لم أفعل شيئًا في
حياتي يشبهني أكثر من الشعر
حوار مع هاني نديم
في الشعر "يستحضر
العالم إليِّه" هو الذي "يقف على تلةٍ من الأوجاع والحسرات والخسائر
والفقد والدخان والموت والفجائع والحب والأرواح الطيبة والنايات
والعتابات والغيابات"، هذا هو هاني نديم الشاعر الذي "لم يفعل شيئًا في
حياته يشبهه أكثر من الشعر" كما يؤكد لنا في هذا الحوار. هو ابن مدينة
النبك السورية التي أثَّرت فيه وانعكس ثقلها على نصوصه بشكل كبير. نصه
هذا الذي يعتبره "نصًا متعاليًا مهما كان منكسرًا، ومنحازًا للغناء
مهما حاول تحديثه...". هاني نديم شاعر وإعلامي سوري، ولد عام 1972
بمدينة النبك في سوريا ونشأ في بيئة قروية، كتب الشعر منذ بواكير
أعوامه حيث نشر ديوانه الأول وهو في السابعة عشر من العمر، وتتالت
أعماله الإبداعية في الشعر والمسرح والدراما والغناء. صدرت له 4
مجموعات شعرية، منها الدم قراطية، كرامات الأشقياء،
ودراستان نقديتان و9 مسرحيات. غنى من قصائده كبار مطربي العالم العربي
مثل، أميمة الخليل ولينا شاماميان وكريمة صقلي وغيرهم.
من قصيدة سور الله
العظيم نقرأ له:
والحج هذا العام
للشام
..
طف سبعًا
على حزن المنازل
واقرئ
مـيـِّـتيـها السلام
من اشتروا ثياب العيد
لكنها
وُزِّعت على أرواحهم
لسكان الخيام
وتذكَّر وأنت تسعى
بين صفا... ومروة
أن مرام...
تركت لك على الباب وردتين
اثنتين
وأنك حبيبها
قالت مرام.
س. ع.
***
سجى العبدلي: تكتب قصائدك وكأنك لا تبالي بأحد، كم تشبهك هذه
القصائد؟
هاني نديم:
أؤكد أنني لم أفعل شيئًا في حياتي يشبهني أكثر من الشعر، فهو المكان
الوحيد الذي أستقبل فيه الأشخاص لا كما ينبغي بل كما أريد، إذ أننا في
الحياة العامة نضطر للبس رابطة العنق والذهاب إلى أماكن لا نرغب
بالذهاب إليها، بينما في الشعر أستحضر العالم إليَّ، إلى بيتي، إلى
الصالون أو غرفة الطعام، لا يهم. كنت فيما مضى - في البدايات - حريصًا
على أن أبدو شاعرًا، لغويًا وبنيويًا، اليوم لا يهمني، إن قضاء الوقت
في برهنة الشعرية يقصيها ويقصي متعة الشعر لدي، أكتب اليوم نصوصًا
كيفما أريد بعدما تصالحت مع فكرة الكمال اللفظي واللغوي، اليوم أنا
أجرب دون الرجوع لمرجعية شعرية سوى تراكمي الشخصي، وهذا يشبهني جدًا في
انفلاتي من المرجعيات عمومًا.
س. ع.: الشعراء
اليوم في سوريا منقسمون على أنفسهم أين يضع هذا الأمر القصيدة السورية
وما أبرز التحولات التي ستشهدها برأيك؟
ه. ن.:
تمر سوريا اليوم بكارثة إنسانية بكل معنى الكلمة، كارثة أتت على البشر
والحجر والطير والشجر، الانقسام الذي تتكلمين عنه والذي طال الجميع،
شعراء وغيرهم، طبيعي في هذه المرحلة من الهدم، تباين وجهات النظر حول
الاستحقاق والعدل والحريات بل وحتى الوطن! ولأن الشعر هو مجنون القرية،
ولأن الشعر هو أكثر أفراد أسرة الكلام خروجًا عن التكلُّف والزيف، فإنه
سيؤرخ لتلك المرحلة بشكل أصدق من غيره، فإن كان التاريخ يكتبه
المنتصرون، فإن الشعر يكتبه اللامنتمون، وهذا ما يؤكده على الدوام،
فقصيدة لأبي نواس على سبيل المثال، أهم من جزءٍ كاملٍ بالنسبة لي من
الكامل في التاريخ إذا أردت الاطلاع على مجتمع بغداد في حينه.
س. ع.: مدينة
النبك بعاداتها الشرقية وتقاليدها العربية الأصيلة كيف أثرت في بنية
شعرك؟
ه. ن.:
أرأيت الخرافات والأساطير المتعلقة بأمكنة زائلة كالتي ذكرها القزويني
في كتابه عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات؟ أرأيت فكرة المجتمع
الكامل التي أرادها ابن خلدون، وحاولها أفلاطون في جمهوريته وتوماس مور
في الويتوبيا؟ إنها النبك دون مبالغة، ذلك المجتمع الجميل الكريم حد
الأساطير، المقامر المغامر المحب للحياة والذي كان من أوائل من ركبوا
السفن لأمريكا الجنوبية وأفريقيا والعالم، والمأخوذ بقصص المراجل
والقبضايات والنخوة والمروءة. لا أقول هنا إن النبك قطعة من الجنة وما
إلى هنالك من التلفيق الخيِّر الساذج، إنه مجتمع متكامل فيه أيضًا
الأشرار والقمرجية والسكرجية إنما حتى هؤلاء يكملون مشهدًا يكاد يكون
أسطوريًا حقًا كالذي في الروايات الخالدة. أتمنى أن يسعفني الوقت
للكتابة عن هذا المكان الأشمِّ المذهل بكل ما تعنيه الكلمة من معنى
بناسه وحراسه. لقد انعكس ثقلها على نصي بكل تأكيد، إذ إنه نص متعالٍ
مهما كان منكسرًا، ومنحازٌ للغناء مهما حاولت تحديثه.
س. ع.: هاني نديم
شاعر ابن بيئته رغم ارتحاله المتكرر عنها كيف انعكس هذا الترحال
المتكرر على إنتاجك الشعري؟
ه. ن.:
مهنة الصحافة، تلك النهمة الشرهة المرهقة، التي تأكل العمر أكلاً
لمًّا، لولا أن السفر لازمتها لكانت مصابًا جللاً. بحكم عملي كصحفي عشت
تنقلاً متواصلاً، الأمر الذي شكَّل الكثير من وعيي الشعري وعرَّفني على
مفردات ما كنت أظنني سأراها إلا في الشاشات؛ السناجب، القطارات، الدبب،
السفن، البحارة... أن ألامس الخميس موسيقى غريبة خافتة تخرج من مذياع
قرية نائية في تركيا، لأصحو على صوت خنزير بري متوارٍ وراء الأحراش في
كينيا، كل هذا يتدخل بيد ثقيلة في النصوص كما يتدخل على هيئة الشخص
بشكل عام. أحب السفر، الفكرة شعرية جدًا، أحب أن أنقل معي كل هذه
المطارح التي تعجُّ في داخلي إلى أوراقي وكتاباتي.
س. ع.: برأيك، هل
تشكِّل الأحداث التي تعصف بالوطن العربي اليوم مادة دسمة من شأنها
إعادة مكانة الشعر ليتصدر المشهد الثقافي العربي من جديد؟
ه. ن.:
انتابتني رغبة عارمة بالشتيمة وأنا أقرأ هذا السؤال، الشتيمة للأحداث
والأوطان والمواد الإعلامية والشعرية الدسمة، والمشهد الثقافي العربي
أيضًا! إن صياغة سؤالك دقيقة، إنها أحداث «تعصف» حقًا بالوطن العربي
ومفاهيمه التي شبنا عليها، وها نحن اليوم نشكِّك في كل شيء، الأوطان
والمواطنة، الحريات والكفاح، كل شيء... لا أعرف هل يعيش الإبداع على
أكتاف هذا الكمِّ من الخراب. لا أظن أنه سيفرز شعرًا أو إبداعًا حرًا
بغير الشفقة.
س. ع.: الميجانا
والعتابة وقصائدك، ما سرُّ هذا العمق والرابط المتين؟
ه. ن.:
يعود ذلك إلى أنني ابن الجرد، جرد جبال القلمون وسلسلة جبال لبنان
الشرقية التي حاضرتها مدينة النبك في الشرق مثلما حاضرتها بعلبك في
الغرب. وتلك دائرة موسيقية مستقلة عن بقية المناطق ومختلفة بمقاماتها
الموسيقية ودبكاتها وآلات عزفها. ففي النبك لدينا دبكة نسميها
البعلبكية كما في بعلبك دبكة اسمها النبكية. تلك العلاقة تصل بينها عدة
خيوط الميجانا والعتابا أوضحها، فإلى وقت قريب كان مهر العروس في قرانا
بيت عتابةٍ متفرد أو قصيدة "قرادية" متجاوزة. لم أستطع تجاوز هذه
الغنائية ولم أحاول حتى وإن كتبت قصيدة نثر. فأنا في جيناتي ابن الكروم
والبيادر والحصاد، أطرب للنغم، وأحن للعتابا وما زلت أراها أجمل فنون
الشعر.
س. ع.: لمن يكتب
هاني نديم؟ وكيف تصف علاقتك بالقصيدة؟
ه. ن.:
أكتب لي وحدي... واقفًا على تلةٍ من الأوجاع والحسرات والخسائر والفقد
والدخان والموت والفجائع والحب والأرواح الطيبة والنايات والعتابات
والغيابات. وعلاقتي بالقصيدة علاقة متزنة واعية ومقدسة جدًا وإن تناولت
أدنى المواضيع، أحترمها كما أحترم الكبار في السن، وأهابها كما أهاب
راية الوطن.
س. ع.: كتبت
التفعيلة والعامودي والنثر كيف نجحت في جمع كل هذا التنوع؟
ه. ن.:
لا أجد التمكن من كتابة الوزن ميزةً وتفضيلاً في حقيقة الأمر، بل إنه
أحد ثوابت كتابة الشعر، إنما أصبح ميزة في هذا الوقت العبثي. علينا
الإيضاح هنا أن شعراء النثر العظام، اختاروا النثر عن دراية ببقية
أنواع الكتابة الشعرية من تفعيلة وعمود ومجزوءات وموشحات، لم يهبطوا
على قصيدة النثر من صفحات بريد القراء ولايكات الفيس بوك.
س. ع.: ما سر
العلاقة الحميمة بينك وبين القصيدة فنراك تقرأ القصيدة وكأنك تغازلها؟
ه. ن.:
تلك المتع الموجعة، القصيدة، المرأة، السيجارة، الذكريات، العودة إلى
الأماكن المهجورة، تستلزم كل الحواس وتتطلب كل الروح. بالنسبة للإلقاء،
فقد اكتسبته بسبب تقديمي برنامجًا إذاعيًا في فترة من الفترات.
س. ع.: ماذا عن
خفة الظل التي نقرأها ما بين سطور قصائدك، هل هي انعكاس لشخصية هاني
نديم؟
ه. ن.:
لا، إنها انعكاس شخصية جاري أبي محي الدين [وجه باسم]
س. ع.: أي قصائدك
تحكي عن واقع حالك؟
ه. ن.:
في هذه المرحلة قد تكون سور الله العظيم، جرحي السوري الذي لم
يندمل ولا أظنه.
س. ع.: لما قررت
أن تكون قصيدة ظلالنا إحدى القصائد التي ضمها ألبوم الفنانة أميمة
الخليل الأخير؟
ه. ن.:
تلك الإنسانة العظيمة فاجأتني باتصال منها تستأذنني بغناء النص، أسقط
في يدي بداية الأمر، إنه نصٌ وعر، فيه مفردات ثقيلة، كـ "الأوس"
و"الخزرج" وثيمات وأفكار جاهلية، إلا أنني قلت لنفسي إنها أميمة خليل
وهي أدرى بشعابها، وفهمت بعد أنها أصابت بينما كنت مخطئًا بعد نجاح
الأغنية، وكان سبب إصرارها أن تلك القصيدة كتبتها أنا في العام 2003
بعد سقوط بغداد، ونشرت في ديوان نحات الريح (2005)، وبها نبوءات
لما يجري الآن، ولا يفوتني اليوم وقد ذكرتها إلا الإشارة إلى أنني أعتز
بأميمة وأشكر الشعر الذي قربني منها.
س. ع.: الصوفية
كانت مرافقة لك من خلال البيئة التي نشأت بها... الى أي حدٍّ تعمقت
بها؟
ه. ن.:
كان ذلك باكرًا أول عمري، وكنت من المحظوظين بتلك المرحلة التي أثرت
بقية حياتي، كنت مأخوذًا بشعر الحلاج وجلال الدين الرومي وابن الفارض،
وما أزال، وقادتني التجربة للانغماس في الصوفية فوردت كما وردوا،
واختليت كما اخلتوا، خلوة صغرى، وخلوة كبرى، وجربت ماذا يعني الجوع
والتعب والطلب والانقطاع إلى المحبوب، ولمست ما معنى إدراك جوهر
الأشياء بصفاء يقين الصوفيين. إنها تجربة ثرية جدًا أثرت كل ما تلاها.
أتمنى أن أستطيع اليوم وسط تلك المدنية المرعبة والحركة القاتلة أن
أختلي في غرفة بجبل بعيد كما فعلت قديمًا. أحتاج هذا جدًا اليوم.
س. ع.: تقول: "من
الخطير أن أصنف كشاعر"... لماذا؟
ه. ن.:
لأنني أخاف أن أصبح قدوة ونموذجًا لقارئ لا أعرفه، ثم يرتطم بشخصي الذي
يخالف ما أكتبه وأدعو له من كمال ورفعة وأدب ووو، كما حدث معي مع أكثر
من
90
بالمائة من أبطالي الشعراء الذين ما إن التقيت بهم
حتى كفرت بالشعر والقصائد! وهذا سبب مضاف يجعلني أصرُّ على أن يشبهني
نصي، بضعفي وقوتي، بعجزي وقدرتي.
س. ع.: تقول يجب
أن نكون قد مررنا على قوالب الشعر كاملة من أجل أن نكتب قصيدة، هل هذا
ينفي وجود شاعر بالفطرة؟
ه. ن.:
أقصد هنا أن الكتابة تحتاج إلى تمرين متصل لنكتب قصيدة حقيقية، هنالك
شعراء فطريون دون أدنى شك، إنما بالكتابة فوق الكتابة فوق الكتابة يجعل
من أولئك الشعراء الموهوبين شعراءً عظامًا.
س. ع.: "الشاعر
الذي يمتلك عشر دواوين هو ليس بشاعر"، لماذا؟
ه. ن.:
هذا يحدث اليوم كثيرًا، إن عملي بالصحافة الثقافية يوفر لي قراءة
الكثير من الإصدارات الشعرية، فمع غياب النقد اليوم، وإتاحة مواقع
التواصل الاجتماعية للكتابة والنشر ماعت هيئة الشعر. على سبيل المثال
للاستدلال، منذ سنوات عدة سألتني امرأة رأيي بأنها تريد أن تنشر ديوان
إذ أنها "شعرتْ" أن كتابتها تنال الاستحسان، وكانت من أولئك الذين
يكتبون: "قولي لعينيكي إن الغائبون سوف يرجعن"، فقلت لها بخجل: "تروِّي
وأعيدي التفكير بلغتك، تمكني منها ومن الصور الشعرية، ثم فكري من
جديد". لكنها نشرت ديوانها مع صورة لها على الغلاف، وحظي الديوان
بقراءات نقدية موازية وبمدح واسع من نقاد "الكوندوم" العفو... واليوم
لديها 6 دواوين، لله درها! نعم هذا يحصل.
س. ع.: هل صحيح
أنك لا تؤمن بالتاريخ؟
ه. ن.:
صحيح... لا أؤمن بالتاريخ، فهو علم ملفَّق يكتبه ملفقون، كيف للإنسان
أن يكون حياديًا بربك، ها نحن اليوم وسط أحداث صاخبة، الطرف الفائز
اليوم سيشق طرقًا بأسماء أبطاله، ولربما - أقول ولربما - يكون هؤلاء
الأبطال لصوصًا، وتجدين نفسك بعد خمسين عامًا تسكنين في شارع لصٍّ بن
جوهرة، تقاطع أفَّاق بن كاذب!
س. ع.: صنَّف بعض
النقاد ديوان نحات الريح على أنه من أهم علامات التحول الشعري
ما رأيك في هذا التصنيف؟
ه. ن.:
لا تصدقيهم، هو فقط كان تجربة للمقاربة بين العمود الشعري والنثر، نجح
في أماكن وأخفق في أماكن ككل المجموعات الشعرية. لا أفضل أفعال
"التفضيل" في الشعر، ومن حسن الحظ أن الشعر لا يعلق به شيئًا ولا يمكن
تلفيقه أو الضحك على لحيته، وعليه، فإن نقد الشعر، جيده من سيئه، هو
الصيرورة والبقاء.
س. ع.: ماذا بعد
كرامات الأشقياء؟
ه. ن.:
اليوم هنالك ديوان سور الله العظيم في المطبعة، عن التغريبة
السورية، عن سوريا... سور الله.
أجرى الحوار:
سجا العبدلي
*** *** ***
موقع عُمان