الوسائل المناسبة: ادراك موقعنا*

مايكل ناغلر

عندما سُئل المعلم البوذي الفيتنامي الشهير تيك نات هانه Thich Nhat Hanh أن يشرح مفهومه عن "البوذية المنخرطة" Engaged Buddhism أجاب: "البوذية المنخرطة هي بوذية عادلة". لا يمكنك أن تكون منسجمًا مع القيم الأخلاقية في وقتنا الحالي دون العمل حقًا على التعبير عن هذه القيم في عالمنا المضطرب. على أية حال ورغم أنَّه من الجيد أنَّ نتذكر أن القيم بحد ذاتها خطوة جيدة في الاتجاه الصحيح لكن علينا أن نوجه أفعالنا اللاحقة كقيادين ماهرين يعرفون أخطار ساحة النضال وكيفية تعبئة قوى اللاعنف لمواجهة هذه الأخطار.

عندما نستخدم اللاعنف فبأي شكل سيكون؟ هذا هو السؤال التي سنأخذه بعين الاعتبار تاليًا.

كم يلزم من اللاعنف؟

تتفاقم الصراعات عندما لا تُحل وإن لم تصبح موضع اهتمام سرعان ما ستخرج عن زمام السيطرة. ومن وجهة نظر لاعنفية فإن حدة الصراع ليس بالضرورة مسألة أعداد الأسلحة والناس المتورطة في هذا الصراع (فالشجار بين حبيبين يشبه الصراع بين الأمم) ويعتمد بشكل أساسي على المدى الذي وصل إليه التجرد من الإنسانية. إن توقف أحدهم عن الإصغاء إليك وأخذ يطلق عليك ألقابًا أو يقوم بتصنيفك فعلى الأغلب لن تعود العرائض بأية فائدة.

ومن منطلق فهم كيفية الاستجابة يمكننا بكل سهولة اعتبار أنَّ هذا التصعيد مؤلف من ثلاث مراحل تستدعي مجموعة خاصة من الاستجابات. دعونا نطلق على هذه المراحل الثلاث: حل الصراع، ساتياغراها (المقاومة اللاعنفية الفاعلة)، والتضحية المطلقة (انظر الى الصورة)، لكن لحسن الحظ فإن هذا نادر ولكن من المفيد المعرفة بوجودها.

المرحلة الأولى: حل الصراع

من المهم الاستجابة إلى كل صراع بشكل مبكر قبل أن تفاقم حالة خطيرة من التجرد من الإنسانية في الأجواء. يمكن حل الخلافات في هذه الحالة بواسطة الأدوات المعروفة في حل النزاعات أو في التواصل اللاعنفي. إن قدمت شكوى فإن الطرف الآخر سيصغي إليك على أقل تقدير وقد لا يستلطفونك ولكن سيدركون أنك واحد من الناس. والأدوات التي تُستخدم في المرحلة الأولى كالتفاوض والتأمل والتحكيم وأحيانًا بوجود مكاتب طرف ثالث جيدة ومعروفة تمامًا ولا تتطلب الكثير من التوضيح هنا.

المرحلة الثانية: الساتياغراها

على أي حال نعلم أنَّ التعامل مع النزاعات ليس أمرًا سهلاً على الدوام. في أغلب الأحيان لا يمكننا الوصول إلى من نريد اقناعهم بالمنطق وهنا تغدو الساتياغراها فعَّالة. وهي غالبًا تعني الاستعداد لتحمل بعض المعاناة بدلاً من القاءها على الآخرين من أجل تحقيق صحوتهم. وكما يقول غاندي:

الأشياء ذات الأهمية الأساسية للناس لا تتحقق بالمنطق فقط بل عليها أن تخاطب معاناتهم... إن أردت تحقيق أمرٌ مهمٌ حقًا ليس عليك إرضاء المنطق فقط بل عليك أن تحرك القلب أيضًا.

يشير غاندي محقًا إلى هذا الأمر باسم "قانون المعاناة". تعد المعاناة سواء كانت بسبب إساءة جسدية أو رفض للمساعدة أو أيًّا يكن جزءًا حيويًا في الإقناع اللاعنفي خلال النزاعات اللاعنفية الأخطر.

المرحلة الثالثة: التضحية المطلقة

المرحلة الثالثة هي حقًا امتداد للمرحلة الثانية ولكن الأمور هنا أصبحت قضية حياة أو موت. وقد جربنا الأساليب المعتادة للساتياغراها (الاضرابات وتحدي الأوامر والعصيان المدني وما إلى هناك) ولكن "شريكنا في الحوار" أي خصمنا لا يستجيب (على الأقل ظاهريًا)، على أي حال ما يزال سبيل اللاعنف متاحًا. إن لم نستطع العيش مع أي ظلم فبإمكاننا المخاطرة بحياتنا لتصحيحه. لقد اخترت هذه الكلمات بعناية. ليس الموت ما يوقظ الخصم العنيد بل الاستعداد للمخاطرة بالموت. هذا ما حدث في اللحظة الحاسمة خلال المرحلة الأخيرة من صراع الحرية الهندي على سبيل المثال وقد نجح.

هناك أمران يجب علينا ألا ننساهما هنا: أولاً اللاعنف بالمجمل أكثر أمانًا من العنف، على سبيل المثال لم يمت أحد تقريبًا في أي عمل من أعمال حفظ السلام المدني وغير المسلح بينما مات الملايين مستخدمين الطرائق "العادية" للصراع المسلح أو الحرب؛ ثانيًا إن اتخذنا طريق اللاعنف لأنَّه أكثر أمانًا سيبدو الأمر وكأننا نسرق بعضًا من قواه. فالقوة الكاملة للاعنف تأتي عندما نقوم به لأننا مؤمنين بأنه العمل الصائب ولا نعبأ بالتكلفة.

تمامًا وكما يُظهر المنحى التصاعدي في الشكل فكلما أسرعنا في التعامل مع الصراع كلما ازدادت الخيارات لدينا وكلما كان الألم أقل أثناء حلِّ هذا الصراع. ولكن لا نملك هذا الخيار دومًا. هناك الكثير من العنف في وسائل الإعلام (على الأقل في العالم الصناعي) وفكرتنا عن الإمكانية البشرية سيئة جدًا لدرجة أن الصراعات قد تخرج عن إطار السيطرة بسرعة. لا يمكننا تحمل تكلفة تجاهل الحالات التي تتطلب الاستجابة الأكثر جرأة.

عندما لا ينفع أي شيء آخر

عندما يصبح خصم ما بعيدًا جدًا لدرجة أن ساتياغراها متقنة تعجز عن ايقاظ ضميره (ظاهريًا على الأقل) ومع ذلك لا يمكن احتمال الشر الذي يقوم به، غالبًا ما يقرر الساتياغراهيون satyagrahis - أي اللاعبون اللاعنفيون - المخاطرة من خلال القيام بالتضحية المطلقة. ومن خلال القيام بهذا يجدون أنفسهم يستخدمون بكل براعة الطاقة المطلقة للقوة الروحية وفي أغلب الأوقات، ليس دائمًا، عاشوا ليخبروا قصتهم.

انظروا على سبيل المثال إلى صديقي ديفيد هيرتسو David Hartsough الناشط المشهور في مجال السلام، الذي كان صبيًا أبيضَ في الخامسة عشر عندما جلس على منضدة الطعام في فرجينيا لكسر التمييز العنصري. بعد يوم ونصف بدون طعام تعرض للسحب والتهديد من قبل رجل أبيض غاضب حمل سكينًا كبيرًا ووجهها إلى صدر ديفيد ثم زمجر قائلاً: "حسنًا يا مُحب الزنوج لديك دقيقة واحدة حتى تخرج قبل أن أضع هذه السكين في قلبك." بقي ديفيد هادئًا (كان يتلو صلاة المسيح بينه وبين نفسه لساعات بلا انقطاع). حاول أن ينظر في عيني الرجل رغم الكره الواضح فيهما، وسمع نفسه يقول: "يا أخي أنت تقوم بما تشعر بأنه يتوجب عليك القيام به ولكن سأحاول أن أحبك بغض النظر عن أي شيء." بعد لحظة مرت طويلاً بدأت تهتز السكين، ثم أنزل الرجل يده ببطء وخرج من غرفة الطعام. لاحظ بعض الحاضرين أنَّه خرج باكيًا.

لا تنسوا ملايين الجنود ممن يذهبون إلى المعارك والمستعدين للمخاطرة بحياتهم وغالبًا من أجل قضايا مريبة، أليس علينا إذًا أن نكون جاهزين بالقدر نفسه؟ سيكون لشجاعتنا قوة على تحقيق تغيير أكبر من تلك التي تملكها القوة المسلحة وستأتي من شخص مستعد لتلقي للأذى ولكن دون أن يكون من يسببه. يدعى هذا أحيانًا "قوة الحساسية" power of vulnerability. كما ذكرنا فقد قتل عدد أقل بكثير خلال العمل اللاعنفي الحقيقي مما قتل خلال النزاعات المسلحة، وهذا ما لا يمكننا تجنبه في الصراعات الحقيقية، وهو سبب جيد للبدء بالعمل في المراحل الأولى لأي صراع إن كان هذا ممكنًا تمامًا!

ترجمة: عزة حسون

*** *** ***