من غصن إلى آخر يتنقَّل القصف للسوري ريبر يوسف
الألم كفعل يومي والتوثيق كألم مستعاد

 

عباس علي موسى

 

مشاهد طبيعية في السماء، حيث تفيض السموات عن العصافير، والسنونوات، وحيثُ الأشجار على حالها تتحرَّك كلَّما حركتها الريح بعنف عاشق، وتمضي امرأة على الرصيف في بكرة اليوم إلى الفرن لتجلب الخبز، وأطفال نائمون وكأنما في غابة مصنوعة من البلاستيك. هذه المشاهد هي ذاتها، لكن تتخللها أحيانًا مشاهد تكسر الرتابة تلك، فثمة طائرات أيضًا تفيض السموات عنها، تهدرُ وكأنَّما لتحطيم هذا العالم، وتخليصه من رتابته، طائرات تهدر، ثم يليها انفلاتٌ على الأرض، وصوت انفجار عظيم وكأنَّها القيامة (بووووم)، وحيثُ الأشجار تتلقَّى الشظايا في جسدها الأخضر، وكأنَّها يد واشٍ تطعن في الظهر كما في المقدمة، وحيثُ المرأة التي تجري تموتُ في الطريق، من دون أن تأخذ الخبز حارًا إلى أطفالها النائمين وكأنما في غابة بلاستيكية، سيستيقظ الأطفال إذن على صوت القصف ذاته ويتململون لدقائق يبحثون بعدها عن أمهم، من دون أن يتناولوا بعدها خبزًا حارًا إلى الأبد.

إنَّها جزء من يومياتنا، يجري كلُّ شيء طبيعيًا، حتى القصف لا يحدث فارقًا كبيرًا، سوى بعض الهندسة المشوَّهة للمباني، أو أصوات أعلى من المعتاد، وأصوات سيارات الإسعاف، يرصد الشاعر ريبر يوسف في مجموعته الشعرية من غصن إلى آخر يتنقَّل القصف، منشورات المؤسسة العربية للدراسات والنشر، نشرت حديثًا يومياتنا وذلك الجانب التفصيلي لأكثرها دقَّة وقربًا من مشاعرنا التي ربما لن نفصح عنها بالشعرية ذاتها.

سريعةً، الأشجارُ تتلقَّى السرَّ.
على أغصانها، مساءً، الأوراقُ اليافعة تنجبُ
حُبيبات ماءٍ، تحملها اللامرئياتُ المتدلية من
الشمس فجرًا.
باكرًا، ينهضُ القصفُ، بحبَّتين مشعَّتين من
نظراته الوديعةِ يرى فيّ.

هذه التفاصيل الشعرية في يوميات الأشجار، التي هي الجانب المرصود في عينيِّ شاعر، تكمن جماليتها أنَّها تتجلَّى أمامه كما لن تتجلَّى أمام المرأة تلك، تمشي على الرصيف بخطى سريعة تجلبُ خبزا حارًّا، لكن أمام التجلِّي ذاك يخترق السكونَ صوتُ القصف الذي صار اعتيادًا فيستيقظ صباحًا مع الآخرين، ربَّما أبكر منهم، في التوقيت ما قبل النهوض للمضيِّ إلى المدرسة، هذا إن لم تكن المدرسة قد انهارت في استيقاظة أخرى للقصف/الاعتياد، ففي حين يكون التجلِّي للتفصيل الشعريِّ حكرًا على شاعر، أو أحد ليس أقلَّ تأملاً، لا يكون القصف كذلك، فالقصف هو الذي يتجلَّى للجميع عبر هديره المدمِّر، بل إنَّه؛ أي القصف، ربما يتجلَّى أكثر فداحة للناس وهي تعاينه برعب، هكذا يرقبُ والد من شرفة بعيدة صوب القصف (هذه المرة أيضًا بعيدًا)، لقد ناله وحارته الهدير، إنَّه أقلُّ الضرر، ثم يمضي يومه وكأنَّما اعتياد يومي جنبًا إلى جنب مع مضيع للعمل، أو إلقاء التحية على جاره الذي يقلِّب القصف في شاشة التلفاز (وكأنَّ التلفاز يدلِّل أكثر على آثاره)، هي كذلك، يودُّ لو يرى القصف بعين الصحافيِّ الحصيف، أكثر من أذنه التي نخرتها الأصوات الهادرة.

إذن ثمة مشاعر جديدة إلى جانب الفعل البِدعة/القصف، بعض من خوف وهلع، لكنَّه اعتياد على كلِّ حال، هكذا يوصفه ريبر يوسف حينَ يوثِّق فيه الاعتياد ذاته الذي يبعث في المرأة المسنّة السير في الشارع:

إلى جانب الناس، القصفُ، في الشارع الطويل
يسيرُ. صوب ملاسنةٍ، المرأة المسنَّةُ تستدرجُ
زوجَها. أمرٌ اعتيادي في هذه الفترة من العام.
قهقهات في العتمة.

تشويه عظيم يشبه سرطانًا ومن كثرة تداوله يغدو اعتيادًا، لكنَّه لا يتخفَّف من كونه قاتلاً وسرطانًا، إذن يغدو القصف اعتيادًا من حيث الفعل، لكنه يحتفظ بالترهيب ذاته لحظة وقوعه، إذن يكون زمن الرعب والذهول فقط أقصر مما هو عليه فيما لو كان في توقيت آخر، في اعتياد أقلّ تدميرًا، اعتياد يشبه يومياتنا قبل عام 2011 في سوريا مثلاً.

زمن قصير ذلك الذي نعبِّر فيه عن ذهولنا من القصف، هو ذاته الذي نستغرقه في عدِّ الشهداء، وتوثيق المكان المدمَّر قبل وبعد عبر الصور، حيثُ تغدو أعينُنا أعينا مقارنة بامتياز.

قبل القصف وبعده
تعاود المرأة العجوز عدَّ أولادها.

لن يهمَّ المرأة العجوز بعد القصف سوى عدِّ أولادها في توثيق للحياة، وكأنَّها ستعلن (سبعة أطفال على قيد الحياة)، على العكس من عينيِّ الصحافيِّ الحصيفة التي ستوثِّق الشهداء في القصف وتتابع التداعي الحرَّ للمباني وهي مرتكنة إلى الأرض في فداحة منقطعة النظير.

من تفصيل إلى آخر يتنقل الشاعر ريبر يوسف في نصٍّ يضجُّ بالحياة في تفاصيلها الأكثر دقَّة تلك التي يهشُّها بكلماته، ويوثِّق لحظاتها الأثيرة، وإلى جانب ذلك الانسياب يرصد الجانب الآخر الهادر من اليوميِّ، ألا وهو أثر القصف والتدمير، في حركة خاطفة تجمع بين الاعتياد الشعري الجميل وفداحة ونهب القصف لهذا الجمال:

غناء يستيقظ للتوّ
يسعِّرُ الالتفاتَ في المرأة، حديثُ القصف إلى
السنابلِ
ألتمسهُ في الشرود التامِّ بالأبدية.

في الباب الثاني لمجموعته الشعرية المعنونة بـ «على النافذة، القصف يمرِّر يده»، يقترب ريبر أكثر من الجرح، من حديث عن الفعل إلى حديث عن ناتجه الذي هو الأكثر تماسًا للذات، وهي الحالة النازفة ذاتها المرافقة لأي تدمير، فتتنقّل المشاهد ما بين اللاجئين الذين خانتهم بيوتهم فلم تنقذهم ولم تحتضنهم حتى النهاية ففرّوا منها، وكأنما ثمة خيانة اكتشفوها في الجدار، الذي لن يقوى أمام الطائرات، والصواريخ، وكذلك مشاهد من الذاكرة الذاتية التي تجمعُ هاجسه في الحياة إلى هاجسه في الحاضر الذي يحمل بعضه في عينيه من شاشة التلفاز، أو معايناته لأحاديثهم وهم يسردون من دون كلل ما آل إليه أمرهم، من زمن الاستبداد البارد، الهادئ والرعب المتجمّد في العروق إلى زمن الرصاص والقصف بالطائرات، زمن التغيير، والثورة الهادرة، هذه الثورة التي لم تبق ولم تذر أي شيء ساكنًا، لقد أودعت الحركة في كلِّ شيء، ووضعت قنبلة موقوتة في كلِّ مكان، أهكذا يكون التغيير؟ (الانبناء تأسيس بعد دمار) كذا يقولها أحدهم وقد نخرته رصاصة.

البعوضة فراشتهم الوحيدةُ
«يحدثُ هذا بشكل اعتياديٍّ وخارج التشبيه
الشعري».
إذ تتنقّل من لاجئ إلى آخر.
الناس في المخيمات، تجمعهم روابط دم.

ثمة تساؤل مبطن عن الاختلاف ما بين الاعتياد اليوميِّ لعائلة تحت القصف، وأخرى في المخيَّم في اعتياد الضياع ذاك الذي يخترقُ السكينة في التآلف النشاز مع المكان، تستطيع إزاء تعداد الفوارق أن تلعب لعبة «عشرة فوارق»، من دون أن تلتزم العدد عشرة.

في مقام آخر من المجموعة الشعرية يحفلُ ريبر يوسف بالموسيقى في نصوص متوازية مع نوتات موسيقية ستحتاج إلى حواسٍّ أكثر لالتقاطها، أفكِّر في لاجئ تقعُ عينه على الكتاب، كيف سيبثُّ الحياة في النوتة الموسيقية، إذ يستدرج بعينيه الرسوم من دون أن يعرف تمامًا مؤدَّاها موسيقيًا، ربما على القارئ أن يدندن شيئًا ما بناء على عينيه الحصيفتين في تتبع الرسوم/الوسوم.

من غصن إلى آخر يتنقّل القصف، هي محاولة لصياغة كاتالوغ لحركة الحياة بالعين الشعرية ومن ثمَّ رصد لحركة الدمار الهادر وهو ينهب السكينة، ومن ثمَّ مراقبة الذاكرة المثقوبة برصاصات الحاضر..

*** *** ***

القدس العربي

 

 

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني