|
عملاق اللون الفلسطيني أهلاً بهذا الحضور!* زاهد عزت حرش تلتقي الطبيعةُ بالسماء كلما عانقتْ رؤوسُ
الأشجار الباسقة أهدابَ الغيوم وظلالَ
الفضاء. فمُدَّ يديك، أيها الجبل الشامخ، في
عطائك ورسوخك الأبدي؛ مُدَّ يديك إلى أعماق
الغيم واستنزل المطر! ففي هذا الزمن الرديء لم
يعد هناك من أحد, لم يعد هناك من سيف يصرخ في
وجه القَدَر – سوى الذين صُلِبوا على جذوع
الزيتون، وربضوا وراء غابات الذكريات, حفاظًا
على أرض استبيحت وشعب ذُبِحَ من الشريان إلى
الشريان. فعذرًا، أيتها الدماء، إذا فرحنا
قليلاً! فليس لنا من خيار سوى البقاء؛ وليس
لنا من خيار سوى أن نمارس رقصة الموت فرحًا –
ريثما تنتصر الحياة. يا تلك
الألوان المائية المشبعة بالبكاء لما بعد
الجراح, والمثقلة بالجراح لما بعد البكاء.
أيتها المولودة على بساط أبيض بدماء الشهداء،
ردًّا على مذابح التعريب والتعريف والتغريب
في سجلات الإرث العربي على حدود بيروت – حيث
كان الفقراء – ولا يزالون – موائد للحروب
ولنزاعات القوى الجاثمة على صدر الوطن. هل
سنشفى يومًا من هذا البغاء القاتل باسم
الثورة؟! أم ستستمر الثورة "تأكل أبنائها"
عبر مسارات التاريخ والأيام؟!
كل هذا لم يمنع
أوراق الدوالي المخضَّبة بلون دماء أبناء
البشر أن تسافر إلى بقاع الأرض كلِّها، تحمل
صيغة موتهم وشهادة بقائهم في مسامات الحلم
إلى أبد الآبدين... أولئك الذين سحقتْهم
جحافلُ الاجتياح الإسرائيلي للبنان، بعد أن
أنهكتْهم كلُّ الانتماءات البعيدة عن
انتماءات الوطن. هي الأوراق تلك, التي عبرتْ
متسلِّلة إلى وطنها الأم, لتروي شيئًا من
صيرورة العذاب والذبح, ولتستقرَّ على حدقات
العيون. فكيف أنساها، وكانت أول تعريف ولقاء
لي بعملاق اللون الفلسطيني، الأستاذ إسماعيل
شموط، في أواخر السبعينيات – صورًا لأعمال
امتدت ما بين مجازر تل الزعتر ومذابح صبرا
وشاتيلا الدامية! *** امتدَّ الجرح بنا واستمر اللقاء. فتوالدت على
صفحات البصيرة أعمالُ يديك, منذ البدايات،
متصلة مع كلِّ قطرة لون نزفت على سطح لوحة
عذراء بتول، لتشكِّل هذا التواصل الوجداني
لصديقين لم يلتقيا سوى مرة واحدة, على هامش
حفل تكريم أقامتْه الناصرة, برعاية رئيسها
المهندس رامز جرايسي – هذا الصديق الذي
تقاسمناه بيننا دون وعي, كما كاد سيف سليمان
الحكيم أن يقتسم طفل المرأتين! لكنه الصديق
العصيُّ على التجزيء، يدًا وقلبًا وصداقة,
ليكون هو الجامع بيننا في ظلال تلك الأمسية
التي أقامها احتفاءً بحصولك على وسام القدس
من أرض فلسطين في العام 1997. فتوالى اللقاء عبر
اللون والكلمات بيننا إلى ما بعد غدٍ لأنه
صورة عن تواصل الأرض مع السماء! نعم، أنت تقف
اليوم، أيها الأستاذ الكبير، على بساط "مؤسَّسة
الفكر العربي"، في بيروت ذاتها, "بيروت
القاتل والقتيل، بيروت الذبح من الشريان إلى
الشريان"؛ وأيضًا بيروت التصدِّي والبقاء،
وعنقاء الثورة المنتصبة في وجه التخاذُل
والتآمر على الإنسان العربي، والحق العربي،
والتاريخ العربي. بيروت أصوات التحدي
الصارخة، من حناجر الفقراء والأنبياء،
لأسماء ما ماتت، ولن تموت أبد الدهر! وهي التي
تحتفي بك سرًّا، وتضع الوسام على صدرك, ليصبح
وسام التكريم هذا مكرَّمًا بك ومعتزًّا بياقة
قميصك المضمَّخ برائحة بيارات الليمون
الممتدة على بساط فلسطين. فأهلاً بك،
أبا يزيد. فهذه بيروت تفتح ذراعيها لتلتقيك
وتقبِّل وجنتيك بين لقاءين: الأول جاء
بمناسبة افتتاح معرض "السيرة والمسيرة"
قبل شهرين؛ والثاني يصادف اليوم الخامس من
كانون الأول احتفاءً بك وبعطائك المثابر على
مرِّ السنين.
أنا هنا مشغوف
بحالة الهذيان؛ إذ سقط الحلم عليَّ, فخلت أنني
أقف في ساحة البرج (ساحة الشهداء)، أخاطب
قدومك، أو عودتي إلى بيروت, وكأنني أحتفي وحدي
بمناسبة اختيار "مؤسَّسة الفكر العربي"
لك ضمن أربعة من مبدعي هذا الوطن العربي. لكن
هيهات أن تأتي الأيام بما أريد! *** منذ أوائل هذا الكانون الشتائي المصطاف
شمسًا ودفئًا, وصلني نبأ اختيار الأستاذ
إسماعيل شموط للتكريم الآنف الذكر. فتوالت
الأيام عبر شريط الذكريات كأنها حلم في
مسامات الذهن. فامتلأتُ شوقًا وحنينًا إلى
تاريخ يخبِّئ بين دفَّتيه فلسطين كلَّها –
بيارات الليمون والبرتقال وأغصان الزيتون
كلَّها، ورمال شواطئها وسهولها الخضراء
كلَّها – ويطوف في ربوعها، من أعالي الجليل
إلى أطراف أطراف النقب. يستحم في مياه
بحيرتها، واردًا "ورد الفرات زئيره
والنيلا"، ومشاكسًا وجوه أطفالها السُّمر،
بأكفِّهم المملوءة بالحجارة وأقدامهم
العارية – ومساحات من توثيق مسيرة هذا الشعب
وعنائه الطويل. كأنك، أيها
الأستاذ، بأعمال يديك "أرْشَفْتَ"
وسجَّلت تاريخ القضية الفلسطينية، بكلِّ
معالمها ومآسيها وآلامها وأمانيها، بكلِّ
أحلامها وطموحاتها وثورتها الممتدة من جيل
إلى جيل!
اسمح لي هنا
بدقيقة صمت إكرامًا لهذا العطاء. "فلحظة
الصمت أبلغ إنْ صَدَقَتْ." كما أن لا حيلة
لي كي أشاركك هذا الفرح عن قرب. فأنا لا أملك
سوى التماثل معك والتحايُل على هذا البعد
القسري عبر مسامات الكلمات لأكون قريبًا منك!
فعذرًا، يا عملاق اللون الفلسطيني، إن تأخر
موعدُ لقائنا على حدقات بيروت! فسنلتقي حتمًا
على حدقات يافا قبل أن تهرب الأيام الباقية من
صدر السنين. ومن قصيدة "مراثي
الذات" أهدي إليك هذه الكلمات: أيتها النجوم اجمعي أيامي، فلا أحدْ! كان البَرقُ صديقي، ولَم يَعُدْ. والريح تَكسِرُ غصنًا مُزهرًا عَرْبَشَ فَوقَ جَبيني. تَظُنُّ الريحُ – وهي عاتيةٌ – أن كأسي مليئة بماءِ الوردْ! والريحُ لا تَدري – أو أنها تَدري – ولا يَدري أحدْ! كم تشتاقُ الخمرةَ روحي وقد نَضَبَتِ البئرُ من جَزْرٍ ومَدْ. أشتاقُكِ، أيتها الخَمرةُ، وما باليدْ. علَّ كأسي تَكَسَّرتْ ما بينَ أمسٍ وغدْ. فلسطينُ خاوية، ودامية، لم يَبقَ منها فوق هذا الرُكام غير الوَعدْ وطفل شَرِب دَمْعَ الحزن، ووَعَدْ قرأ، باسم الثورة، فاتحةً على العرب وكَتَبَ قبل أن تجفَّ دماءُ قتلاه أسطورةَ البقاء على جَنزير دبابة: "إنَّا هنا باقون..." إنَّا باقونَ للأبدْ. شفا عمرو، 5/12/2003 *** *** *** * كلمة لم تُلقَ في حفل تكريم الأستاذ
إسماعيل شموط الذي أقامته "مؤسَّسة
الفكر العربي" في بيروت. |
|
|