عبد الوهاب المؤدب: الباحث عن ثقافة كونية
عبدالدائم السلامي
ربما
تقف نُعوتٌ مثل علماني وحداثي وتنويري وعقلاني دون توصيف حال المفكر
عبدالوهاب المؤدب المولود في تونس العاصمة عام 1946، والذي رحل عنا يوم
الخميس 6 تشرين الثاني (نوفمبر) الجاري في باريس، ذلك أنه مثقف جمع.
فهو قارئ جيد لتاريخ الديانات، ومُطلِع على الفلسفات القديمة والحديثة،
وله تواصل شعري مع «حداثة» أقطاب التصوف. أما مسيرته الفكرية فتنبئ
بأنه ظل يُسلط يقظتَه على الواقع تحليلاً لمفرداته وتأويلاً لمشكلاته.
وقد ساعده في ذلك امتلاكه ثقافتيْن شرقية وغربية، عمل على تجسير الهُوة
بينهما بحثًا منه عن الإنساني والكوني فيهما وتأصيله مذهبًا في الفكر
وفي السلوك. ولا شك في أن مثقَفًا مثله تواقًا إلى قيم الحرية
والديموقراطية والقبول بالآخر والعيش المشترك سيكون صريحًا في الاعتراف
بأمراض عصره والوقوف فيها على أسبابها الرئيسية، مهما كانت طبيعة تلك
الأمراض ومهما كانت صلته الجغرافية بها، من ذلك أننا نلفيه بعد أحداث
11 أيلول (سبتمبر) 2001 يعود إلى داخله الحضاري ناقِدًا له ومنتَقِدًا
لمُخرَجاتِه الثقافية والسياسية، فيُقرُ في أحد كتبه بأنه
إذا كان التعصب هو مرض الكاثوليكية، وإذا كانت النازية هي مرض ألمانيا،
فإن الأصولية هي مرض الإسلام.
ولم يتردد عبدالوهاب المؤدب، وهو في فراش المرض، في تحفيز بعض زواره في
مستشفى «بيزيت» الباريسي على أن يتظاهروا في الشوارع ويعلنوا احتجاجهم
على إعدام الرهينة الفرنسي هيرفي غورديل وأن يرفضوا هذا العنف الأصولي
الذي راح يستشري في جسد الواقع العربي ويشوه صورة الإسلام والمسلمين
فيه. وذلك من جهة أن "هذه الفظائع ترتكب باسمنا أيضًا، لأننا مسلمون"،
على حد ما نُقِل عنه. وربما نجد في دعوته إلى نبذ الظلامية العقائدية
ومشتقاتها السياسية صدًى لرؤيته للظاهرة الدينية الإسلامية التي انكب
عليها بالتفكيك والدرس في كتاباته، بخاصة منها كتاب أوهام الإسلام
السياسي الذي رفع فيه تهمة العنف عن الدين الإسلامي ممثَلاً بنصيْه
القرآن والسنة، وأرجع أسباب ما يتجلى من تطرف باسمه إلى بعض الدعاة
والشُراح الذين استهوتهم لذائذ السياسة، فانزاحوا بالنص الديني عن
سياقاته الزمانية صوب مآرب سياسية ساحبين ظروف الماضي على ظروف الحاضر
في كثير من النقل الحاف الخالي من كل اجتهاد عقلي. وكانت غايتهم من
وراء ذلك هي تبرير عنف السلطة وشرعنة هيمنتها وامتداداتها. فالإسلام،
وفق رأي المؤدب، له جانب إنساني تُنبئ به آيات التراحم والإيثار على
النفس والقبول بالآخر. الأمر الذي جعل هذا المفكر يدعو إلى إعادة قراءة
تاريخنا الإسلامي قراءات غير "وجدانية" تنطلق من النص وتحتكم في تأويله
إلى حقائق الواقع البشري الراهن بكل إكراهاته المادية وحُمولاته
الرمزية. ولأن عبدالوهاب المؤدب، الذي أقام في باريس منذ عام 1967، ظل
مسكونًا بهموم وطنيته وإسلامه، وجدناه - في الوقت الذي كان مرضه الخبيث
يفتك بجسده - يكتب مقالته الأخيرة في جريدة «لوموند»، يوم 9 تشرين
الأول (أكتوبر) 2014 قائلاً: "إني أحمل في داخلي مرض الإسلام".
هنا شهادات من كتَّاب وأصدقاء وأكاديميين:
لم أجد فرصة لأرد له الجميل – رجاء بن سلامة
عرفت عبدالوهاب المؤدب في آخر الثمانينات عندما شاركت لأول مرة في ندوة
فكرية عن المرأة والإبداع، وكنت مبتدئة، متعثرة، فاستفدت من أحاديثه
وملاحظاته، وكان كريمًا في مجالسه ومحاوراته، أديبًا يقدم معارفه
"مأدبة" لأصدقائه. وكان يشترك مع أخي فتحي بن سلامة في إخراج مجلة قيمة
هي ما بين العلامات
Intersignes،
وقد نشرت أولى مقالاتي بالفرنسية فيها، وأعتقد أنه ساعدني على ذلك، ومن
ثم انقطعت صلتي المباشرة به إلى أن جاءت ثورة 14 كانون الثاني (يناير)
2014، وكان من فضائلها أن أعادتنا إلى بلادنا وأعادتنا إلى أصدقائنا.
الاستبداد يفرق والثورة تجمع.
كنت أرى في عبدالوهاب المؤدب أديبًا أنيقًا، جميلاً، شبيهًا بالأدباء
الظرفاء في عصر الازدهار العباسي، لأنه كان يفتخر بنسبه المزدوج العربي
الأوروبي، وكان متنوعًا في اهتماماته وكتاباته، مثل الآخذين من كل شيء
بطرف، مع عمق وإلمام بالفكر المعاصر في أحدث تياراته. وبعد الثورة رأيت
فيه صورة للمثقف الملتزم الذي لا يقف على الربوة محافظًا على نقاء
صورته، ولا يستنكف من الدعوة إلى التصويت المفيد لحزب بعينه، لأن ذلك
الحزب قادر على إلحاق هزيمة بممثلي الإسلام السياسي. كنا نتراسل من أجل
إصدار البيانات وتوقيعها. وظل إلى آخر رمق في حياته يغالب مرضه ليهتم
بالشأن السياسي التونسي. وإذا سألته عن حاله حول وجهة السؤال وحدثك عن
تونس.
إن من يلاحظ اليوم نجاح الانتقال الديموقراطي في تونس واستمرار العملية
السياسية، عليه ألا ينسى الثمن الذي دفعته نُخب البلاد ودفعه مجتمعها
المدني لكي يتحقق هذا النجاح النسبي، ولكي يصبح ممثلو الإسلام السياسي
"معتدلين" وقابلين إلى حد ما باللعبة الديموقراطية. فقد تعرضنا عام
2012 لمحنة الإرهاب والاغتيال السياسي والاعتداء على الفنانين وأضرحة
الأولياء، والاعتداء على علم البلاد، ومحاولة التضييق على الحريات.
وحولنا اغتيال شكري بالعيد، الذي كان صدمة بالغة لكل التونسيين، إلى
برنامج عمل وحولنا جملته "يجب أن نقف لبلادنا" إلى وصية. وأعتقد أن
عبدالوهاب كان أحد العاملين بهذه الوصية. يكفي أن أقول إن آخر لقاء
جمعني به في تونس كان يوم 25 تشرين الأول 2012 عندما طلب مني مرافقته
إلى المحكمة حتى يساند عميد كلية الآداب والفنون والإنسانيات، المؤرخ
الحبيب قزدغلي في المحاكمة التي لفقها له النظام المتشدد، متهمًا إياه
بالاعتداء على منقبة. وعندما أقام المقرر العام للدستور دعوى عليَّ، لم
يكتفِ عبدالوهاب المؤدب بتوقيع عريضة مساندة، بل طلب أن يحاكم مثلي،
وأن يوقع كل المساندين نصًا جاء فيه: "أطلب من النائب الإسلامي
النهضاوي السيد حبيب خضر أن يتتبعني قضائيًا كما فعل مع رجاء بن سلامة،
لأنني أنا أيضًا أتهمه بتغيير الفصل 26 من مشروع الدستور المتعلق بحرية
التعبير والإعلام...". اختطفته يد الموت سريعًا. فلم أجد فرصة لأرد له
الجميل.
باحثة وكاتبة تونسية
***
عودة الروح العلمية - محمد المزوغي
عبدالوهاب المؤدب مفكر قدير وصاحب مواقف جريئة ومُجددة. لقد شخص بدقة
الوضعية الراهنة للعالم العربي والداء الذي ينخر المجتمعات العربية:
الطغيان والبؤس والجهل، إضافة إلى التعصب الديني. لكن العرب ينسبون
شقاءهم إلى الآخر الأجنبي وهكذا ينزعون المسؤولية عن ذواتهم. عبدالوهاب
المؤدب هو مفكر علماني حر، لكنه لم يكن معاديًا للدين عمومًا وللإسلام
خصوصًا: وهو نفسه يؤكد في كتابه أوهام الإسلام السياسي أنه نشأ
في أجواء الإيمان الإسلامي، وأن الإسلام ليس هو أصل الداء، بل الداء هو
ما فعله المسلمون أنفسهم بالإسلام. إن الحضارة الإسلامية قد جسدت
بالفعل في يوم ما من تاريخها المجيد مفهوم "المدينة – العالم" المشع
والزاخر بالعلم والمعرفة والتقدم والانفتاح، في بغداد العباسيين وقاهرة
الفاطميين والمماليك... لكن هذا الإشعاع ابتعد الآن بعدًا سحيقًا عن
ديار الإسلام. وهذا ما سبب رضة نفسية في المسلمين، وما زال العالم
الإسلامي مفجوعًا بزوال مجده وغلبته، لكنه لم يفعل شيئًا لرفع هذا
التحدي أو إزاحة أسباب العطالة لكي يلحق بركب التقدم والعلم. فالمسلم
يبقى في نظر عبدالوهاب المؤدب، وهو يَصف حالة اجتماعية ولا يُطلِق
حكمًا قيميًا، حبيسًا للمجال الرمزي واللغوي الخاص به، بعيدًا من الروح
العلمية. لكن المؤدب لم ينسَ مكيافلية الغرب في التعامل مع الشعوب
الأخرى والانحراف الذي دفع بالأوروبي في فترة الاستعمار إلى مخالفة
مبادئ الحرية والديموقراطية عندما سعى إلى الهيمنة على العالم، وقد كان
شعاره في تلك الفترة: تبعية في ما يخص حقوق الشعوب، استعباد في ما يخص
دولة الحق والقانون. الإشكالية هي أن من يتصدر الآن الساحة السياسية
والإعلامية في العالم العربي هم الإسلاميون المتشددون، من خلال قراءتهم
الأصولية المشوهة للدين، بحيث إنهم عمموا التفكير والتحريم والجهاد
والقتل. وهذا أكبر ضرر سببوه لسماحة الدين الحنيف. ولم يكن يرى عند
عبدالوهاب المؤدب حلاً للخروج من هذا المأزق التاريخي إلا بأن يستعيد
الإسلام الجدل والحوار ويكتشف مجددًا تعددية الآراء ويفسح المجال
للاختلاف والتباين، ويتقبل فكرة حرية الآخر في التفكير النقدي، ويُعيد
إقرار الحق في النقاشات الفكرية ويتكيف مع الظروف التي تولدها تعددية
الأصوات، ويفتح المزيد من المنافذ وتتوقف فكرة الإجماع. إنها مطالب
ملحة نحن في حاجة إليها في زمننا العصيب هذا.
أستاذ الفلسفة الإسلامية في جامعة روما
***
صاحب قراءة حداثية للنصوص العقائدية - أبو بكر العيادي
التقيته آخر مرة في ربيع هذا العام في معرض الكتاب الباريسي. تبادلنا
كلامًا عابرًا عن الكتاب الضخم الذي أعده مع بنجامين ستورا عن علاقة
المسلمين واليهود عبر التاريخ. ولم يكن يلوح على ملامحه أنه منذور
لنهاية أليمة. هو علَم بارز فرض حضوره في الساحة الفرنسية، وهذا ليس من
السهولة بمكان، ندرك ذلك اليوم بعد رحيله، كم كان دوره جليلاً في
الدفاع عن ثقافتنا وديننا. درس عبدالوهاب المؤدب الفرنسية وحاضر بها
وألف فيها وتواصل من خلالها مع مستمعي إذاعة فرنسا الثقافية أو قراء
جريدة لوموند، أو قارئي منشورات سندباد، التي كان إشرافه عليها مشفوعًا
بترجمات لعيون المدونة العربية، بقديمها (الحلاج، السهروردي، المتنبي،
المعري...) وحديثها (نجيب محفوظ، الطيب صالح، درويش، أدونيس...). لكنه
لم يتنكر لأصله ولغته وحضارته، بل عاش يحفر في تضاريسها ليقدم للغرب
صورة مغايرة عن الثقافة العربية التي أبحر فيها كأقصى ما يكون الإبحار،
وعن الإسلام باستحضار أعلامه الذين كانوا ينبذون العنف ويدعون إلى
التسامح والتآخي، ويعشقون الحياة. وأكثر ما كان يزعجه اتهام المغرضين
الإسلامَ بالتزمت والعنصرية والاسترقاق وإذلال المرأة انطلاقًا من
قراءة استشراقية قاصرة، أو من تأويل مغلوط لما يصدر عن بعض العرب
والمسلمين في الأعوام الأخيرة من أعمال عنف ومواقف راديكالية، لأنها في
رأيه صورة للعمى الديني الراهن، ولكنها ليست من الإسلام في شيء، ومن ثم
سعى في برنامجه "ثقافات الإسلام" (الذي بثت آخر حلقة منه على أمواج
إذاعة فرنسا الثقافية غداة وفاته) وكذلك في "ديدال" (نسبة إلى ديدالوس
مهندس المتاهة الإغريقية) إلى الحض على الإسلام التنويري، الذي تشبع به
أيام دراسته في تونس، ثم واصل اكتشافه في منفاه الباريسي من خلال
فلاسفة دعوا إلى إعمال العقل لتقديم قراءة حداثية للنص الديني تواكب
العصر. أو حتى عبر أدباء وشعراء صوفيين كالحلاج وابن عربي وابن مدين
التلمساني، أقاموا الدليل على أن المسلم يمتلك رؤية "حداثية" إلى
العالم. بعد ثلاثيته الشهيرة، كان الراحل يحلم بأن تقود المرأة العربية
المسلمة ثورة على العادات والتقاليد البالية التي تكبل مجتمعاتنا، لأن
وضع المرأة هو الحد الفاصل بين الدولة المدنية والدولة الدينية، وهو
المؤشر على التقدم الفكري والاجتماعي. رحم الله عبدالوهاب المؤدب.
عزاؤنا زرعُه الثريُّ الذي لا يمكن إلا أن يخصب، طال الزمان أم قصر.
روائي تونسي مقيم في باريس
*** *** ***
الحياة