التراث والحياة
موسى ديب الخوري
عندما
يفاجئنا مصطلح التراث، ونحن في عصر العولمة، نتوقف للحظة، نتأمل باحثين
عن المعنى وعن القيمة. لأن الأصالة في هذا العصر لم تعد دائمًا مرتبطة
بالقديم، بل بالجديد أيضًا. وبالقدرة على خوض غمار التحول والتجدد. لذا
يظل على المعادلة الصعبة أن ترفع في كفتيها روح التراث من جهة، وروح
التطور من جهة أخرى.
عندما يطلع علينا "التراث"، عبر كل زاوية وركن من أحيائنا القديمة، ومن
كل قطعة نفيسة تركها لنا الأقدمون، وفي كل أغانينا وموسيقانا وأشعارنا
وفنوننا ورقصنا وحكاياتنا وتقاليدنا، تغمرنا الدهشة أمام عظمة وسحر
القديم، ونتوقف للحظة، نتفكر في هذا التيار من الإنتماء الذي يسري في
كياننا عبر شعورنا بعظمة هذا التاريخ وهذا العمق الحضاري. وقد نتساءل،
ونحن في غمرة تفكرنا، عن المعنى الذي يمكن أن نستشفه، وعن القيم التي
يمكن أن نتعلمها من هذا التراث... وقد نتساءل عن موضعنا من هذا التاريخ
وهذه الحضارات العريقة.
وإذا تركنا لأصالتنا أن تعبر عن ذاتها بطلاقة، أدركنا من فورنا أن
تراثنا هو تراث إنساني بالدرجة الأولى، قبل أن يكون تراثًا قوميًا أو
وطنيًا أو دينيًا. وأن انتماءنا هو للحياة، وأن هويتنا لا ترسخ إلا
بقدر ما تعبر عن إنسانيتها. وفي لحظة مكاشفة ندرك أن هذا التراث لا يجد
قيمته الحقيقية الأوسع إلا عندما ننظر إليه من منظور إنساني وكوني.
إن التراث، لمن لم يجد تعريفًا له، أو فهمًا له، أو لمن أراد أن يحصره
في مفكرته الخاصة، هو النتاج الإنساني في سياق تطور الحياة عبر العصور،
وليس في سياق جمود الزمان في ماض تلاشى ونريد أن نستمر في العيش فيه.
التراث هو ما يبقى من أعمال ومصنوعات وإبداعات، وهو أيضًا كل ما تخلل
هذه النتاجات العظيمة من خلل وإخفاقات وتلمسات ومثابرة وجهود مضنية
وإبداعات لكي تستمر مسيرة الحضارة الإنسانية، ولكي تستمر الحياة في
النهاية في طرح مزيد ومزيد من الخيارات والمفاجآت الجديرة بعظمتها. إنه
العمل الخلاق والمثابرة والحياة المكافحة... وهو بهذا المعنى القدرة
على الاستمرار والتجدد والإبداع. فالتراث هو أيضًا هذه الخبرات الطويلة
للبشرية المختزلة في "نماذج بدئية" في اللاوعي الإنساني في أشواق ورؤى
الصوفية والحكماء والمفكرين والعلماء والفنانين والمبدعين وكذلك الصناع
والتجار والعمال والفلاحين وكل عامل وفرد عبر العصور، والروح المتألقة
للشعوب في صيرورة الحاضر. فإذا لم يكن التراث بعدًا إضافيًا يدعم ويشحن
إطلالة واقعنا وحاضرنا على آفاق التطلعات والأشواق الإنسانية فلا يصح
أن يسمى تراثًا ولا يكون أكثر من موروث بال بلا قيمة ولا معنى. وعلى
مستوى آخر، مواز وأشمل، التراث هو ما يختزنه اللاوعي الجمعي للإنسانية
كلها من خبرات ومعارف ونشاطات وآمال، ليشكل ما يشبه الجاذب الرياضي،
هذا الكائن المشكِّل والباعث للتعقيد الجمالي للمادة وللصور وللبنى
الحياتية على حد سواء. إنه بشكل من الأشكال هذا الدافع الفعال في أعماق
الفرد وفي روح الجماعة للعمل باستمرار وبلا توقف من أجل المعرفة
والخير. إنه الحياة في مآلها التطوري وقد خبرت أنساقًا جديدة وتفتحت
على أنماط جديدة.
عندما نقرأ التراث جيدًا، ندرك أن ما من شيء نهائي وثابت في تاريخ
الإنسان. وعندما نرى إلى تراثنا في منظور التراث الإنساني الأوسع
والأغنى، نعي مسؤولية حفاظنا على هويتنا بما هي نسيج أصيل في جسم
البشرية.
بهذا المعنى، لا يعود التراث مادة جامدة وغير مفهومة ومنفصلة عن الحياة
والإنسان، ولا يعود الحفاظ على التراث حفاظًا على المحفوظات والمنقولات
بالمعنى التقليدي للكلمة، بل سعيًا إلى تجديد أنفسنا لكي نبقى نسيجًا
حيًا في جسم حي. كذلك لا يعود الحفاظ على التراث نقلاً للموروث وتمسكًا
به من غير وعي وفهم وقدرة على المناقشة والمحاكمة، وإلا فإن ما نحافظ
عليه لا يكون إلا إرثًا ميتًا.
بلى، يعلمنا التراث أننا الحياة المتفردة والمتجددة باستمرار، وأن
التاريخ هو صيرورة التعدد والتنوع والتفرد في آن واحد، وأننا إلى ما
وراء الثوابت كلها التي ربينا عليها، نحمل في أعماقنا هوية الإنسان
الأصيلة الباحثة والمتأملة والمنفتحة والقادرة دائمًا على قبول الحياة
في تنوعها اللانهائي.
*** *** ***