قراءة صوفية لإنجيل يوحنا

نهج جديد وجريء في تحليل النصِّ الإنجيلي

 

أديب صعب

 

محاولة جريئة لتحليل النصِّ الإنجيلي يطرحها مظهر الملوحي في كتابه قراءة صوفية لإنجيل يوحنا.* وجرأة هذه المحاولة آتية أولاً من جدَّتها. فنحن نعرف تفسيرات صوفية للقرآن، مثل كتاب لطائف الإشارات لعبد الكريم هوازن القشيري – وهو متصوف مسلم وفقيه شافعي من القرن الميلادي الحادي عشر، عاش في نيسابور أيام السلاجقة. وقد جاء كتابُه المذكور تفسيرًا صوفيًّا كاملاً للقرآن الكريم. لكننا لا نعرف تفاسير صوفية للإنجيل قائمة على المقارنة بين النصِّ المسيحي والتصوف الإسلامي – علمًا أن التفاسير المسيحية الأولى التي وضعها الآباء الشرقيون، بما فيها عظات القديس يوحنا الذهبي الفم (344-407)، كانت "صوفية" بامتياز، لأنها انبثقت من خبرة أصحابها المعيشة، أي من حياتهم الدينية العملية، لا من التنظيرات الفلسفية المجردة. لا بل إن اللاهوت المسيحي الشرقي كلَّه لاهوت "صوفي"، حسب تعبير ديونيسوس من القرن الخامس، وحسب نظرة فلاديمير لوسكي في دراسته المعروفة حول اللاهوت الصوفي للكنيسة الشرقية التي صدرت في باريس قبل ستة عقود (1944).

يمكن إدراج كتاب الملوحي تحت باب الدراسات المقارنة، وبالتحديد المقارنة المسيحية–الإسلامية. وهذا حقل طريف ومهم جدًّا للدراسات الدينية التي، إلى أهميتها العلمية في ذاتها، من شأنها أن تؤدي إلى تفاهم أصفى وأعمق بين هاتين الديانتين اللتين يتكوَّن منهما المجتمع العربي. والمقارنة بين الإسلام والمسيحية، كما بين أية ديانتين أو مجموعة ديانات، حقل واسع جدًّا. ويمكن أن تتناول أيَّ جانب من الجوانب الدينية، كالعقائد والطقوس والمؤسَّسات. كما يمكن أن يباشر الدارسُ المقارنةَ بين خطَّين دينيين لمجرد تجاورهما الزمني، كالمقارنة بين حركة السيخ في الهند وحركة الإصلاح المسيحي (البروتستانتي) في ألمانيا، انطلاقًا من مفهوم التصحيح الذي نادت به الحركتان، ومن كون مؤسِّس السيخ ناناك (1469-1538) كان معاصرًا لقائد حركة الإصلاح مارتن لوثر (1483-1546). ولعل دراسة من هذا النوع – وهي ما لم أسمع به قط – تعطي نتائج مفيدة جدًّا على غير صعيد.

في دراسته التفسيرية المقارنة، لاحظ الملوحي أن إنجيل يوحنا يتميز على الأناجيل الثلاثة الأخرى – متى ومرقس ولوقا – في كونه صوفيًّا أو روحيًّا بامتياز. وهذا معروف جدًّا، لدى الكنيسة الشرقية على وجه الخصوص، التي تركِّز تركيزًا واضحًا على إنجيل يوحنا ورسالته الأولى، إضافة إلى رسائل بولس. فإنجيل يوحنا، كما يشير المؤلِّف، لا يقتصر على سَرْد التعاليم، بل يتعدى السَّرْد إلى التأمل أو التفسير. وهو، بهذا، "إعادة كتابة للتاريخ نفسه من زاوية الروح" (ص 17). وفي سبيل الإضاءة على المنحى الصوفي في إنجيل يوحنا، يختار المؤلِّف ثمانية رموز أو مفاهيم أو مفاتيح أساسية هي الآتية: البدء، الحياة، النور، المحبة، الحَمَل (الخروف)، الخمر، الماء، الخبز. ويلاحظ أن "الحياة" و"النور" من أحب الأسماء الحسنى – أي أسماء الله – إلى الصوفيين. ويتوقف عند رمز الخمر، الذي برز في الثقافات الدينية الهندية والفارسية والإغريقية والعربية وسواها، نظرًا لارتباط الخمر بـ"القدرة التحويلية الكامنة فيها، التي جعلت الكثير من الشعوب القديمة تعتبرها ذات مصدر إلهي" (ص 27). وتفرُّد إنجيل يوحنا في رواية أولى معجزات المسيح – وهي تحويله الماء في عرس قانا الجليل خمرًا – إنما جاء تأكيدًا على صوفية هذا الإنجيل. فقد أعلن المسيح مجده في العرس، وصار هو العريس الحقيقي الذي يحمل رسالة تحويل حياة البشر من الهلاك إلى الخلاص.

وقبل استهلاله شرح إنجيل يوحنا (ص 199-450)، يعقد المؤلِّف فصلاً طريفًا بعنوان: "نور الأنوار في كشف السبعة الأسرار" (ص 109-140). وهذه "الأسرار" تقوم مقام "المحطات" أو "المراحل" التي تزخر بها الأدبيات الرهبانية (المسيحية) والصوفية (الإسلامية)؛ وهي مراحل "الجهاد الأكبر"، أو تنقية النفس كشرط لحيازتها الخلاص. وتختلف أسماء هذه المراحل وأوصافها وترتيبها من كتاب إلى آخر داخل الدين الواحد أو بين الأديان، وإن تشابهت مراميها. لكن المؤلِّف يراها كالآتي:

1.    سر الرضا: "أنا هو خبز الحياة؛ مَن يُقبِل إليَّ فلا يجوع"؛

  1. سر رؤية القلب أو الاستنارة: "أنا هو نور العالم. مَن يتبعني فلا يمشي في الظلمة، بل يكون له نور الحياة"؛
  2. سر الدخول أو الاقتراب: "أنا هو الباب"؛
  3. سر الرعاية: "أنا هو الراعي الصالح"؛
  4. سر الموت والحياة: "مَن آمن بي، ولو مات، فسيحيا"؛
  5. سر التقدم: "أنا هو الطريق والحق والحياة"؛
  6. سر الثبوت: "الذي يثبت فيَّ وأنا فيه، هذا يأتي بثمر كثير".

قلنا إن الجرأة التي تميِّز محاولة مظهر الملوحي في تفسيره "الصوفي" لإنجيل يوحنا آتيةٌ، أولاً، من جدَّتها، لكونها، حسب علمنا، المحاولة الأولى التي تفتح باب المقارنة بين النصِّ الإنجيلي والتراث الصوفي الإسلامي. إلا أن ثمة مصدرًا آخر لهذه الجرأة، هو إقامة نتائج مهمة على شواهد غير كافية أو غير حاسمة. والنتائج التي نعني تكاد تنحصر في اعتبار الكاتب أن الكثير من الشعر والأدب الصوفيين يشيران إلى شخص يسوع المسيح أو تعاليمه.

من هذا الشعر بيت ابن عربي الشهير: "أدين بدين الحب أنَّى توجهتْ/ ركائبُه، فالحب ديني وإيماني" (ص 24). فالمؤلِّف يجد في "دين الحب" إشارة واضحة إلى المسيحية. لكن عبارة "الحب" ومشتقاتها ومرادفاتها تكثر في الشعر العربي، بدءًا من الجاهلية، ولا تشير بالضرورة إلى شيء خارج خبرة الإنسان وفطرته. أضف إلى هذا أن بعض غُلاة المسيحيين لا يؤيدون ابن عربي ومن جرى مجراه في أن الحب يصيِّر القلب "بيت أوثان" و"كعبة طائف" و"ألواح توراة" و"مصحف قرآن". فهذا، في رأيهم، يلغي فرادة المسيحية ويذوِّبها في ما عداها.

كما وجد الملوحي في قول الحلاج "للناس حجٌّ، ولي حجٌّ إلى سكني" إشارة إلى المسيح (ص 26). لكن هذا الاستنتاج "جريء"، بمعنى افتقاره إلى الدليل الحاسم. ومثله قول الشيرازي: "إليكَ قصدي" وقول ذي النون المصري: "لكَ مِن قلبي المكانُ المصون" (ص 26): ما الذي يثبت إشارتهما إلى المسيح المجسَّد، لا إلى الله المجرَّد؟

ثم يعرِّج الملوحي على خمرية ابن الفارض، حيث "الخمرة العجيبة تجعل الموتى يحيون، والمرضى يشفون، والمشلولين يمشون، والضالِّين يهتدون، والعمي يبصرون، والملسوعين يبرؤون" (ص 30)؛ فلا يستقيم معنى القصيدة "إلا إذا نحن ربطناها بشخص سيدنا المسيح، كما يقدِّمه إنجيل يوحنا" (ص 31). أليس هذا من باب المبالغة؟ ألم يقل جميل بثينة: "مفلَّجة الأنياب، لو أن ريقها/ تداوى به الموتى لقاموا من القبر"؟ ألا يحمل القرآن نفسه إشارات إلى الخمر الإلهية؟

لذلك أرى أن موقف المؤلِّف هو من نوع التأكيد الجريء الذي يعوزه البرهان، لا من نوع الاستنتاج العلمي المدعوم بالشواهد الوافية. وأجد تأييدًا لموقفي في وصف د. رضوان السيد، في تقديمه لكتاب قراءة المؤلِّف للنصِّ الإنجيلي، بأنها "قراءة ذوقيَّة". و"الذوق" من المصطلحات الصوفية، ومعناه "الحدس". من هنا يضيف السيد أن هذه القراءة "تستند إلى تجربة فردية أو خاصة". وليس في هذا المنهج (أو في سواه) أي خطأ إذا أحْسَنَ صاحبُه الدفاع عنه. غير أن المؤلِّف شرع في تطبيق منهجه من دون هذا الدفاع. لذلك كان الأحرى استهلالُ الكتاب، نظرًا إلى جدَّة طروحاته، بفصل تمهيدي يتناول المنهج ويحلِّل المعاني المختلفة للصوفية ومفهومه الخاص لها، خصوصًا لتبرير عنوان الكتاب: قراءة صوفية لإنجيل يوحنا.

هذا الكلام، طبعًا، لا يلغي البتة طرافة الكتاب وفائدته وأهمية فصوله التمهيدية التي تتناول:

-       الرموز الصوفية في إنجيل يوحنا

-       معنى عبارة "ابن الله"

-       كلام الله تعالى بين الإسلام والمسيحية

-       "من قبل أن يكون إبرهيم أنا هو"

-       تجلِّي الحكمة الإلهية

-       سيدنا عيسى المسيح وحواريُّوه

-       سيدنا عيسى ومسألة مدينة القدس

-       المكان الحقيقي للعبادة

-       النعمة والرحمة مقابل الشريعة

-       معجزات وعلامات

-       موت سيدنا عيسى المسيح في إنجيل يوحنا

-       نور الأنوار في كشف السبعة الأسرار...

ثم إضافة "مدخل" و"معجم" و"مقدمة"، قبل بدء تفسير الإنجيل نفسه، فصلاً فصلاً، وآية آية. وقد جاء في تقديم الكتاب أن أحد أهدافه "بيان التقارُب بين المسيحية والإسلام، أو بين الفكرين المسيحي والإسلامي". ولعل أهم وسيلة اعتمدها المؤلِّف لمخاطبة القارئ العربي المسلم اللجوء إلى عبارات من نوع: "سيدنا عيسى، سلامه علينا"، "فقهاء اليهود"، "الحواريُّون"، "الحي القيُّوم"، إلخ، فضلاً عن إخراج الكتاب، نصًّا وغلافًا، على غرار كتب التفسير الشائعة.

يبقى كتاب مظهر الملوحي قراءة صوفية لإنجيل يوحنا، على "ذوقيَّته" المنفصلة عن التقنيات الفلسفية واللاهوتية، مصدر إيحاءات وإضاءات غنية، لا حياتيًّا أو عمليًّا فحسب، بل فلسفيًّا ولاهوتيًّا أيضًا، خصوصًا في مجال لغة الدين والرمزية الدينية، حيث يصرُّ المؤلِّف على استقلالية النصِّ الديني، ووقوفه منفردًا ومتفرِّدًا، وعدم قابليته للاختزال إلى أيِّ نظام فكري سواه. وتبقى مقاربة الملوحي "الصوفية" جدية ومهمة، كما يبقى تفسيره "الصوفي" لإنجيل يوحنا قائمًا، بغضِّ النظر عن صحة إشارة المتصوفين المسلمين، أو عدم صحة هذه الإشارة، إلى المسيح.

*** *** ***


* مظهر الملوحي، قراءة صوفية لإنجيل يوحنا، بيروت: دار بيسان، 2004، 452 ص.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود