|
سراب
المثنى
لغز
الحروف الباحثة عن معنى للوجود
زهيدة
درويش جبور
اختار شوقي بزيع، منذ بداياته، أن يكون شاعر
التجربة. وهو، في ديوانه الأخير، لا يشذُّ
عن الخط الذي ارتضاه لنفسه، بل يعمِّقه
ويثريه، حتى لنستطيع القول إنه في سراب
المثنى يدخل مرحلة جديدة في مسيرته الشعرية.
فالشعر هنا هو موضوع القصيدة التي نتساءل عن
جوهرها وعن مقاصد لغتها. إنه مشروع معرفة لا
يكتمل، كونه يسعى لاكتشاف حقيقة هاربة أبدًا،
كما هو مادة معرفة؛ إذ إنه يصدر عن ثقافة
متنوعة وعن إلمام واسع بتراثات المشرق العربي
المتنوع، حيث تعاقبت الحضارات، من سومرية
وبابلية وفينيقية ومسيحية وإسلامية وعربية
تضرب جذورها في ما قبل الإسلام، يتمثلها
الشاعر جميعًا، فتصهرها عبقريتُه، لتخرج
لمَّاعة كالذهب من تنير خيميائه السحري.
الشاعر
هنا ليس مجرد شاهد على التراث. فهو لا يختزنه
في وعيه فقط، وهو لا يستنسخه، بل يخرجه من بئر
الذاكرة نابضًا بحياة جديدة تبثها فيه رؤياه
الشعرية التي تصدر عن حضور كثيف في مناخ العصر.
فامرؤ القيس وعروة بن حزام وعمر بن أبي ربيعة
يصعدون معارج الزمان، ليحضروا في قصائد تسبغ
عليهم حيوات جديدة، كأن الذي عاشوه يومًا ليس
سوى مادة للتحولات. يصبح كلُّ واحد منهم مرآة
لوجه من وجوه الأنا في مأساوية التمرد والتوق
إلى المستحيل، وفي عذابات الحب المنذور أبدًا
للتجاوز نحو امرأة لا تعدو كونها محض طيف أو
خيال. فالحب،
جوهريًّا، في الديوان "تفريد"، بمعنى
أنه لا يقبل الشراكة أو المشاركة. إنه تعميق
للوحشة، وليس خروجًا منها، ودخول إلى صومعة
الداخل لابتداع وجه الحبيبة – تلك المتحررة
من شوائب وجودها العَرَضي، كيما تكون جوهرًا
للأنوثة كما يرنو إليها الشاعر. فالمثنى يبقى
محض "سراب"؛ بينما المفرد، رديف الوحدة،
هو القاعدة. ولعل ذلك هو المعنى المقصود في
عنوان الديوان، الذي يؤكده عنوانٌ لإحدى
القصائد بالغ الدلالة: "تفريد على تاء
التأنيث". تتعدد النساء، لكن وجه الحبيبة
عبرهنَّ واحد: إنها الأنثى الأصلية، مصدر
الإلهام والوحي – ذلك الطيف الصعب المنال،
ذلك الوهم الواجب الوجود. الحب
في بُعده الثقافي
ترسم
القصائد محاور أساسية نسبة لموضوعاتها
المختلفة: التجربة الشعرية، المرأة والحب،
الشهادة والبطولة. وعلى الرغم من أن حضور
المرأة يستحوذ على العدد الأكبر من القصائد
فلا يمكن أن يُصنَّف الديوان في باب شعر الغزل
لأنه يتجاوزه إلى طرح مسألة الحب في بعدها
الثقافي والحضاري. كأن تاريخ الحب في هذا
الشرق، القائم على تمجيد السلطة في مجتمعات
ذكورية بامتياز، مقرون بالمأساة: "كل من لم
يمت بسيوف السلاطين / أو تحت خيل الفتوحات /
مات اختناقًا على الدرب / بين المثنى ومفرده /
أو بين وجه الحبيبة والأحجية..." (ص 18). حقيقة
المرأة تختفي تحت أقنعة حواء مزيفة، تثأر
لأنوثتها المغبونة بغواية تنصبها كالشرك،
وبفتنة تتقن فنونها، فتفتقر العلاقة إلى
الصدق، ويختلط الظن باليقين، فيصير "كلُّ
مخدع خديعة" (ص 63). يبهت
وجه حواء، إذن، ليتجلَّى، في كلِّ بهائه،
وجهٌ آخر لأنوثة تكاد تكتمل، فتصبح فكرة أو
محض سراب. إنها امرأة الحلم المستحيل، ذلك
الذي يعوض عن خيبات الواقع، ذلك الكذب الجميل
المخصب، في مقابل الكذب العقيم: "لم تكن
تستقر على صورة / كي أفسِّر إمعانها في التخفي
/ ولم تكن الأبجدية تكفي / لكي أقتفي خيط
أنفاسها / وهي تولد من زقزقة السواقي" (ص 81). إنها
"المرأة القصيدة، تولد في الكلمات
وبالكلمات، وتخرج كحورية من رحم الرؤيا.
تتماهى مع إلهة الشعر، وتتجلَّى، كالعذراء
مريم، "أيقونة من ضياء" (ص 81). هي الخلاص
والتطهر والبراءة الأولى – فاستحقت أن يرفع
إليها الشاعر نشيدًا يطلقه على لسان عروة بن
حزام، إذ يجعله يقول: "عفراء ليست فتاة
لأعشقها / مثلما يعشق الفتية الفتيات / هي /
مسراي في مرتقى الطين / ناري المصفاة من كلِّ
عيب / ومعراج قلبي / إلى سدرة لا يُضاء بها / غير
زيت الأنوثة" (ص 53). لا
يستلهم الشاعر تراث عذرة إلا ليتجاوزه على
دروب التجربة التي تغرف من التراث الصوفي،
فتستعير لغته وتبث فيها الروح، فتُبعَثُ حيةً
بامتياز. تغدو القصيدة طقس عبادة ونشيد صلاة،
ويستعاض عن نشوة الوصل بلذة الحنين – وهو
أجمل: "إن ذكرى النساء / أشد سحرًا في حساب
العاشقين / من النساء!" (ص 70). تتلألأ المرأة
في القصيدة، ويشفُّ حضورها، لتتخفف من
ماديتها، وتصبح نورًا لبؤبؤ العين وشعاعًا
تستضيء به القصيدة، يخترق كثافة العتمة في
الأشياء، فتتبدى في غرابة بهائها: لا بدَّ من
هذا الفراق إذن / لأدرك أنني أعمى بدونك، /
أنني النصف الضرير / من التماعك في الحصى
الغافي / وحصة حاجبيك / من انحناء الشمس في قوس
الغروب" (ص 71). إن شحنة الإيحاء الغنية التي
تتضمنها الصورة ترتفع بالغنائية، فلا تنزلق
إلى سهولة البوح بالمشاعر والأحاسيس التي لا
تظهر إلا متخفية، ولا يُعبَّر عنها إلا
إيماءً وإشارة. في هذا الغناء من العذوبة
والإبداع والصدق ما يذكِّر بأجمل ما كتبه
شاعر كبير كأنسي الحاج في ديوانه الرسولة
بشعرها الطويل حتى الينابيع. تُسلِس اللغةُ
للشاعر القيادَ، فتنزلق الكلمات من بين
أصابعه انسيابَ النهر، وتتميَّز ببساطة ليست
في الواقع سوى نتيجة لجهد دؤوب ولتجربة
إبداعية أصيلة. الأسرار
يدرك
شوقي بزيع طاقة الخلق الكامنة في الكلمات،
ويدأب على الدخول إلى كنه أسرارها، كأنه سليل
عائلة عريقة القدم في تاريخنا العربي تبحث في
لغز الحروف عن معنى الوجود، وتسعى لتتلمس، من
خلالها، ما يخفى على الحواس. وقد توخى، عن
قصد، أن يلفت الانتباه إلى هذا المنحى
باعتماده في عناوين القصائد مفردات تشير إلى
الحروف: "غنائية الحرف المعتل"، "رياح
متخيلة لانكسارات نون النسوة"، "تفريد
على تاء التأنيث". للحروف في الثقافة
العربية عالم سرِّي لا يدخله إلا العارفون –
هؤلاء الذين يقيمون الصلة بين الحرف والعدد،
فيقرأون الماضي والحاضر والمستقبل. كلُّ حرف
حضور، وكل اسم حياة. والحرف شكل يوحي بعوالم
وتُبنى عليه الرؤى. فالألف، في قصيدة شوقي
بزيع، صارية في الظهيرة، أو رمح مصوَّب نحو
طرائد الماضي، أو صولجان مَلك بلا مُلك، أو
عكاز العميان في الصحراء؛ والواو، في
انحناءتها، قوس أو هلال أو خاتم حول الأصابع؛
والياء زورق إلى المجهول. هكذا
يتخذ الخيال من الحروف مادة للَّعب، ويسخِّر
الشاعر معرفتَه بعلم الأصوات وبقواعد اللغة
ليعيد خلق الحروف، فيضفي عليها معاني فريدة،
وليمارس في القصيدة عبثًا خلاقًا. هكذا تصبح
حروف العلة مادة لغنائية من نوع خاص: فالواو،
برنينها المضموم، "لسع النار في أحشاء
الخائبين"، أو "فاكهة المواقد في شتاء
الروح" (ص 25)؛ والياء "حركة انكسار وهبوط"
أو "زفرة الروح الأخيرة" أو "سعي الريح
في طلب المنادى" (ص. 30). هكذا يصدق ادعاء
الشاعر أنه "لا ينفك يبحث عن ظهير للقصيدة /
غير ما اجترح الأوائل" (ص 22)، وأنه يسعى لأن
"يستهل الأبجدية" (ص 23)، فتكون لغتُه
دائمًا بدءًا، أي لغة إبداع وخلق، غايتها في
ذاتها وليست خارجها. في
أساس هذه اللغة تقع الصورة الغريبة المدهشة
التي تقيم علاقات جديدة بين الأشياء، وتحوِّل
المألوف إلى مصدر للدهشة. لكن القصائد ذات
قدرة على توليد الصور التي ترسم لوحات غنية
بالحركة وتخاطب الحواس جميعًا، كما الفكر
والمخيلة. يصف الشاعر، مثلاً، غياب الحبيبة
وتداعيات غيابها فيقول: "والبيت تنخره
الملوحة / حيث لا قدماك في أرجائه / تتبادلان
مهمة الطيران / فوق رتابة الساعات / لا كفَّاك /
تنزلقان عن كتف الصباح / كرغوة الصابون" (ص
74). تغتني المفردات البسيطة، الأكثر التصاقًا
بالحياة اليومية، بدلالات جديدة، فتتولد
الصورة، ترسم حضور الحبيبة خفيفًا كعصفور،
مشعًّا كالفرح، يحمل البهجة والنقاء والحبور. ويبرع
الشاعر في اعتماد لغة الإشارة، حتى تبدو بعض
القصائد كتلك الأحجيات التي كان الأوائل
ينظمونها شعرًا معتمدين الرمز والمجاز، حيث
لكلِّ دالٍّ معنى ظاهر وآخر خفي هو المقصود.
هكذا يتقنَّع الجنس في قصيدة "تفريد على
تاء التأنيث"، ويلبس إيروس حلَّة التوق إلى
جمال أثيري، ويرتسم لقاء العاشقين الحميم على
صفحات القصيدة، متخفيًا تحت عباءة الرمز.
تزدوج الدلالة في المفردات: فالجميل هو
المعنى في القصيدة، لكنه، مجازيًّا، الجسد
الأنثوي الذي تبدو ملامحه في القصيدة عبر
الرموز: "جرح يتنزَّى"، "بئر"، و"وردة
في مثلث". ومن
السمات البارزة للغة الديوان اعتمادُ
الموسيقى والإيقاع، بحيث تنساب العبارة على
وقع التجربة، في حركة تكامل تامٍّ بين الشكل
والمعنى. وغالبًا ما تستعير القصيدة إيقاعها
من البادية، كأن وقع العبارة خَبَبُ خيول، أو
صوت حوافر ناقة، أو نفخ ريح. كأن الشعر نجح في
ردم المسافة بين الحاضر والماضي، المتحرر من
جموده، ليصبح عنصرًا حيًّا وفاعلاً في
الثقافة المعاصرة. ولم
يكن لشوقي بزيع أن ينجح في هذه المغامرة لولا
أصالة انتمائه للعصر، ولولا ثقافته الشعرية
الواسعة، وعمق تجربته الفنية. فهو من الشعراء
الذين انتهجوا الكتابة مغامرة وجود ونذروا
لها أنفسهم. اختار الشعر دربًا إلى المجهول
ومسارَ كشفٍ عن الخفيِّ الذي يمعن في اختفائه
كلما توهم الرائي سقوط الحجاب. فقد امتهن
التجربة معاناة نفس وجسد ودخولاً في مناخ
التمزق والحيرة: "ولا أملك من رأسي / سوى
أخيلة عمياء / تمحوها غيوم الشبهات / تتنادى
لججي مع نفسها في غابة الذكرى / كما لو أن
أعضائي عراك / بين ذئبين" (ص 7). يهبط
الشاعر إلى أعماق الذات، حيث العتمة، ليلمح
من بين الحجب شعاع الرؤيا يتجلَّى في لغة هي
غير اللغة، كلماتها لا ترتسم حروفًا يقع
عليها النظر، بل رموزٌ لا يلتقطها إلا الحدس:
"شاخصًا من سفح نفسي / نحو ما ليس يرى / من
كلماتي / ذلك البرق الذي أبصره لمحًا / يُرائي
حجبًا أخرى" (ص 7). ليس الجوهر، إذن، سوى
اللغة التي يتمرأى فيها، وليس المعنى سوى في
الحروف التي تتجدَّل في كلمات ملتبسة يلفُّها
الغموض لتبقى مغامرة الكشف مستمرة ونار الشوق
إلى ما لا يُرى مشتعلة: "كلما آنستُ في شعري
يقينًا / راودتْني عن جنوني لغةٌ / غير التي
أعرفها" (ص 9). ذلك أن
قَدَر الشعر تجاوزٌ وغربة وسفر. وإن قَدَر
الشاعر البقاءُ في حالة توق إلى المستحيل –
تمامًا كما المتصوف. وفي الديوان ما يدل بوضوح
على تلك الحقيقة. فالتجربة احتراق وتطهُّر
وصعود إلى بروج المعنى، واللغة إشارات ورموز،
غالبًا ما تستعير مفرداتها من لغة التصوف: "معراج"،
"جبة"، "حجاب"، "فيض"، "الأحوال"،
إلخ. فكأن الشاعر ينطق بلسان محيي الدين بن
عربي، صاحب الفتوحات (والكلمة تَرِدُ عن
قصد في إحدى القصائد) عندما يقول: "ما أرى لا
يقال". ويمكن
القول إن هذا الديوان يأتي ليتوِّج كلَّ ما
تقدَّم من أعمال شوقي بزيع الشعرية؛ إذ إنه
يخاطب الفكر والخيال والإحساس، ويبلغ في
جماليَّته درجة عالية على سلَّم الإبداع. لكن
لا بدَّ من الإشارة إلى أنه قد يصعب على
القارئ العادي أن يصل إلى كنوزه. لكنه يَعِدُ
القارئ الجَسور بمتعة المغامرة والاكتشاف،
ويخبئ له لذة الدهشة، بما يُنسيه رتابة
الواقع ويحمله إلى عوالم بهية، مشرقة. ***
*** ***
|
|
|