|
أزمة
الثقافة الإسلامية بعد
كتابه الصادر في بداية سنة 2000 تحت عنوان السيرة
النبوية: جدلية الوحي والقرآن، الذي أثار
الكثير من الجدل في صفوف المتابعين للدراسات
الإسلامية وتاريخ الأفكار، مَشرقًا ومغربًا،
وردَّ عليه بعضُهم وناقشه آخرون كثيرون،
أطلَّ علينا المؤرِّخ التونسي هشام جعيط
بكتاب جديد بعنوان أزمة الثقافة الإسلامية.¨ وإذا كان الكتاب مجموعة من
الدراسات التي كتبها المؤلِّف في فترات
ومراحل متباعدة امتدت، كما يقول، على عشرين
سنة، فإن ذلك لم يحُلْ دون انتظامها حول
مَحاور متقاربة موضوعيًّا، تتركز، في
مجملها، حول دراسة "جدلية الدين والحداثة
والثقافة والسياسة". وقد اجتهد جعيط في
مزيد من لَحْم هذه الدراسات عبر التصدير لها
بمقدمة قيِّمة ومتينة نجحت، إلى حدٍّ كبير،
في بلورة مشهد تاريخي وثقافي متميز لما
وَرَدَ في هذه الدراسات. وقد صنَّف الكاتبُ
هذه الدراسات تحت أربعة مَحاور أساسية. تأملاً في تجربة الدولة
الوطنية/القطرية – دولة ما بعد الاستقلال –،
يرى الكاتب أن التحديثيين خاب ظنهم في القرن
العشرين، سواء كانوا قادة دول (مصطفى كمال
أتاتورك، رضا شاه، عبد الناصر، بورقيبة) أم
مفكرين – خاب ظنهم في أنه يمكن التخلص من
الإسلام بشطبة قلم، لأن هذا لا يكون من دون
صراع وجدلية في الواقع المجتمعي والتاريخي.
ولا تخفى على المتمعِّن في الكتاب من بدايته
منهجيةُ النقد المزدوج التي يتوسَّل بها
الكاتب في تأمله في الفكر الإصلاحي والفكر
الحداثي، اللذين يعيشان أزمة عميقة، تعكسها
الحالة الثقافية البائسة التي يمرُّ بها
اليوم عالمُنا العربي والإسلامي. يتساءل: هل
من الممكن، في جوِّنا الإسلامي اليوم، في هذا
الجوِّ الصاخب الذي يدور في الفراغ، أن يبرز
ابن عربي أو السهروردي أو ابن الفارض، أو في
ميدان آخر، ابن خلدون أو ابن سينا؟ وبأسلوب يقسو فيه المؤلِّف
على الذات، نقدًا وتشريحًا، يجيب: نحن
أقْدَر على المجابهة منَّا على الإبداع وعلى
البحث عن السعادة والدعة. ومعنى السعادة
عندنا رتيب، ويقف عند تماسك النسيج الاجتماعي
والعائلي، عندما نخرج من الرتابة إلى التهور
في التفاخر والاستهلاك. ويُرجِع الكاتب غياب
الديموقراطية في الوطن العربي إلى الجذور
الفلسفية لثقافتنا التي امتنعت عن التحول
القيمي الكبير الذي حفَّ بالحداثة من منتصف
القرن الثامن عشر. وهذه الإشكالية يعتبرها
المؤلِّف مسألة ثقافية بالمعنى
الأنثروبولوجي؛ وهي، بالتالي، تستعصي على
الحل. ويسخر الكاتب من الذين يرون أن تعميم
التعليم يقود إلى الديموقراطية – وهي فكرة
تستبطن أن الشعب مرن ومائع بالمعنى الثقافي؛
وبالتالي، يمكن توعيته وتزويده بمجموعة قيم
ومفاهيم جديدة. بل يمضي المؤلِّف إلى اعتبار
هذا الطرح يعبِّر عن فكرة دكتاتورية. ولا يخفى
أن حَمَلَة هذه الفكرة في بلادنا كُثُر. ولعل
كتاب السيد محمد الشرفي الصادر حديثًا يمثل
نموذجًا حيًّا لهذه الأطروحة.[1] عند التأمل في التجربة
السياسية من الخمسينات لا نجد سوى ثقافة
الزعيم الملهم، أو عاطفة شعبية، أو توسُّل
بوسائل قمع مقتبَسة من الأنظمة الشيوعية. وفي
تلك الأجواء حصل تدمير كبير للماضي وأسُسه،
بحيث جرت محاولة لقطع الوطن العربي عن ماضيه
أكثر مما حصل للغرب نفسه. ومن هنا جاءت الحركة
الإسلامية، التي يجب ألا تُفهَم كحقيقة
دينية، وإنما، كما يقول الكاتب، إن: "الاتجاه
الإسلامي هو فعلاً اتجاه ثوري، أي حركة
سياسية وثقافية وسوسيولوجية [...]." وهكذا،
إذا كان الاتجاه الإسلامي يعني شيئًا فهو
إعادة أسْلَمَة المجتمع، وتوحيد العالم
الإسلامي فعلاً حول مطالبه، والجهاد ضد نسيان
الإسلام الذي لا تحميه كنيسة مُهَيْكَلَة،
والذي بات، في القرون الأخيرة، إسلام موظفين
في الدولة. إن هذه الظاهرة الدينية
المتمثِّلة في اللجوء إلى الدين كمعقل الهوية
الصلب تعبِّر تعبيرًا شديد الوضوح عن
اندحارنا/تراجعنا إلى الأسُس، حين غاب كلُّ
شيء سوى عناصر من الثقافة/الأنثروبولوجيا.
وهي محاولة لملء الفراغ الذي يكاد أن يكون
شاملاً في حياتنا، فكريًّا وروحيًّا، لولا
بقاء هذا الإسلام. وكما يقول الكاتب،
فالنظريات القومية والوطنية، على خلاف
الدين، لا تمثِّل قيمة في حدِّ ذاتها، ولا
يمكن لها أن تمثل أفقًا ثابتًا للضمير
الإنساني. ومع هذا، فالكاتب لا يتردَّد في
الدعوة إلى دخول الحداثة من أفقها الأوسع،
وما يقتضيه ذلك من إعادة النظر في الإسلام
التاريخي الذي تميَّز بالاستبداد وبالتسلط؛
وكذلك إعادة النظر في المنظومة التشريعية
التي تتعارض صراحةً مع قيم الحداثة. لكن
المؤلِّف يحذِّر، في الوقت ذاته، من أن هذه
الدعوة لا تتناقض بالضرورة ولا تتعارض مع
الحفاظ على هويتنا، التي من الخطأ أن نطرحها
يومًا كإشكال يحتاج للمعالجة: فهويتنا راسخة
ولا تحتاج لأيِّ تأكيد. أزمة الثقافة
العربية الإسلامية: العالم الإسلامي وصِدام
الحداثة لا شكَّ في أن أحد أبرز
الأسباب التي ساهمت في أزمة الثقافة
الإسلامية الصدمةُ التي سببتْها الحداثةُ
داخل المنظومة الثقافية العربية. وحِدَّة هذه
الأزمة تكمن في أن هذه الحداثة وافدة؛ إذ هي
وليدة حضارة أخرى مغايرة ومختلفة، وقد أدخلت
اضطرابًا على الفرد وقلقًا على المجتمعات
الإسلامية، فارتفعت الطمأنينة واهتزت
المفاهيم، وتحولت المجتمعات العربية إلى
مجتمعات مرتعشة.[2] وبغضِّ النظر عن التحديات
الكثيرة التي تواجه الفكر العربي في دخول أفق
الحداثة، فإن أبعادًا وقيمًا كثيرة للحداثة
استفحلتْ، كما يقول الكاتب، في كلِّ البقاع
الحضارية. ولعل هذه البقاع الحضارية – ومنها
منطقتنا – ما تزال تحتاج لعقود لتهضم مزيدًا
من قيم الحداثة. ولا شكَّ في أن هذا التأخر في
تمثُّل هذه القيم واستيعابها جنَّب هذه
المجتمعات كثيرًا من المطبَّات والأزمات
التي تعيشها قيمُ الحداثة في عقر دارها اليوم.
فتأخر مجتمعاتنا في التحديث جنَّبها، إلى
حدٍّ كبير، الجوانبَ الكارثية التي تعانيها
المجتمعات الحديثة في مستوى العائلة،
والقيم، ومنظوماتها الأخلاقية التي تفكَّكتْ.
فلقد داخَلَتْ المجتمعاتِ الغربيةَ الحديثةَ
أزماتٌ عميقة في العديد من المستويات ضريبةً
لهذا التحديث. أزمة الثقافة
في بلداننا لماذا هذا الغياب؟ على خلاف
ما ذهب إليه المفكر الأمريكي هنتنغتون، الذي
يقول بالتعدُّد الحضاري، الذي يؤشر على "صِدام
الحضارات" كسمة للقرن الجديد، فإن جعيط
يعتبر أنه لا وجود لحضارات، وإنما بقاع
إنسانية منطبعة بأشكال ثقافية وحضارية مميزة.
لقد قامت الحضارة بما يشبه الهجرة، فانتقلت
من الشرق إلى الغرب. والثورة الحضارية التي
جَرَتْ في الغرب يجب عدم النظر إليها
باعتبارها ثورة أوروبية، إنما ثورة عالمية؛
إنها انقلاب عالمي جديد. واستمرار عدم
إسهامنا فيها له أسباب كثيرة. لقد عشنا
اهتزازًا كبيرًا في نظرتنا إلى ذاتنا
الحضارية، وفي طرح أسلوب النهوض الحضاري،
ودخول أفق الحداثة. وكَثُرَ الحديث عن
التصنيع والنموِّ الاقتصادي، وكذلك عن
الديموقراطية، وقبلهما عن السيادة. وكلُّ ذلك
محبذ بالتأكيد؛ ولكن لا اقتصاد ولا
ديموقراطية من دون ثورة ثقافية. إن الثقافة تعتمد بالضرورة
على حرية التعبير، وحرية الاستهلاك، وانفتاح
المجتمع على التيارات الفكرية المختلفة،
وإيجاد النقاشات داخله. والأنظمة السلطوية
التي عرفناها منذ نصف قرن لم تقبل بهذا، لأنها
تأسَّست على مثال النظام الشيوعي
التوتاليتاري، واختلقت قضايا كبرى، مثل
إيديولوجيا التنمية، لتحشد وراءها الجماهير.
ولكن لا شكَّ في أن هذه السياسات انتهت إلى
الإخفاق: فلا التنمية تحققتْ، ولا نهضتنا
الثقافية أُنجِزَتْ، وبقينا في أسوأ الأحوال. الإنسانية
القرآنية توجد في القرآن مركزية
إنسانية anthropocentrisme،
لكنها خاضعة للمقاصد والمخططات الإلهية.
وهذا، في حدِّ ذاته، يمثِّل شكلاً من أشكال
النزعة الإنسانية humanisme
وبُعدًا من أبعادها. ففي القرآن درجة إنسانية
أرفع: إنها مكانة الإنسان في مغامرة الوجود،
وفي غائية الخلق، وفي التاريخ. ففي القرآن، في
معرض محاجَّة الله الشيطان حول الإنسان، كان
الإنسان يملك فضيلة العلم والتمييز العقلي؛
ولذلك أمَرَ الملائكة بأن يسجدوا له.
والملاحظ أيضًا أن القرآن لا يلحُّ كثيرًا
على خطيئة آدم ولا يتوقف عندها كثيرًا؛ إنما
الأمر الأساسي في ما بعدها، ما بعد المغفرة.
إن نزول آدم هو بداية اختبار تجربة الحرية
التي يخوضها الإنسان في إطار جدلية الخير
والشر. وهذه النزعة الإنسانية لم
تبرز في النصِّ القرآني فقط، وإنما أيضًا في
الثقافة الدينية ما بعد القرآنية. فيؤكد جعيط
أن الثقافة الإسلامية في العهدين الأموي
والعباسي – وهي التي تأسَّست على الثقافة
القرآنية والمنهج النبوي – قد حافظت على بعض
من أبعادها الإنسانية. فكثير من الفقهاء
يشدِّدون في التحرِّي قبل إنزال العقوبات أو
إقامة الحدود. وإلى جانب ذلك، فإن تأكيد هذه
الثقافة على القيم النبيلة، كالرحمة
والتسامح، يؤكد النزعة الإنسانية في هذه
الثقافة ولها. نحن والآخرون:
النهضة والإصلاح والثورة منذ قرن في اللحظة ذاتها التي وضعت
فيها أوروبا يدها على تونس ومصر، على التوالي
(1881 و1882)، لتسيطر عليهما سيطرة مباشرة، كانت
النهضة العربية، اللغوية والأدبية، في
ذروتها؛ كما كانت إصلاحية جمال الدين
الأفغاني ومحمد عبده في ذروتها. ذلك أن
الاستعمار لم يفاجئ عالمًا إسلاميًّا في حالة
سبات، لينتزعه أو ليوقظه منه؛ بل إنه أتى
ليُربِك عالمًا في حركة استرداد وتحفُّز
باتجاه النهضة والإصلاح. كانت هذه الإصلاحية بطيئة،
ويشوبها التردد وعدم الثقة. وبات هذا الجهد
عبثيًّا، كما يقول الكاتب؛ وجعلتْه سخريةُ
القدر مأساويًّا، بعد أن اكتسح الاستعمارُ
قلبَ العالم العربي والإسلامي، وأعمل فيه
مبضعه، تمزيقًا وتقسيمًا ونهبًا. نما في هذه
الأجواء تياران للإصلاح: أحدهما هو امتداد
طبيعي لتيار الإصلاح والنهضة؛ وتيار آخر
طَرَحَ المواجهة المباشرة للمستعمر. ولم يمضِ
أكثر من نصف قرن حتى عادت كلُّ هذه الدول
مستقلةً، واستعاد التيارُ الإصلاحي نفحته،
بعد أن كان قد ذَبُلَ خلال المرحلة
الاستعمارية التي اقتضت عملاً سياسيًّا
ومواجهة مباشرة مع المستعمر، انخفضتْ معها
التساؤلاتُ حول إشكاليات النهضة والإصلاح
الداخلي. لقد بَدَت النهضة عودة إلى الينابيع. وفي بحثه في طبيعة الإصلاح،
وهل هو إصلاح ديني أم هي حركات إصلاحية، يورِد
الكاتبُ الموقفَ الغرامشي من التجربة
الأوروبية. فغرامشي يضع التجربة الأوروبية في
مواجهة الإصلاح الديني اللوثري: فالإصلاح كان
شعبويًّا؛ وكانت النهضة أرستقراطية. ولقد كان
الإصلاح جموحًا عن الثقافة وعقيمًا من البُعد
الجمالي؛ في حين كانت النهضة تبشِّر
بالإبداعي والجمالي. ويتساءل جعيط عن المقصود
بمفهوم "الإصلاح"، ثم يقول: "نحن لا
نعلم أنه [الإصلاح] لم يكن النهضة، لكننا نعرف
أنه كان يحمل نبرتها." لقد مثَّل جمال الدين
الأفغاني الشمولية الإسلامية التي ظلت
حيَّة، ومازالت تطلق ارتعاشةً وحدوية. وقد
كان هذا المصطلح شيعيًّا–سُنيًا في آنٍ،
متجاوزًا كلَّ أفق طائفي ضيق. لقد عاش جمال
الدين الأفغاني عصره، واندمج في هيجان عالمه،
بدلاً من الانطواء والعزلة الداخلية: "وحده
يستحق صفة العبقري." ولعله كان من الممكن أن
يكون لهذا المصلح الكبير دورٌ بارز في ريادة
مصر وتصدُّرها قيادة العالم الإسلامي،
بديلاً عن تركيا/الإمبراطورية، لو لم تعلن
بريطانيا الفيتو على هذا التحول. إن المشروع
الإصلاحي الشمولي الذي بشَّر به جمال الدين
الأفغاني لم يكن، حسب المؤرِّخ هشام جعيط،
مشروع دين يريد لنفسه إصلاحًا، بل مشروع
حضارة واسعة أو غاية مجموعة بشرية يوحِّدها
الدين وتؤسِّس عليه سماتِها الأساسية. ففي
لحظة وُضِعَ فيها الإسلامٌ كحضارة إنسانية
محلَّ تساؤل، يأتي الأفغاني ليحسم الأمر
بكلِّ وضوح في اتجاه الإبقاء على الإسلام؛ بل
فوق ذلك، ليطرح الإسلام كقاعدة لكلِّ نهوض. جاء بعد ذلك تلميذه محمد
عبده، مركِّزًا على فكرة التوحيدية، جاعلاً
منها سلاحًا قويًّا في مقاومة الطبيعة
الصوفية الطُّرُقية. وعلى الرغم من ذلك، يبقى
السؤال مطروحًا: هل هذا الموقف الذي اتخذه
هؤلاء من التجربة الإسلامية لتلك العصور
موقفٌ تاريخي، يفهم التجربة في سياقها؟ إن
للصوفية دورًا مشهودًا في احتضان الإسلام في
فترة كان يتعرَّض فيها لهجوم كاسر، لم تكن معه
المواجهةُ المباشرة ممكنة نظرًا للاختلال
الواضح في ميزان القوة. فكان التديُّن على
الطريقة الصوفية هو المعقل، لا حماية للمسلم
فحسب، وإنما للإسلام نفسه. وجاء رشيد رضا
معتبرًا أن إلغاء الخلافة حدثٌ خطير، فعاد
يبشِّر بالوحدة الإسلامية ويحمل لواءها. الثقافة
والسياسة في الوطن العربي من المهم جدًّا أن نعير
الانتباه لهذا الانبعاث السياسي للإسلام مع
الثورة الإسلامية في إيران. فبعد قرن من
التغييب – بمعنى أن الإسلام الديني قد توقف،
إلى حدٍّ بعيد، عن طرح نفسه كمرجع أوَّلي
للمسيرات والمساجلات الكبرى – عاد إلى
المسرح، لا ليصلح نفسه، بل ليصلح المجتمع
الشامل، وليفرض نفسه سياسيًّا عليه. إن
استرداد الديني للسياسي – بوصفه عملاً، وليس
بوصفه فكرة وحسب؛ وبالعكس، إن اندماج الديني
في مسيرة سياسية بامتياز – يمثِّل، بلا ريب،
ظاهرة كبرى لا بدَّ من إدراك كلِّ جدَّتها.
فهذه النهضة الإسلامية تجيء من خلال حركات
تحتية، أي اجتماعية، لا بواسطة أجهزة الدولة.[3] ولا شكَّ في أن طبيعة
العلاقة التي نشأت بين الإسلام والسياسة جعلت
هذه العلاقة معقدة ومركبة؛ وللتجربة
التاريخية دورٌ كبير في رسمها. وفي هذا الصدد
يورِد الكاتبُ ثلاثة نماذج في رسم علاقة
الإسلام بالسياسة: -
الأولى
هي تجربة المصلح خير الدين التونسي، الذي وجد
أن الدولة ليست مهذبة كفاية بأخلاق الدين،
فعمل على إضفاء الإسلام على الدولة. -
والثانية
تتمثل في الطبيعة الناشئة بين الدين والدولة
في الفكر الخلدوني. -
أما
الثالثة فهي قراءة في تصور ابن تيمية، الذي
يلخِّصه المؤرِّخ، في اعتبار أن الحكم موجود
لإبقاء الدين وحماية بيئته، ولكن في إطار
شوري. الأزمة
العربية والوعي التاريخي إن الحداثة العربية – حداثة
العروبة أو حتى الحركة الإسلامية، وكذلك
حداثة الدول/الأمم – قذفت بالتاريخ وبمعرفة
التاريخ في مطاوي النسيان: أولاً، التاريخ
كعلم؛ وثانيًا، التاريخ كوعي وعِبْرة؛
وأخيرًا، التاريخ كأساس لكلِّ المشاريع التي
تشغل العرب. والهاجس التاريخي، وإن كان
قويًّا جدًّا في الوطن العربي، إلا أنه ليس
كذلك إلا باعتباره أداةً إيديولوجية أو
سياسية. ويستوي في ذلك مثقَّفو الحركة
الإسلامية وأصحاب الرؤية الماركسية
والقارئون للتاريخ أركيولوجيًّا، على شاكلة
فوكو، كما فعل الجابري في مشروعه نقد العقل
العربي. وكتابة، أو بالأحرى إعادة كتابة،
التاريخ العربي لا تعني إلا أحد أمرين: -
إما
تخليص التاريخ العربي من التشوهات
الاستشراقية، واستهلاك الماضي الشخصي
مجددًا؛ -
وإما
استخراج التاريخ العربي وعزله حقًّا عن
التاريخ الإسلامي الذي كان غائصًا فيه عند
ذلك الحين. ولقد جاء نظام الدولة
الجديد الذي ينهل شرعيَّته من معين هذه
التاريخية الكثيفة جدًّا، أي من الوعود، من
المتغيرات الحقيقية، وكذلك من مولد هذا الغول
المخيف: الدولة – الدولة العربية الحديثة،
التي تقع ذروتها بين عقدي الخمسينات
والستينيات، عندما كانت تملك الشرعية،
بوصفها مؤسَّسة جديدة للتاريخ الجديد؛
وتاليًا، أصبحت تملك سلطةً مستبطَنة في
الضمائر، تملك المشروع وتحتكر الفعل
والكلام، وتنظيمًا للعنف متقنًا، لا سابق له،
لأنه كان التاريخ المزدوج للوحشية الداخلية
الموضوعة في تصرُّف الدولة، ولاستعارات
خارجية مستوردة من سعير حداثة مزيفة. وفي حديثه عن الدولة والأمة
والإسلام، يتساءل جعيط عن الوحدة المنشودة
للأمة العربية: هل هي طوبي [يوطوبيا] وحلم، أم
هي، أكثر من ذلك، مجرد وهم؟ ويذهب الكاتب إلى
أنه لا يمكن لنا أن نعزو التجزئة في الواقع
السياسي العربي إلى ظاهرة الاستعمار وحدها:
فليس المستعمر هو الذي أنشأ مصر الطولونية ثم
الفاطمية؛ وليس هو الذي أقام إفريقية
الأغالبة، ولا الأندلس الأموية، ولا المغرب
الأقصى الإدريسي، ولا اليمن الزيدية. إن الدولة القُطرية
المشنَّع عليها هي حقيقة مقاومة وغير قابلة
للتحطيم، بحكم عمقها التاريخي، ونظرًا إلى
صلابة تنظيمها الحديث، ونظرًا إلى أن النظام
الدولي مرتكز على عدم المسِّ بالدول القائمة.
ويبدي الكاتب حنقه من هذه الوضعية، فيقول: أنا
المثقف العربي لا أستطيع أن أحب هذه الدولة
الوطنية، ولا تحثني أية وطنية على تأييدها.
أشعر أنني مُهان في انتمائي إلى دولة بلا أفق
ولا طموح، دولة متسلِّطة – هذا إن لم نَقُلْ
استبدادية – لا يوجد فيها علم ولا عقل ولا
جمال ولا حياة ولا ثقافة حقيقية. هذه الدولة
تقمعني؛ وأنا أختنق في هذا المجتمع الإقليمي،
المزيف والجاهل. وفي رصده ووصفه لواقع
التجزئة والإحباط، يعرض المؤلِّف وضع
الإسلاميين الذين يرى أنهم، وإن كانوا
يستندون إلى العقيدة الأكثر روحانية وبطولة،
إلا أنهم، على الرغم من ذلك، يضعون الإسلام في
خدمة رغائب الحياة والموت: فهم لا يناضلون في
سبيل الحقيقة، ولا في سبيل سَبْرِ أغوار
إيمان متوقد ومستعاد. فهُم، وإن كانوا
يستطيعون تركيز بؤرة الإحباطات الشعبية
واستقطابها، وحشد الجماهير حولهم، فإنهم لا
يملكون شيئًا يقترحونه. إن حركتهم اعتراضية
أصيلة حقًّا؛ لكنهم لن يستطيعوا أبدًا إعادة
بناء المدينة الدينية والثقافة الإسلامية،
لأنهم لا يعرفونها أصلاً. وبقدر ما تدخل
الحركة الإسلامية في لعبة العقل التاريخي
والسياسي الحديث، لن يكون لها أيُّ حظٍّ في
الوصول إلى السلطة. فرص الوطن
العربي لبلوغ الديموقراطية لعل هذه الإشكالية عبَّر
عنها تساؤل شكيب أرسلان: "لماذا تمدَّن
الآخرون وتأخَّرنا نحن." في البدء يشكِّك
المؤلِّف في دقة هذه المقولة التي تضع العرب
والمسلمين في جهة، والآخرين في جهة أخرى.
والحال أن جزءًا من "الآخرين" فقط – هو
تحديدًا الغرب – هو الذي تقدَّم؛ أما البقية
فحالها كحالنا. وما عَرَفَه هذا الغرب هو
نتيجة طبيعية للحركة التحضيرية. فالمصدر
الأساسي للديموقراطية الغربية هو تطور خاص
وذاتي: ضعف الدولة، واستمرار سلطات أخرى
قديمة غير سلطات الدولة، والطابع الجدلي
الشديد للتاريخ الأوروبي، وتثقيف المجتمع،
والإثراء العام، وتنوع مصادر الثقافة
المؤسِّسة للأنا المسيحية. وفي عرضه أبرز معوقات
التحول الديموقراطي في العالم العربي
والإسلامي، يرى جعيط أن الثورة وثقافة
الثورة، المنتشرة على نطاق واسع في عالمنا
العربي والإسلامي، هي ثقافة معادية حتمًا
للديموقراطية. وأسباب ذلك ومظاهرُه كثيرة:
منها أن الثورة عادةً ما تقدِّم نفسها
بقبضتها القابضة على الحقيقة والمسكونة فيها
وبها، وتستعمل في حمايتها كلَّ وسيلة. فعادةً
ما تطرح الثورة على نفسها أهدافًا ومشاريع
تضحِّي في سبيلها بالأجيال الحاضرة، التي
كثيرًا ما تكون وقودًا لهذه الثورة. وكثيرًا
ما تتَّجه الثورة إلى إعادة صياغة المجتمع –
بل تعمل على تفكُّكه وتذرُّره – ليستحيل
شعبًا مهمته دعم سلطة الدولة/الثورة ليس غير. الفكر العربي
الإسلامي والتنوير لا شكَّ في أن للفكر
الأنواري آثارَه الكبيرة في الفكر والثقافة
العربية الإسلامية، إيجابًا أو سلبًا. وإذا
كان المسلمون فهموا أن الفكر الأنواري قام
على النقد المزدوج للدين، من جهة،
وللاستبداد، من جهة ثانية، فإنهم لم يقتنعوا
– إلا القليل منهم – بأن الدين الإسلامي هو
أحد العوائق التي تقف أمام حداثة الفكر
العربي الإسلامي. وزاد تعميق هذه الرؤية أن
الغرب الأنواري لم يتراءَ للعرب إلا كقوة
هيمنة واحتلال. وإذا كان للمتأثرين بعقيدة
الأنوار ولمعتنقيها أثرُهم في الثقافة
العربية الإسلامية في بداية القرن التاسع
عشر، إلا أن التيار الرئيسي كان التيار
الإصلاحي. فمنذ العام 1880، مع جمال الدين
الأفغاني ومحمد عبده، كان هذا التيار
الإصلاحي هو التيار الذي كان مدعوًّا ليغدو
الحركة الأهم للنهضة العربية الإسلامية،
بوصفها حركة شاملة، أي حركة نهضوية، لا حركة
تحديثية. ملاحظتان حول
الكاتب والكتاب -
تظهر
بعض مواقف المؤلِّف متناقضة إذا نظرنا إليها
بمعزل عن سياقاتها التي وَرَدَتْ فيها؛ وكذلك
إذا حاكمناها محاكمة إيديولوجية. ولكن قد
يزول هذا الموقف النقدي إذا تَعامَلنا مع هذه
المواقف باعتبارها واردة في مراحل تاريخية
مختلفة، وأن الروح البحثية للكاتب ومحاولة
تقصِّيه الحقيقة تجعلان أحكامه متغيرة
ومتحولة بحسب نتائج بحثه، التي من الطبيعي أن
لا تكون ثابتة، ولاسيما في مجال العلوم
الإنسانية. -
لئن
نجح المؤلِّف، إلى حدٍّ ما، في تشخيص أدواء
الثقافة العربية الإسلامية، إلا أن ميله إلى
اعتبار أن مشكلها الأساسي كامن في ذاتها فقط
قد لا يكون صائبًا، خصوصًا أن الكاتب يدرك
الاستهداف الذي كان المشروع النهضوي
والإصلاحي عرضةً له وهو لا يزال في المهد
وينبِّه إليه. ويكون هذا الحكم على ذاتية
الأزمة في ثقافتنا وفي مشروعنا الإصلاحي أكثر
تعسفًا إذا قارنَّاه بالنهضتين اليابانية أو
الصينية اللتين لا شكَّ في أنهما لم تتعرَّضا
لما تعرَّضتْ له المشاريع النهضوية في
العالمين العربي والإسلامي. ***
*** *** تنضيد:
نبيل سلامة ·
باحث وكاتب تونسي. ¨ هشام جعيط، أزمة
الثقافة الإسلامية، دار الطليعة: بيروت
2000؛ 199 ص من القطع المتوسط. [1] Mohamed
Charfi, Islam et liberté : Le Malentendu historique,
L’Harmattan, Paris, 1998. [2]
عياض بن عاشور، الضمير والتشريع: العقلية
المدنية والحقوق الحديثة، [د.ن.]: تونس 1998. [3]
على العكس مما يذهب إليه كثيرون من دارسي
الحركات الإسلامية، الذين يفسِّرون ظهورها
بمبادرات من الدولة في إطار مواجهة
التيارات اليسارية الصاعدة في مرحلة
الستينات والسبعينات.
|
|
|