|
العنوسة
تعاريف نبدأ،
بادئ ذي بدء، بتعريف ما تعنيه العنوسة، حيث
ورد في القاموس المحيط للفيروزابادي أن العانِس
هي "البنت البالغة التي لم تتزوج [والرجل
الذي لم يتزوج]، جمعها عوانس وعُنس وعُنَّس
وعُنوس"؛ وأيضًا، العانس هو "الجمل
الثمين"، كما أن العانس هي "الناقة
الثمينة". وكلمة عانس مشتقة من عَنَس؛
والعنس هو الناقةُ الصلبة، والعُقاب، وعطفُ
العود وقلبُه، أي ثني الغصن وقلب وضعه. وأيضًا
يقال: "عنست الجارية، أي طال مكثُها عند
أهلها بعد إدراكها [بلوغها] حتى خرجت من عداد
الأبكار ولم تتزوج قط." العانس،
إذن، كما نعرفها عمومًا، هي البنت البالغة
التي لم تتزوج، و/أو هو الرجل الذي لم يتزوج.
فـالقاموس المحيط أطلق هذا اللفظ على
المرأة كما على الرجل؛ وهذه ملاحظة جديرة
بالاهتمام. لكن... قبل
الدخول في مناقشة العنوسة، أسبابًا ونتائج،
لا بدَّ من تعريف مفهوم الأسرة ووظائفها بشكل
مختصر. لفظ "الأسرة" مشتق من الأسر، وهو
التقييد أو الشد بالإسار؛ أي أنه يتضمن معنى
الإحكام والقوة. وقد أُطلِقَ هذا اللفظ على
عشيرة الإنسان لأن الصلات القوية التي توحِّد
أعضاءها وتحول دون تشتتهم تشبه الإسار الذي
يقيِّد الأسير، ولأنها توفر لأعضائها
الحماية وأسباب القوة والمنعة بما يتولد من
اجتماعهم من تعاون وتناصر وتوادٍّ وتراحم. أما
الكلمة المرادفة لكلمة أسرة، أي "العائلة"،
فتقوم على أصل لغوى آخر. فعيال المرء هم الذين
يتدبَّر أمرهم ويكفل عيشهم. أي أن الأسرة هي
جماعة من الناس توحِّدهم صلات قربى قوية
قائمة على روابط الدم أو الزواج أو التبني
والعيش المشترك. ومن وظائفها الإشباع العاطفي
لأفرادها والتواصل الجنسي والحفاظ على مظاهر
الحضارة ونقلها من جيل إلى آخر؛ مما يعني أن
للأسرة مهامًّا كثيرة، فردية وجماعية. لكنَّ
لكلِّ ظاهرة استثناءً، سواء كانت طبيعية أم
اجتماعية – واستثناء مفهوم الأسرة هو مفهوم
العنوسة. ما
هي أسباب العنوسة؟ كما
أن لكلِّ ظواهر الحياة أسبابًا كذلك للعنوسة
أيضًا أسبابها الكثيرة. وما نراه الآن من تردد
وامتناع عن إنشاء أسرة له، في نظر بعضهم،
مبرراته؛ ومنها أن لكلِّ إنسان الحقَّ في
اختيار الطريق الذي يناسب شخصيته في خدمة
المجتمع أو في شكل رحلة العمر. ولهذا الواقع
الذي تفرضه الحياة على المرء، أو لهذا القرار
الجريء الذي يتخذه، سواء بالبقاء حرًّا دون
قيد أسري، أو بالزواج، أسبابه. ومن أسباب
العنوسة المباشرة والواضحة: 1.
الوضع
الاقتصادي
الذي يتضمن، في جملة ما يتضمن، غلاء البيوت،
سواء كانت مستأجرة أم مملوكة، وما يرافق ذلك
من ضعف دور الجمعيات التعاونية – هذا بالنسبة
للبيوت. وعن هذه النقطة تحديدًا، أي عن الوضع
الاقتصادي، نستطيع التوسع في صفحات لأنها لا
تمس في طريقها السكن حصرًا، بل أثاث المنزل
كاملاً، مما يقودنا إلى تكاليف الزواج،
والمهر، وتكاليف حفلة العرس، والجهاز، إلخ.
إن هذه الالتزامات أدَّت إلى تقليل فرص
الزواج لعدم قدرة العريس على القيام بكلِّ
هذه الأعباء. وهنا نلفت النظر إلى ظاهرة حديثة
بدأت بالانتشار في مناطق عدة من العالم،
وأعني ظاهرة الأعراس الجماعية وما يمكن أن
توفره على العرسان من تكاليف باهظة. وقد
اعتبرت أن هذه النقطة هي الأساس لأن معادلة
المداخيل والنفقات غير المتوازنة هي، على ما
يبدو، من المسببات الجوهرية لعنوسة الطرفين. 2.
هجرة
الشباب،
وتتضمن: أ.
هجرة الشباب للعمل خارج
البلاد بسبب ضعف فرص العمل وقلة المداخيل.
فالكثير من الشباب مسؤول ليس فقط عن نفسه، بل
أيضًا عن والديه. ب.
هجرة الشباب الذين يسافرون
من أجل الدراسة ويتزوجون من أجنبيات ويستقرون
في بلاد الغربة؛ ولعل أحد أسباب زواجهم من
أجنبيات هو رخص تكاليف الزواج. ت.
إن هجرة الشباب للدراسة قد
أدت إلى نتيجة مفادها أن الطلاب الذين حصلوا
على أعلى الشهادات العلمية وعادوا إلى الوطن
عاشوا في تناقض فكري بين طريقة زواج تقليدية،
يجد المرء فيها نفسه مضطرًا إلى الارتباط
بشخص لا يعرفه، وبين الرغبة في زواج عصري.
وهذه الأسباب قد أدت بقسم هام منهم إلى عدم
الزواج خوفًا من نتائج غير مضمونة، خاصةً أن
التكافؤ الفكري والمساواة الثقافية بين
الجنسين غير موجودين لأن الاختيار كثيرًا ما
يتم عن طريق الصدفة أو عن طريق "الخطَّابة".
وأيضًا... 3.
شاءت
الطبيعة ازدياد نسبة الإناث عمومًا عن
نسبة الذكور. وهذا الذي يبدو خللاً طبيعيًّا
نلحظه في البلدان المتقدمة أكثر منه في
البلدان النامية، ومنها سورية. وهذا قد يكون
لحكمة ربانية، ربما لتخفِّف الطبيعة من غليان
الذكور وتوتر العالم العسكري والسياسي.
وأيضًا... 4.
لعل
من أهم أسباب العنوسة التفاوت الاجتماعي
والثقافي، حيث غالبًا ما يرفض الأهل الزواج
بسبب الوضع الطبقي و/أو الاجتماعي لأحد
الطرفين لأنه "غير مناسب للطرف الآخر"،
بغضِّ النظر عن الملائمة الفكرية أو العلاقة
العاطفية التي قد تربطهما؛ مما يقود إلى تلك
الحجة التي تتكرر دائمًا: "مو مناسبين لبعض"!
ويأتي هنا دور الأهل التقليدي في منع هذا
الزواج بحجة "عدم التكافؤ". وهذا
الجانب يقودنا إلى الجانب الآخر الذي سأتطرق
إليه بشكل موجز، المتعلق بالمستوى التعليمي؛
وهو جانب هام جدًّا، خاصةً منه ذلك الشق الذي
يتعلق بموضوع تعليم الفتاة الناجم خاصةً عن
إلزامية التعليم للذكور والإناث. فهذا الجانب
هو الذي يجعل من العلم والشهادات، في الواقع،
أحد أسباب العنوسة. وقد يكون من مسبباته أن
طرق الزواج التقليدية لم تعد مناسبة للفتاة
المتعلِّمة العاملة – هذه الفتاة، التي فتح
العلمُ أمامها آفاقًا واسعة، أصبحت ذات شخصية
قوية ومتطلبة، وصارت تضع شروطًا قد لا يقبلها
الذكر العادي، وخاصة في بلد كبلدنا. فهذه
الفتاة أضحى لها الحق والقدرة، بحكم كونها
تعمل وليست بحاجة لمعونة الأب أو الأخ؛ هذه
الفتاة، التي قد تكون أحيانًا هي المعيل
لأسرتها، أصبح بوسعها أن تقول رأيها وأن
تعيش، إلى حدٍّ ما، مستقلة على هواها. وهذا
مما يزيد من عامل العنوسة، وخاصة في بلادنا،
لأن الكثير من الشبان الشرقيين، مع الأسف،
مازال يفضل الفتاة ذات المستوى التعليمي
المتوسط أو الضعيف، بحجة أن الفتاة
المتعلِّمة خبرت الحياة وأن الرجل، حين يبغي
تأسيس أسرة، يفضل امرأة خاضعة مستكينة، وليس
امرأة تناقشه وتحاوره؛ وبالتالي، فهو بحاجة
لأن يضمن سيطرته الكاملة على الأسرة التي
ينوي إنشاءها. وهذا الوضع يُبعِده عن الفتاة
المتعلِّمة التي تفضل لذلك البقاء دون زواج
على ارتباط قائم على سيطرة ذكورية متخلفة.
وأيضًا تُمنَع الفتاة أحيانًا من الزواج
ظاهريًّا لإحدى الحجج التي ذكرناها؛ لكن سبب
حرمانها من الزواج فعلاً هو عدم خروج الإرث من
العائلة. 5.
إذا
كانت كل الأسباب التي ذكرناها أعلاه تؤدي في
النهاية إلى العنوسة فإن العنوسة ليست دائمًا
عنوسة قسرية، بل هناك أيضًا عنوسة اختيارية؛
بمعنى أن اختيارها يتم بمطلق الإرادة وبكامل
التصميم. لماذا؟ ربما
يكون ذلك لعدم الرغبة في تحمل مسؤولية الأسرة
والأطفال – وهذا ينطبق على الجنسين. أو قد
يكون لأسباب نفسية، كتجربة تعرَّض لها أحد
الطرفين وأدَّت إلى اتخاذ هذا الموقف (منها،
مثلاً، قصص الحب الفاشلة، أو خيانة أحد
الطرفين، أو الموت). وهنا لا بدَّ من الإشارة
إلى نقطة هامة من الجدير التطرق إليها، ألا
وهي ذلك التطور الذي جعل من مجتمعنا مزيجًا
متناقضًا ومتفجرًا من موروث قديم يعيش في قاع
عقولنا، من جهة، وانفتاح لا مناص من قبوله
والاعتراف به، من جهة أخرى. فبعض الفتيات
يُعجَبن مثلاً بأحد الشباب ويفضِّلن
الارتباط به وتكملة مشوار العمر معه؛ لكن
المجتمع والأعراف والتقاليد لا تسمح للفتاة
بالتقدم لطلب يد الشاب، فتبقى هذه الفتاة
تنتظر هذا الشاب الذي قد يكون غير شاعر
بوجودها؛ وتستمر هذه الفتاة في رفض العرسان
وانتظار هذا "الآخر" الذي قد لا يأتي.
وهذا الأمر يؤدى، كما هو واضح، إلى عنوسة هي،
في نفس الوقت، اختيارية وقسرية. فالمجتمع هو
الذي يفرض شكل التعارف واللقاء، وهو الذي
يمنع ما يبدو وكأنه خارج عن المألوف. وأيضًا
هناك وجه آخر لما أسميناه بالعنوسة
الاختيارية، ألا وهو أن المرأة المستقلة
اقتصاديًّا تستطيع العيش وحدها في مسكن خاص
بها؛ وهي، مع تقدم السن، تصبح مقبولة
اجتماعيًّا، خاصة وأن الأمان الاجتماعي في
بلدنا، بشكل عام، قد زرع في نفسها الجرأة على
اتخاذ قرار الاستقلالية عن الأخ المتزوج أو
الأخت المتزوجة؛ وبالتالي، أصبحت هذه الفتاة
غير مضطرة للزواج من أجل "السترة". إذن،
نستطيع أن نقول إن العنوسة الاختيارية تحمل
في داخلها عنوسة قسرية يتحمل المجتمع جزءًا
من مسؤوليتها بسبب عدم تغييره للكثير من
عاداته وأعرافه. ولأن
المجتمع لا ينمو ولا يتطور إذا لم يقم على
خلايا أسرية تنقل الموروث الفكري والحضاري
إلى الأجيال اللاحقة عن طريق التنشئة
والتعليم، ولأن هذا الموروث الحضاري ينتقل
قسمٌ كبير منه من الأهل إلى الأولاد ثم
الأحفاد، فإننا مضطرون للتوقف قليلاً أمام... نتائج
العنوسة لو
بحثنا في نتائج العنوسة في الغرب وفي الشرق
لوجدنا أن بعض هذه النتائج مشترك وبعضه مختلف. فمن
أهم نتائجها المشتركة بين الشرق والغرب،
باعتراف الجميع، شعور الوحدة الذي يصيب
العانس، ذكرًا أو أنثى – هذا الشعور الذي
يمكن تعويضه نسبيًّا بالكثير من العلاقات
الاجتماعية والصداقات. لكن يبقى واقعُ أنه لا
شريك يقف مع الآخر في لحظات الفرح والحزن من
أكبر النتائج السلبية للعنوسة، وخاصة
بالنسبة لنا. فنحن، كما هو معروف، من الشعوب
الاجتماعية والمحبة للآخر، وأصحاب لهفة قد
تصل إلى درجة المبالغة في التدخل في حياة
الآخرين. والنتيجة
الثانية للعنوسة بالنسبة للذكور، في بلادنا
تحديدًا، هو عدم استمرار اسم العائلة ونسبها
إلى أجيال قادمة، مما يجعلها غير مستحبة. كما
أن العانس غالبًا ما تواجَه بالانتقاد و/أو
تُدفَع لانتقاد ذاتها لكثرة التعليقات التي
توجَّه لها بسبب كونها "غير شاطرة" لأن
غيرها من البنات فزن بالعريس، بينما فشلت هي
في ذلك! ثم
إن العنوسة غالبًا ما تؤدي، وخاصة عند
البنات، إلى نوع من القمع الذكوري من الأب أو
الأخ بحجة أنها بحاجة إلى حماية وأن "كلام
الناس لا يرحم"؛ و/أو إلى الكبت الجنسي الذي
يمارَس على الفتاة العانس، خاصة أن المجتمع
لا يقبل بعلاقات جنسية خارج إطار الزواج
الكلاسيكي، فتعيش العانس ضمن جدران سجن غير
مرئي، محاط بفكرة حمايتها من المجتمع الذي
"لا يرحم". وأيضًا... من
النتائج السلبية للعنوسة كبت مشاعر الأمومة
عند الفتاة العانس لأن مجتمعنا يرفض إشباع
هذه الغريزة عن طريق التبني لان فكرة أطفال
الغير ليست محبذة. لكن
تبقى للعنوسة بعض الإيجابيات، ومنها أننا
مجتمعات كثيرة الولادات؛ وعدم الزواج يخفف،
بشكل أو بآخر، من هذه المعضلة القائمة. وهذا
يقودنا إلى التوقف قليلاً عند... الجانب
الاجتماعي للعنوسة وانعكاساته فالعنوسة،
في الأساس، ظاهرة اجتماعية؛ وهي انعكاس مباشر
للوضع الاقتصادي السائد. وارتفاع معدلات
العنوسة عند الذكور والإناث مرتبط بالوضع
الاقتصادي، والتطور التعليمي والثقافي
والدراسي، وتحديد السن الملائمة للزواج.
والظروف الخاصة التي تسهل الزواج أو تعرقله
مرتبطة بالمجتمع، وتتغير مع التغيرات
المرتبطة بالتعليم والعمل والمهور وغير ذلك.
ونلاحظ في هذا الخصوص ما يلي: 1.
نسبة
العنوسة عند النساء أعلى من نسبتها عند
الرجال. ونتساءل عن السبب الذي يدفع بالمرأة
لأن تضحي بأمومتها ولا ترضى بالزواج من أيٍّ
كان: هل السبب لأن المرأة أكثر قدرة من الرجل
على العيش مستقلة ووحيدة؟ أم هي أكثر قدرة منه
على مجابهة المجتمع؟ 2. لو أخذنا شريحة من النساء غير المتزوجات لوجدنا أن أكثريتهن متعلِّمات و/أو عاملات، ومن شريحة اجتماعية متوسطة أو أعلى؛ أي أنهن يتمتعن بوضع مادي جيد ولسن عبئًا على أحد من الأهل والاخوة؛ مما يعني أن مشكلة العنوسة غير مطروحة كمشكلة عند الفقراء، إنما هي مشكلة الطبقات الوسطى والعليا من المجتمع، أي، عمليًّا، مشكلة المرأة المتعلمة والقادرة نسبيًّا على شكل من أشكال الاستقلال المادي. فتلك الفئة من النسوة قادرة على اختيار هذا الشكل من الحياة عن قناعة. وهذا واقع لا ينفيه أن هناك من يقول إن ازدياد عدد العوانس، نساءً ورجالاً، بسبب ارتفاع المستوى التعليمي للمرأة، هو أمر ضار. فما فائدة العلم إذا كان على الفتاة أن تتزوج في النهاية وتعلق شهاداتها العلمية في المطبخ، ومادام الهدف الأول والأخير للبنت والوظيفة الأولى والأخيرة التي تهيِّئ نفسها لممارستها هي الزواج؟ وهذا رأي خطير يجب الوقوف ضده بحزم. يبقى أن من أسباب العنوسة عند المرأة، من أحد الجوانب، تفتُّح وعيها وعدم قبولها، بالتالي، ذلك المبدأ الشعبي المصري القائل: "ظل راجل ولا ظل حيطة"! وتفضيلها لهذا الطريق، على صعوبته، دليل على قوة الشخصية والإرادة، حيث يترتب على النساء اللواتي اخترن هذا الطريق أن يجابهن ليس فقط أسرهنَّ، بل المجتمع بكامله. 3.
نلاحظ أن العنوسة، كظاهرة
اجتماعية، تتطور مع ازدياد الوعي. وليس أدل
على ذلك من ارتفاع سن الزواج. فمثلاً ارتفع سن
الزواج عند الفتيات والشباب للأسباب الآنفة
الذكر. ففي لبنان ارتفع متوسط عمر الشباب إلى
اثنين وثلاثين عامًا، وعند النساء إلى سبعة
وعشرين؛ ويُتوقَّع أن تصبح نسبة العزوبة 60% في
العام 2008. وفي الجزائر ارتفع أيضًا سن الزواج
عند الشباب إلى 28 سنة، وعند النساء إلى 24 سنة؛
بينما في مصر تجاوز خمسة عشر مليون رجل وامرأة
سن الثلاثين دون زواج. وبلغت نسبة العنوسة في
الكويت 13%. وأيضًا... 4.
لا بدَّ من التوقف قليلاً
أمام ما سبق وأشرت إليه مما يتعلق بالفرق بين
عنوسة الرجل وعنوسة المرأة، لأنه على الرغم
أن كلمة عانس تُطلَق لغويًّا على الجنسين
لكن نظرة مجتمعاتنا إلى عنوسة الرجل والمرأة
مختلفة جدًّا، مع أن هذه المجتمعات تدَّعي
نظريًّا المساواة بين الجنسين. والحقيقة هي
أنه، على الرغم من القوانين التي قد تكون
متطورة، فإن شريحة هامة من الفتيات مازالت،
في الواقع الاجتماعي، بعيدة كلَّ البعد عن
التحرر والمساواة، رافضة لحقوقها، عاشقة
لصورة الرجل القوي المدافع عن حقوقها والقادر
على حمايتها. مازالت بعض الفتيات، مع الأسف،
يردِّدن أقوال الجدات، مقتنعات بتفوق الرجل؛
ومازالت هناك بعض الجمعيات والمؤسَّسات
النسائية الداخلية أو المحلية التي، من منطلق
ديني خاطئ، تكرس واقع دونية المرأة. فالرجال
"قوَّامون على النساء"؛ والرجال مسؤولون
عن تأمين المال وإعالة العائلة؛ والرجل،
مادام يملك المال تحديدًا، يبقى بوسعه اجتياز
مرحلة العنوسة في أية لحظة، من خلال اختياره
لأية عروس، حسب المواصفات. فهو، بعد أن يكون
قد فقد من يقوم على خدمته من أمٍّ أو أخت، أو
ملَّ حياة اللهو وبدأ يفكر في فوائد الأسرة
والنَّسَب الصالح، بوسعه، إن ملك المال، أن
يتزوج حين يريد. من
المؤسف، على كلِّ حال، أن الإعلام العربي
المرئي والمسموع يُظهِر العانس المرأة بمظهر
يثير الشفقة: فهي إما عالة على الآخرين، أو
قبيحة، أو تتدخل فيما لا يعنيها، أو تغار من
المتزوجات. وإذا كان "المسلسل" حضاريًّا
نسبيًّا أظهر الفتاة العانس "مسترجلة"،
لا تعتني بمظهرها أو لباسها، وتتصرف بما لا
يناسب أنوثتها. العنوسة
والدين لم
تتطرق الأديان السماوية إلى العنوسة بشكل
مباشر، ولكنها جميعًا حثَّت على الزواج وعلى
تشكيل الأسرة وإنجاب الأولاد. ففي الديانة
الإسلامية تشجيع واضح على الزواج والإنجاب،
كقوله تعالى: "هنَّ لباس لكم وأنتم لباس
لهنَّ" (البقرة 187)، وقوله تعالى في سورة
الأعراف، الآية 188: "هو الذي خلقكم من نفس
واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها"؛ وكذلك:
"ومن
آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا
إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات
لقوم يتفكرون" (الروم 21). ومن الأحاديث
النبوية التي حثَّت بإصرار على الزواج: "تزوجوا
فإني مكاثر بكم الأمم"؛ وأيضًا: "يا معشر
الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج" (و"الباءة"
تعنى النكاح أو الزواج). مفاد هذه الأقوال
المستقاة من الطب النبوي أن موقف الإسلام
واضح جدًّا فيما يتعلق بالتشجيع على الزواج
والإنجاب. والدين
المسيحي يشجع أيضًا على الزواج، ولكن ليس
أقوالاً، إنما من حيث القصص والأمثال. فالسيد
المسيح، مثلاً، بحضوره عرس قانا الجليل
وتحويله الماء إلى الخمر لتستمر سهرة
المدعوين، إنما يقدم أكبر دليل على تشجيعه
الزواج. ولكن كونه لم يتزوج فتح الباب واسعًا
أمام حرية اتخاذ القرار دون ضغط ديني، بل ترك
هذه الأمور تأخذ شكلاً اجتماعيًّا حرًّا. أما
بولس الرسول ففي أقواله دعوة صريحة إلى
الزواج حيث يقول: ... فلتكن لكلِّ واحد امرأته
وليكن لكلِّ واحدة رجلها..."؛ أو قوله: "...
فإن لم يتعففوا فليتزوجوا؛ فإن التزوج خير من
التحرق...". في
الديانتين، الإسلامية والمسيحية، كما هو
واضح، إذن، دعوة واضحة إلى الزواج. لكن هناك
نقطة هامة مفادها أن الديانة المسيحية تشجع
على الارتباط بالكنيسة والتفرغ للعبادة
وخدمة الرب. وسابقًا كانت كلُّ عائلة تقريبًا
تقدِّم أحد أولادها للكنيسة. وقد تطرق بولس
الرسول إلى موضوع الرهبنة والعفة: "... فإني
أود لو يكون جميع الناس مثلي، لكن كلَّ أحد له
من الله موهبة تخصه؛ فبعضهم هكذا وبعضهم هكذا..."؛
وأيضًا: "...غير المتزوج يهتم فيما للرب كيف
يرضي الرب..." (هذه الأقوال لبولس الرسول من
رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس، الفصل السابع)؛
مما يعني أن الديانة المسيحية لم تشجع صراحة
على عدم الزواج، ولكنها تركت الحرية الشخصية
تلعب دورها، خاصة إذا كان سبب عدم الزواج
التفرغ إلى الأمور الدينية، لأن الإنسان، من
منظور مسيحي، لا يستطيع أن يكون للرب وللجسد
في آن واحد. بعض
أشهر عوانس التاريخ إذا
عدنا إلى الوراء، قليلاً أو كثيرًا،
وتصفَّحنا كتب التاريخ العربية والعالمية،
في كافة المجالات، نجد الكثير من الشخصيات
التي بقيت دون زواج؛ نعدد منها، على سبيل
المثال لا الحصر: -
مارى
عجمي، رائدة الصحافة النسائية العربية، لم
تتزوج بعد استشهاد خطيبها في الحرب ضد
العثمانيين. - الملكة إليزابيت الأولى، ملكة إنكلترا التي قصت شعرها وتفرغت لحكم إنكلترا ونجحت في ما عجز عنه الرجال من توحيد المملكة ورفع شأنها. - الإمبراطورة كاترينا الثانية، إمبراطورة روسيا في القرن الثامن عشر. - رابعة العدوية، المتصوفة المسلمة، صرفت النظر عن موضوع الزواج وتفرغت للعبادة الإلهية. - جاك بريل، المغني البلجيكي الشهير. - تشايكوفسكي، الموسيقي الشهير. والقائمة
طويلة... لكن السؤال الهام يبقى: هل تنطبق على
هؤلاء معايير العنوسة، أم أن هذه الناحية لا
تهم أحدًا، خاصة حين نرى أعمالهم وما قدموه
للبشرية؟ بعض
الأمثال الشعبية المتعلقة بالعنوسة أو
الزواج
إليكم،
أخيرًا، بعض الأمثال الشعبية التي قيلت
وتداولها الناس، تتعلق بموضوع الزواج أو عدمه
أو ولادة بنت في الأسرة. -
همُّ
البنات للممات. - اقعدي بعشِّك حتى يجي يلِّي ينشِّك. - خديلك رجَّال، بالليل غفير وبالنهار أجير. - الرجَّال رحمة – ولو كان فحمة. - زوج من عود خير من عقود. -
إذا
بدي اصرف من كيسي ما بساويك عريسي. خاتمة قد
يكون لكلِّ موضوع خاتمة، ماعدا المواضيع
الإنسانية والحياتية؛ فهي تبقى دون نهاية.
لماذا؟ لأن الموضوع يبقى مفتوحًا، وحوله، حتى
هذه الساعة، لم ينتهِ النقاش. ثم إن الهدف من
محاضرتي لم يكن التشجيع على العنوسة، كما لم
يكن التشجيع على الزواج؛ بل الهدف الأول
والأخير منها كان عرضًا لواقع ولظاهرة بدأ
انتشارها بالازدياد، وبدأت النظرة إليها
تتغير، لأن عدم الزواج أصبح واقعًا قائمًا في
مجتمعنا، بحكم الظروف المحيطة، ولعدم الرغبة
في الارتباط أو لعدم وجود الشريك المناسب،
وليس بسبب سوء الحظ أو السحر كما كان يقال. وبما
أن الحياة تعاش مرة واحدة، والإنسان يملك
خيارات توجيه دفة حياته حيث يريد وقضاء عمره
بالشكل الذي يناسبه، لا نستطيع أن نقول إن
أيًّا من الحياة الأسرية أو الحياة المستقلة
الحرة هي الطريق الأسلم. فنحن نعرف أن كلَّ
شخص هو عالم قائم بذاته، وأن كلَّ اختيار هو
صحيح ومناسب للإنسان، مهما كان موقفنا ورأينا
في هذا الاختيار، لأن المهم في الموضوع كله
يبقى: هل عشتَ هذا الاختيار بطريقة صحيحة
وصادقة وانسجام مع ذاتك أم لا؟ وقد لا يكون
الاختيار في بداية حياتنا بيدنا؛ ولكننا
نستطيع أن نجعل من هذه الحياة روعة لنقول،
يومًا ما، إن "حياتي كانت غنية". ***
*** ***
|
|
|