هاتف روسي، همسات صينية

 

جولان حاجي

 

استلم إمبراطور الروم رسالة عجائبية منتصف القرن الثاني عشر، مرسلها ملك الملوك برستر جون الذي راسله البابا إسكندر الثالث. في تلك الرسالة أسطر حول نمال عملاقة، ونهر دافق من الأحجار، وبحر من الرمل تسبح فيه أسماك حية، ومرآة شاهقة تعكس كل ما يدور في المملكة التي حوت "عين الحياة" أيضًا، وتاخمت الجنة، وكان كل أهلها مسيحيين فُقدوا بين مسلمي المشرق وكفَّاره. ألهمت تلك المرآة العملاقة العديد من القصص الأوروبية في القرون الوسطى وعصر النهضة.

يأتي السندباد البحري في ألف ليلة وليلة على ذكر برستر جون باسمٍ آخر هو يوحنا السوري. سيرة هذا الملك الخيالي تشبه سيرة كتاب الليالي وحكاياتها: بداية ظهوره في الهند؛ ثم تنقُّل مملكته عبر بلاد فارس وآسيا الصغرى دون أن تتوسَّع. لم يطل مكثًا في بلاد العرب. بارحها حين هُزم الصليبيون الذين استغاثوا به عبثًا. خذلهم أيضًا الملك الجبار الفاضل الذي آمن به الجميع ولم يره أحد. لكنهم، على الرغم من الخذلان، تركوه وراءهم، ليحكم الأراضي المقدسة نيابة عنهم، ملكًا خياليًا هاجر في النهاية إلى هضبة الحبشة ونصاراها، حيث اختفى وقد تجاوز عمره خمسة قرون. هناك رأى رحالة برتغاليون بقايا مملكته للمرة الأخيرة.

مثل سركون بولص، الشاعر الذي تسكع عبر العالم وتشرد وتاه، غادر السندباد البحري بغداد وطال منفاه. طاف البلدان، مبتعدًا عن بغداد حتى أوشكت تستحيل وهمًا؛ وحين يُسأل في بلد بعيد "من أنت؟" يجيب بأنه يجهل اسمه، ويجهل أي طريق تفضي إلى الأسماء. ومع ذلك روى تيهه بلسانه، ولم ينسَ الأعاجيب (وآخر ما يتذكره عادة أعجوبة نجاته): كأن يزقو الرخُّ فراخَه أفيالاً، أو يسافد حصان البحر في الليل فرسًا مربوطة إلى صخرة على الساحل. في حامل الفانوس في ليل الذئاب، يسترجع الشاعر والمترجم الآشوري المترحِّل كيف يصادف السندباد شيخ البحر في جزيرة مقفرة؛ يحسبه محتضرًا غرق مركبه، ثم يرفعه ويحمله على ظهره، قبل أن يكتشف على الطريق إنه قد أنقذ وحشًا سيخنقه بساقيه، مثل جني القمقم الذي توعَّد بقتل مَن يعتقه. في الديوان ذاته يكتب الشاعر عن عتال في كركوك يفقد عقله لأن سيدة فتحت له سريرها لمرة يتيمة. حمال الكلمات عنوان قصيدة أخرى للشاعر، ينطبق على رواة الحكايات حمَلةِ الأحاديث وحفَظتها. لنتذكر هنا لقاء في الليالي. السندباد البري الذي يعمل حمَّالاً في بغداد ولم يغادرها قط، يلاقي السندباد البحري بعد عودة الأخير من سابع مغامراته. يتلاقيان، سِيّين وسَميّين، كمسافر عاد إلى قرينه الذي ظل يواصل عنه حياته الأخرى، حياة ظلت تدور تحت الاسم نفسه أثناء غيابه عن مكانه الأول. مثل ماركو بولو، ربما لم يسافر السندباد، وربما كانت رحلاته – إذا استعرنا بيتًا من إدغار ألن بو - حلمًا آخر داخل حلم شهرزاد الطويل.

***

أنطوان غالان، أول مترجمي ألف ليلة وليلة إلى اللغات الأوروبية، عثر خلال رحلاته المشرقية على مخطوط لليالي ترجمه إلى الفرنسية، إضافة إلى اعتماده على راوٍ ماروني سوري اسمه حنا دياب كان ذاكرة الحكايات. مطلع القرن الثامن عشر نشر غالان ترجمته على حلقات في الصحف، مثلما كانت تنشر بالأسلوب نفسه الرواياتُ الروسية الضخمة ذوات العدد الكبير من الشخصيات. اخترع غالان قصصًا كعلاء الدين والمصباح السحري أو علي بابا و"الأربعين حرامي". لم يتقيد بالحرفية واقتفاء الحذافير، فالمترجمون تدخلوا أيضًا كمؤلفين لذاك الكتاب المفتوح مجهول المؤلف، وتصرَّف بعضهم كرقباء هذَّبوا اللغة أخلاقيًا، فشذَّبوا القصص مما اعتبروه سوقية الرعاع وبذاءاتهم. ألف ليلة وليلة وقوع في المحظور، وما سُمِّي "تهذيبًا" في ترجماتها القديمة وطبعاتها العربية العديدة كان قناعًا، فحينما يظهر الجسد وتُسمَّى أعضاؤه وشهواته تبدأ دوامات البلاغة والمناورات؛ السرير أيضًا فارق يفصل بين الشرق والغرب اللذين يتبادلان الأدوار، سرير يطفو فوق نهر من الدم. المؤرخون العرب القدامى لم يُعنوا بالليالي. ينعتها ابن النديم في الفهرست بالغثاثة وبرودة الحديث. لم تُروَ حكاياتها بلغةٍ مرصَّعة، ولم يكن ثمة مؤلف يشرِّف الكلام بإمضاء اسمه؛ كانت عملاً لقيطًا أو مشبوه النسب، حرًّا كمنمنمة هائلة الأبعاد لا يوقِّعها فنانونها أبدًا. ما أكثرهم دائمًا أولئك الذين يهزؤون بـ "الابتذال" ويستهجنونه، لكنهم مشدودون في السر إلى ما يشجبونه.

رسَّخت ترجمة غالان شهرة الليالي في أوروبا. أسست الوهم المسمى سحر الشرق الذي "تعبق" به كتابات الرومانسيين. لا يزال ذاك الوهم حيًا: شرق الحكمة والعطور والغرابات، عالم كنوز آخرها النفط، عالم التطرف في الفقر والثراء. شرق الليالي لا يقع في الصين، ولا يشبه عوالم حلم الحجرة الحمراء على سبيل المثال، بل يعني عالمًا إسلاميًا على الأرجح، غريبًا غامضًا، مقلقًا بعيدًا: الحواضر مدن عربية كبغداد والقاهرة ودمشق، أسماء الشخصيات عربية، وهم مؤمنون بالإسلام وترد على ألسنة بعضهم آيات من "الذكر الحكيم" وأحاديث نبوية. ليس زوال الصور النمطية يسيرًا لأنها بنات القرون؛ تنتقل كالحكايات من مكان إلى مكان، ومن عصر إلى عصر. ربما حفاوة الغرب المستمرة بهذا الكتاب اللامتناهي سبب من أسباب عودة الاهتمام العربي بها، وهو اهتمام محدود في كل حال. ربما بدا مهينًا عنوانُ الليالي العربية الذي اجترحه في الترجمة الإنكليزية ريتشارد بيرتن، ولربما يبدو مضحكًا أو متهافتًا إذا تذكرنا مثالاً معاصرًا رائجًا يوحي بما يُعتبر عوالم الف ليلة وليلة، هو لحن كورساكوف "شهرزاد" ملازمًا فوازير رمضان.

قُورن أسلوب الليالي في السرد بالدمى الروسية. تغيرت بعض الحكايات عبر الزمن وتعدد الروايات. يذكرنا هذا التحول بلعبة اسمها في بريطانيا "همسات صينية"، بينما تسمى في فرنسا "الهاتف العربي"، وفي روسيا "الهاتف المعطل". ينتظم اللاعبون في حلقة، ثم يهمس اللاعب الأول قصةً أو رسالة في أذن جاره، ليعيد روايتها في أذن اللاعب التالي، وهكذا دواليك إلى أن يتوقفوا عند اللاعب الأول وتقفل الدائرة ليقارنوا علنًا بين البداية والنهاية، بين الأصل والنسخة الأخيرة التي غالبًا ما تكون قد تحولت إلى قصة أخرى.

هذا ما فعلته شهرزاد بما قرأت. كانت مثل رواة ليل امتهنوا الحكي، وأجدادهم ترددوا على الإسكندر ذي القرنين، وأسْروا عنه بالحكايات أرَقَ لياليه. لم تؤلف شهرزاد شيئًا. كانت تتذكر ما تقرأه، وتستولد حكاياتها من بطون كتب أخرى، ويقال إن مكتبتها احتوت ألف كتاب. القراءة تأليف حالم أيضًا، متعة كلذات الحب والسفر، لكنها في الليالي جزء من السرد وأسلوب في فن إرجاء الموت، حيث الإدهاش أولى من العبرة. الليالي لا تُقرأ كضخام الروايات من الغلاف إلى الغلاف. التعاقب والترتيب ليسا مهمين. يدخل القارئ هذه المتاهة كيفما اتفق له، مثلما يتابع فوضى القراءات المتقطعة عبر الإنترنت فيقفز بسبب الفوضى والضجر والفضول من صفحة إلى أخرى، متلصصًا كمراهق أحيانًا، وخطواته - مثل ناقة زهير أبي سلمى في معلقته، الضريرة كالمنايا في ليل القدر - خبط عشواء، إذ من أين سنأتي بالوقت كي نقرأ كتبًا فيها عزاؤنا ويأسنا؟ وكم من كتاب لم نكمل قراءته؟ العرب القدامى تطيروا من كمال الليالي وشساعتها، وقيل إنَّ مَن يُتمِمْ قراءتها يَمُتْ؛ كتاب أنقذ العذارى من القتل يحتوي قصصًا عن كتب عظيمة تغرقها الملائكة في نهر دجلة، وكتب أخرى مسمومة الأوراق تقتل قرَّاءها، ومن لم يمُتْ بسيف أو بكتاب "مات بغيره"؛ أمام العالم مثال بلد اسمه سوريا، كلغز مدينة النحاس التي يختفي مَن يدخلها، والنحاس – معدن القمقم محبس الجن ومعدن الطلقات والقذائف وقباب المعابد بأهلَّتها وصلبانها - جذره في لسان العرب: "نحس".

*** *** ***

عن صفحة الكاتب على الفيسبوك

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني