافة إلى أن هذا العالم هو عالم إمكان وكمون، لا علاقة له بالزمن وبالمكان اللذين نألفهما. فكيف يتم، بالتالي، الانتقال من هذا العالم إلى عالم المدرَكات الحسية، على كلِّ الصفات التي يتمتع بها من ثبات ومادية وغيرها؟ فـ"الواقع الحسي" يتطابق مع "الواقع المرصود". ويدور بحث المؤلِّف هنا في مجال فسيولوجيا الجملة العصبية، ليصل إلى النقطة الحاسمة، وهي لحظة ظهور الإحساس: أي حينما تتحول الإثارة الخارجية إلى إحساس مدرَك.

ويقوم رجال العلم والفلسفة عمومًا باستبعاد دراسة هذه النقطة في أبحاثهم. فمن المتعذر، بنظرهم، أن نجد العلاقة التي تربط بين الإحساس بلون ما مثلاً وبين تلك الاهتزازة الكهرمغنطيسية التي نتج عنها. ويصبح، بالتالي، الإحساس الصافي – أي المجرد من الذاكرة والعمليات الذهنية العليا – يصبح حاجزًا حصينًا يفصل بين ما هو موضوعي وما هو ذاتي.

ويرى المؤلِّف، من جانبه، أنه يمكن تجاوُز هذه العقبة، وذلك بأن نبدأ بتخليص الإحساس من كلِّ ما يربطه بالحياة النفسية العليا، ودراسة هذا الإحساس أقرب ما يمكن من شروط بروزه الفسيولوجية. ويذهب المؤلِّف إلى أنه، على الرغم من التنوع اللانهائي للتجربة الحسية – في الإنسان والحيوان – يمكننا أن نجد عنصرًا مشتركًا عالميًّا، وهو كوانتوم (أي عنصر) أصغري من المكان والزمن، ينتج عنه الانتظام والثبات في منشأ كلِّ إحساس. وبتعبير آخر، يمثل هذا الكوانتوم الحسي الحدَّ الذي دونه لا يمكن تمييز أيِّ تبدل في الزمان والمكان.

تؤدي هذه الفرضية إلى نظرة جدلية في إدراك الزمن والمكان: فيبدو هذا "الالتقاط الأصيل" لحيِّز منتظم خلال مدة ثابتة وكأنه الشرط الأساسي واللازم لإدراك التغييرات المتجاورة للمكان والمتتالية للزمن.

وينقلنا المؤلِّف، في قسمه الثالث، إلى دراسة الواقع من وجهة النظر الفلسفية. فعلى مرِّ العصور، بحث الفلاسفة في أصل هذا الإحساس الزمكاني. ولئن توصَّل بعضُهم إلى كشف حدسيٍّ وجزئي عما توصَّل إليه المؤلِّف من خلال البحث العلمي – ويخص المؤلِّف بالذكر هيوم وكانط وبرغسون – لم يتمكن أيٌّ منهم من جمع كلِّ عناصر الأطروحة الحالية. ويطمح المؤلِّف، هكذا، إلى بناء نظرية معرفية جديدة، ويدعو إلى إجراء التجارب المخبرية للتحقق من وجود هذا الكوانتوم الحسِّي.

أما القسم الأخير من الكتاب فيُخصِّصه المؤلِّف لمناقشة النزاع الدائر بين علماء الفيزياء في ما يخص الواقع الفيزيقي. فالواقعيون يرون أن الفيزياء الكوانتية عاجزة عن إعطاء وصف كامل للواقع، وأنه يجب تكميل هذه النظرية؛ بينما يقول الوضعيون، من طرفهم، أن من العبث التحدث عن واقع في ذاته، مُستقل عن شروط القياس التي تفرضها كلُّ عملية رصد. ويحدِّثنا المؤلِّف عن تجدد النزاع من خلال التحقُّق التجريبي الحديث مما يُعرَف بمفارقة أينشتاين بودولسكي وروزِن EPR، ويرى بأن أطروحته تقدِّم حلاً لهذه المشكلات.

*** *** ***


* Jean Burlat, L’onde et le grain : les deux versants du réel.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود