الجسد البشري وتمزقات الحاضر
الفاهم محمد
نعيش
في الآونة الأخيرة تصاعدًا مهولاً لخطابات كثيرة حول الجسد، هناك
أحاديث عن الرشاقة والفتنة، برامج وكتب متعددة عن وصفات للحمية
والتخفيف من الوزن الزائد، عيادات من أجل العمليات الجراحية التجميلية
وشفط الدهون... أن تكون موجودًا اليوم هذا معناه أن تظهر بصورة محددة
وبمظهر معين
Etre
c’est Apparaître
والحقيقة أن هذه الصورة لست أنت المسئول عنها، أي
لست أنت الذي كوَّنتها لنفسك بمحض إرادتك ووعيك واختياراتك، وإنما هي
صورة تصنعها وسائل الإعلام ودور الأزياء والموضة، والمجلات العالمية
المختصة في ذلك، التي تتابع عن كثب أحدث ما يقال ويكتشف حول هذا
الموضوع: من أدوية للتخسيس، ومراهم للتجميل وتبييض البشرة، وبرامج
للحركات الرياضية والآلات اللازمة لذلك... في اختصار، نحن نعيش تضخم
خطاب الجسد على حساب الروح الذي كان سائدًا فيما مضى، نعيش فرض وإملاء
لصورة نمطية معينة للجسد على الجميع. كان البحث عن كمال الروح أما
اليوم فقد أصبح الكمال هو امتلاك جسد بمقاييس معينة، لذلك فالإنسان
يصارع من أجل تحقيق هذه الصورة النمطية المملاة عليه من فوق بما يتطلبه
هذا الصراع من جهد ووقت ومال ومتابعة.
لقد تحوَّل الهوس بالجسد إلى عبادة لها كتبها المقدسة وحوارييها الذين
يطلون عبر جهاز التلفاز كرسل يحملون الخلاص للناس، بل ولها أيضًا دور
العبادة الخاصة بها والمتمثلة في الأندية الرياضية وعيادات الجراحات
التجميلية.
كانت شخصية الإنسان تقاس بمدى امتلاكه لإرادته وحريته، وبمدى تحمله
للمسؤولية ووعيه الثقافي وسلوكه الأخلاقي، أما اليوم فالشخصية تقاس
بمدى امتلاك المرء لجسد رشيق وعضلات مشدودة وبشرة ناعمة إلى غير ذلك من
الأوصاف التي يتفنن المختصون في تدقيقها وكأنها أصبحت علمًا قائمًا
بذاته.
لقد أصبحت الهوية الشخصية مستمدة بالكامل وبطريقة ميكانيكية من هوية
الجسد، هذه الليبرالية الفجة - التي لا ترقى حتى إلى مستوى الليبرالية
الكلاسيكية مادامت هذه الأخيرة تؤكد على أهمية الفرد كذات حرة وعلى
أهمية العمل والمبادرة - تختزل الإنسان إلى أدنى مستويات وجوده
الاجتماعي، وتدفع به إلى فردانية قاتلة يعيش فيها "عبئ الجسد" إذا لم
يكن قادرًا على استخدامه في التواصلات الاجتماعية الشكلية.
أنا جسد إذن أنا موجود هذا هو كوجيطو الإنسان المعاصر، ولنتذكر سنوات
الستينات والسبعينات حينما كان المغني الشهير جاك برييل يطربنا بأغانيه
لم يكن أحد ينتبه إلى وسامته أو إلى مظهره الخارجي، بل الكل كان يستمتع
بأغانيه وبالمواضيع التي تطرحها موسيقاه. أما اليوم فالعكس هو الصحيح
لا تهم لا الكلمة ولا اللحن ولا حتى الصوت الجميل، بل ما يهم هو الصورة
الخارجية للجسم، أي أنه إذا كان مظهر الفنان "لائقًا" فانه يعرف النجاح
ويصبح مقبولاً وتباع ألبوماته بالآلاف، أما إذا كان له مظهر متواضع
فإنه غالبًا ما يفشل في منتصف الطريق.
ولا يحدث الأمر فقط في المجال الفني، بل إن هذا المنطلق حاضر في
المرافق العمومية، في مجال السياسة، في الخدمات العامة، وفي اختصار في
الفضاء العمومي برمَّته، حتى ليبدو أن هناك قانونًا واحدًا وهو إذا كان
لك جسد فتان فمرحبًا بك، أما إذا كان لك مظهر متواضع فانتظر في آخر
الصف.
لقد أصبح الجسد يلعب دورًا رئيسيًا في التأهيل الاجتماعي للفرد وذلك
حتى في حالة ضعف كفاءته أو انعدامها، وبالتالي أضحى الجسد عنصرًا
أساسيًا في الفرز الاجتماعي.
يدفعنا الخطاب الحسي الإشهاري حول الجسد إلى أن نعيش سواء بطريقة علنية
أو بطريقة صامتة شعورًا بالدونية، ذلك أن المرء هو دائمًا في حالة بحث
مستمر ودائم عن شيء ما ينقصه، شيء ما تعرضه الموضة والإشهار حول تفصيل
معين في الجسد، لون العيون، نوع صباغة الشعر، شفاه منتفخة وصدر
مكتنز... إن جسد الموضة الذي يفرض نفسه باعتباره المطلق يجعل الجسد
الواقعي حبيس إحباطاته وانكساراته الذاتية، متهم دائمًا بالنقص
والدونية، مجبر على الدخول في لحاق محموم بما هو مستجد.
هكذا تجري المرأة العشرات من العمليات الجراحية التجميلية حول الخصر
والشفاه والأنف... وما إلى ذلك من تضاريس الجسد، إضافة إلى العديد من
المستحضرات والأدوية التي ينبغي أن تتناولها حتى تساعد جسدها على قبول
هذه العمليات التجميلية، ولكن هل حقًا يمكن للجسد أن يتحمل كل هذا
النحت اللانهائي، أليست هناك حدودًا ينبغي أن نتوقف عندها ونقبل
بالأوضاع التي آلت إليها أجسادنا، أي أن نقبل بشيخوختنا، بترهلنا،
بتجاعيدنا ومرضنا وتناهينا البشري؟
من هنا نفهم كيف أن الهوس بالنحافة قد أدى لدى العديد من الشابات إلى
أمراض حقيقية سواء على المستوى النفسي أو على المستوى الجسدي، منها
مثلاً الأمراض المتعلقة بسوء التغذية والمضاعفات النفسية المرافقة لها.
هكذا يقع الجسد تحت ضغط هائل من طرف الخطاب التجاري - الإشهاري، لكنه
يتلقى كذلك قصفًا مماثلاً من طرف البيولوجية التي تريد أن تستنسخه
وتلعب بجيناته وتتحكم في توجيهه، فبعد أن كانت الروح هي محط العناية
وهي التي ينبغي تقويمها وصقل مواهبها، تحول الانتباه هكذا فجأة إلى
الانهمام بالجسد.
إن "هم الجسد" هذا يأخذ عدة صيغ بدءًا من الخريطة الجينية إلى تخليق
الأعضاء انطلاقًا من الجينومات، إلى التحكم الجيني عن طريق خلط جينات
بشرية مع جينات حيوانية إلى غير ذلك من الابتكارات التي جعلت باحثًا
كبيرًا كألبير جاكار يطلق على ذلك "صناعة البشر"[1]
والذي ينهي كتابه بتفاؤل مبالغ فيه قائلاً: "نعم، ابتداع الإنسان هو
هدفنا، وبالنسبة لأولئك الذين تؤرقهم التساؤلات التي ترمي إلى ما هو
أبعد من ذلك، أليست هذه هي أفضل طريقة في السعي نحو الله؟".
فكيف يا ترى يمكن أن تكون التجارب الفرنكنشتاينية طريقًا نحو القداسة
في حين نحن نسعى إلى تقديس الجسد نفسه على حساب الروح؟ هل يسعى الإنسان
إلى تأسيس خلاصه بواسطة الجسد بعد أن أعيته الروح وعجز عن سبر أغوارها؟
بديهي إذن أن العلم ومن خلال الطب والبيولوجية لم يعد يتدخل من أجل
تقويم عمل الطبيعة كما كان الأمر في الماضي، ولكنه يتدخل من أجل إحداث
طبيعة جديدة لم تكن معطاة من قبل. فلنتصور مثلاً أننا أدمجنا القدرات
الكامنة في عين الصقر داخل عين الإنسان، والصقر كما هو معروف يمتلك
قدرات هائلة في توجيه نظره عن بعد، بل وفي تقريب الصورة إليه كما تفعل
الكاميرات الجد متطورة اليوم، أو لنتصور أننا تمكنا من أن تصبح حاسة
الشم لدى الإنسان كما هي لدى النمر أو الأسد، أكيد أننا في جميع هذه
الحالات وغيرها لن نكون أمام الإنسان كما عرفناه عبر التاريخ، ولكن
أمام مخلوق جديد قد يكون شبيهًا بالمخلوقات العجائبية في ألف ليلة
وليلة، أو بمخلوق فرانكنشتاين الضائع الهوية والذي لا هو بإنسان ولا
بحيوان.
إن الرأسمالية والبيولوجية من خلال القصف المكثف الذي تجريانه على
الجسد البشري قد حولته إلى هيكل بدون روح، أو إلى نفس كئيبة غير قادرة
على معرفة ما يجري حولها.
غير أن العناية بالجسد لم تكن أبدًا مشكلة في الحضارة الشرقية، فسواء
لدى الهنود أو الصينيين أو اليابانيين تطورت تقنيات كثيرة من أجل
التحكم في القدرات الجسدية، ولكن ذلك لم يكن أبدًا على حساب العناية
بالروح بل في ارتباط معها.
إن ثقافة احتقار الجسد والحط من قيمته لم تتبلور إلا انطلاقًا من
الثقافة اليونانية وبالخصوص ضمن التقليد الأفلاطوني حيث ترسخت الثنائية
الضدية التي ستهيمن لاحقًا على مجمل الحضارة الغربية وهي ثنائية الروح
في مقابل الجسد. إن مهمة الفلسفة عند أفلاطون مثلاً هي أن تعلمنا كيف
نتغلب على الجسد وهو ما عرف عنده بالتطهير
Le
catharsisme
أي التخلص من المحسوس والارتقاء بالنفس في سماء
عالم المثل، يقول:
إن ما لا يجهله محبوا المعرفة هو أن الفلسفة، وقد ملكت النفوس التي هذا
هو حالها تعطيهم أسبابها بلطف، وتقوم بفك قيودهم بأن تبين لهم بأي
الأوهام تفيض الدراسة التي تتم بواسطة الأعين وبأي الأوهام كذلك تفيض
تلك التي وسيلتها الآذان وحواسنا الأخرى، وتقنعهم أيضًا بأن يتخلصوا
منها ويمتنعوا عن استخدامها إلا إذا اضطرتهم الحاجة، وأخيرًا توصيهم
بأن تتجمع النفس وتتركز في ذاتها، وألا تثق بشيء آخر غير ذاتها، ومهما
يكن موضوع في نفسه وبنفسه، وحين تمارسه، لذاتها وبذاتها وعلى الضد إذا
ما كانت هناك وسائل أخرى للنظر في هذا الموضوع أيًّا كان، والذي يتغير
بتغير أحواله فلا تعترف له بأي حقيقة، لأن ما هو من هذا القبيل هو
محسوس ومنظور، أما ما تراه بوسائلها الخاصة فهو معقول، وفي الوقت نفسه
غير منظور[2].
كانت الفلسفة الكلاسيكية تدعونا إذن إلى التحرر من الجسد ونبذ الحواس
وهو موقف سيكون له رد فعل شديد الحساسية خصوصًا من طرف نيتشه الذي رأى
أن موقفًا كهذا لا يفعل شيئًا سوى أنه ينكر الحياة.
إننا نتعامل مع الجسد البشري اليوم كما تتعامل الفيزياء مع الأجساد
التي تشتغل عليها، أي بطريقة شيئية، والحال أن الجسد البشري له خصوصية
تجعله غير قابل إلى يكون معطى للدراسة والتعامل كما لو أنه محض جسد
فقط. هناك اختلاف كبير بين الجسد الفيزيائي والجسد البشري. هذا الأخير
يطرح مسألة الهوية الذاتية والأنا والوعي والعواطف وهي كلها أمور
تدفعنا إلى التعامل معه بمنهجية خاصة وليس كما لو أنه مجرد قطعة من
العالم. جسدنا البشري غير موجود كما توجد باقي الأشياء المعطاة في
الطبيعة. كان كانط قد ميز بين الموجودات العاقلة والموجودات غير
العاقلة معتبرًا أن الأولى لها قيمة مطلقة هي الكرامة التي تفرض علينا
التعامل معه كغاية في ذاته باحترام، بينما الثانية هي مجرد موضوعات في
متناول استعمالنا كوسائل نظرًا لأنها فاقدة لهذه القيمة الذاتية[3].
لكننا اليوم أصبحنا نميل إلى تجاوز مثل هذا التمييز فليس الإنسان هو
فقط من يمتلك قيمة وغاية في ذاته بل أيضًا باقي أشياء الطبيعة كما تقول
الفلسفة البيئية، الأشجار والحيوان وكل عناصر الطبيعة ينبغي النظر
إليها كغاية وليس كوسيلة. إن التعامل مع الطبيعة كمجرد وسائل هو ما قاد
إلى كل هذه الكوارث البيئية والإيكولوجية التي نعيشها اليوم.
هكذا، إذا كانت الفلسفة الخضراء تؤكد اليوم على وجوب احترام الجسد
الطبيعي، فهذا بالأحرى يدفعنا أيضًا إلى وجوب احترام الجسد البشري
ومراعاة حرمته وخصوصيته، فهو جسد غير معطى ضمن الامتداد الفيزيائي
الخارجي كما هو الحال في الفكر الديكارتي الذي - كما هو معروف - ينظر
إلى الجسد باعتباره جوهرًا ممتدًا في العالم قابلاً للاستعمال، بل
يمتلك بعدًا داخليًا يملؤه الإدراك والوعي والعاطفة، إنه ليس فقط جسد
بيولوجي بل أيضًا جسد نفسي واجتماعي وعلائقي أخلاقي...
وكيفما كان الحال فإن هذا يعني أنه لا يمكن التعلق بالجسد في صورته
المعاصرة، والنظر إليه على أنه خلاصنا الوحيد وسبيل سعادتنا كما تدعي
حضارتنا المعاصرة، كما لا يعني كذلك إهمال الجسد والتعلق بهذه النفس
المتمركزة حول ذاتها كما وصفها أفلاطون في السابق، ولكن مجمل الأمر يهم
بالأساس أن لا يضع المرء صورة في ذهنه يريد بلوغها وتحقيقها عن طريق
هذا الاحتفاء المرضي الذي يوصينا به خطاب الموضة، أو البحث عن هذا
الإنسان الأعلى عن طريق التجارب البيولوجية، بل على الإنسان أن يكون
ذاته انطلاقًا من إمكاناته الخاصة، فأن تكون موجودًا معناه أن تكون
قادرًا على إثبات ذاتك بفضل كفاءتك وقدراتك لا بفضل قامتك وجمالك. إن
الذات تعلوا على الجسد وهي التي تفضل كرأسمال في آخر حياة الإنسان أما
الجسد فهو عابر مهما حاولت البيولوجية أو الرأسمالية أن تجعل منه جسدًا
خالدًا.
*** *** ***