أشد أعداءِ القراءة والكتابة وحريَّة الرأي والصحافة!
جوان سوز
استطاعت
فتاةً كُرديَّة سوريَّة حاصلة على إجازة في اللغة العربيَّة من كلية
الآداب والعلوم الإنسانية في جامعتي اللاذقية والحسكة السوريتيَن، أن
تقتحمَ حياتي بقوَّةٍ كبيرة في الآونة الأخيرة بلا مقدِّمات كما لو
أنَّها عنصرًا من المخابرات السورية، وأن تقمعني بالحبِّ قاصدة أن
تقنعني به من جديد بعد خيباتٍ مكررة ومتكررة وتجارب مؤلمة وقاسيَّة مع
داء "الحبِّ" الذي عانيت منه حقيقةً لحدِّ المرارة كما لو أنني كنتُ
معتقلاً في فرع "فلسطين" الذي لا تخلو ذاكرة سورية من أساليب تعذيبه
الفظيعة، تمامًا كنكهة الحبِّ الذي ذقتُ منه في السنة الأولى من حياتي
الجامعيَّة المُشتتة، ذلك أنني لم أعرف الاستقرار في فرعٍ دراسي واحد
بدءًا من معهد الدراسات المالية والمصرفية وانتهاءً بكليَّتي الصيدلة
والاقتصاد معًا كما لو أنني أنتقل من زنزانةٍ إلى أخرى.
حتى أصبحت كلُّ
حياتي حبًّا، أنام من أجل الحبِّ، أحلم بتلك الفتاة الكُردية السوريَّة
من أجل الحبِّ، أطلب يدها من أهلها من أجل الحبِّ، مثل أي رجلٍ آخر في
هذا الشرق "الأوسخ" دون أدنى شكٍّ، شرق الطوائف والقوميات، شرق العشائر
وأبناء العائلات، أدفع مهرها بالدولار الأمريكي بعد لجوء أهلها إلى
خارج سوريا من أجل الحبِّ، أشتري لها كميات كبيرة من الذهب من أجل
الحبِّ، أستأجر لها بيتًا جميلاً في وسط البلد، على قولة أخوتنا
الأردنيين، في عاصمة حبِّنا من أجل الحبِّ، ندعو أصدقاءنا وأعداءنا
اللدودين إلى حفلة زفافنا من أجل الحبِّ، ترقص والدتها فرحًا بنا من
أجل الحبِّ، يغني كلُّ أخواتها فرحًا بنا من أجل الحبِّ، ويشرب شقيقها
الخمر في يوم زفافها ليس حبًا بنا ولا بالحبِّ. لا ليس من أجلِ هذا،
وإنما لسعادته الكبيرة بخلاصهِ من شقيقته الوقحة، على حد تعبيره،
تزورنا جاراتها وتباركن وتدعين لنا بالرفاه والبنين من أجل الحبِّ،
نستقبل الضيوف المملين والحبَّابين والمحترمين من أجل الحبّ، يجلبون
لنا الهدايا ويرزقنا الله من حيث لا ندري من أجل الحبِّ، نضحك معًا من
أجل الحبِّ، نذهب إلى المقاهي معًا من أجل الحبِّ، نشتري ملابسنا من
أشهر وأغلى الماركات العالمية معًا من أجل الحبِّ، نمشي في الشارع معًا
مع الحبِّ، نصعد إلى تكاسي الأجرة معًا وبوجود الحبِّ أيضًا، نشرب
القهوة معًا من أجل الحبِّ وكذلك الشاي والبيرة والعيران، نتناول
الفروج أو اللحم معًا ليزيد حجم هذا الحبِّ، نتحدث عبر الهاتف معًا من
أجل الحبِّ، فيما أتحمل كامل مسؤوليات عائلتنا الصغيرة لوحدي من أجل
الحبِّ أيضًا. أي واللهِ ومن دون حلفان، أيها العالم الشمتَّان!
أذهب إلى العمل، لا
أتحدث إليها لأكثر من ثمانية ساعات وأتمنى لو أنها تصبح أربع وعشرون
ساعة بدلاً من ذلك، أفكر طوال النهار كيف سأقوم بتأمين إيجار المنزل
وقد داهمنا أول الشهر بكامل عتاده من فواتير الماء والكهرباء، وماذا
سآخذ معي من الوجبات الجاهزة إلى أميرة النساء التي لا تجيد طبخ "البيض
المقلي" يرعاكم الله، ثم أفكر ثانية كيف سأقوم بتسديد الديون التي
تراكمت عليَّ منذ زواجي منها لدرجة أنني أتمنى الموت بدلاً من العودة
إلى البيت، ترى ماذا سأقول لصديقي الذي استدنت منه مبلغًا كبيرًا
بالدولار الأمريكي، عملة عمنا أبو حسين وصديقكم أوباما؟ ماذا أقول لأبي
وأمي وأخوتي الذين ينتظرون مني مصروفهم الشهري، كيف لا وأنا ولدهما
وشقيقهم الكبير بأسفٍ شديد، كيف أتحمَّل كل هذا، وأنا أكتب هنا وهناك
وأتحمَّل أعباء الصحافة العربيَّة والروتين والبيروقراطية والتأخير في
دفع المكافآت المالية، وأدبيات حافظ الأسد وأقوال الأمير البغدادي،
بينما تردد ذاكرتي عبارة "عبد الله أوجلان" الشهيرة "كل جميلة يجب أن
تكون ذكية وكل ذكية يجب أن تكون جميلة!" في إشارة من تلك الذاكرة التي
باتت أشبه بآلة حاسبة إلى سؤالٍ عميق وعقيم في الوقت ذاته هو: هل
المرأة هي التي تصنع نفسها لتكون فعلاً ذكية وجميلة وكاملة مكمَّلة،
وفقًا لنظرية "أوجلان"؟!
وكيف يمكنني الإجابة
على هذا السؤال، وأنا أعيش هذه الحال من الضغوطات المالية في أوطانٍ
أرخصُ ما فيها الإنسان، حتى باتت الرصاصة التي تقتله أغلى منه بكثير في
كلِّ الأحيان، فما عدت ذاك الصحافي المشاكس والجميل الذي تبتسم له
الصحفيات! لا والله، ولا ذاك الشاعر الذي تقرأ له المراهقات والطالبات
الجامعيات! ولا ذاك الثوري الذي تنام معه الناشطات! ولا ذاك الكاتب
الذي يكتب كلَّ ما هو جدِّي بسخريَّة، ولا ذاك الإنسان الذي يحلم
بالسكن في عاصمة المملكة المتحدة، ليغزو الصحافة العربية هناك ويتعهد
بعدم الكتابة في أي صحيفة عربية تهتم بالديانة الإسلامية، ولا ذاك
الطَموح الذي يفكر بشهادة جامعية في الإعلام، ولا ذاك اللاجئ السوري
الذي يريد الحصول على إقامة أوروبية حتى لو دفع حياته في البحرِ ثمنًا
لها!
صدقوني لست كلَّ هذا
ولا ذاك الذي يعيش هنا، وعاش هذا الحبِّ مع فتاة كردية سورية تحمل
إجازة في اللغة العربية، لا لست هذا، ولا أريد أن أكون كذلك - أيتها
المرأة - لأنَّكِ من أشدِّ أعداء القراءة والكتابة وحرية الرأي
والصحافة. نعم هذه أنتِ وشكرًا على صراحتي!
*** *** ***