أطفال مرحون في
رسوم السورية ريم يسوف
فاروق يوسف
تضحك
ريم يسوف بخفر حين تسألها عن رسومها المكتظة بالأطفال، مبهمي الملامح.
تشبه ضحكتها مزاج أطفالها المحلق. ما يكفي من ذلك المزاج لكي يسود
الهدوء أرجاء قاعة العرض. هل تكفي ضحكة كائن أرضي لاستدعاء كائنات تقيم
وراء حُجب براءتها في عصر يسوده الخبث؟ ثم ما الذي يمكن أن يفعله
الأطفال الذين يذكرون بملائكة رسوم عصر النهضة من أجل تنظيف عيوننا من
العتمة؟
في رسومها هناك مقدار من الحس الكلاسيكي هو ما يعلي من شأن إنشائها
التصويري. هل كانت
الرسامة تحاول إعادة رسم صور تخيلتها؟ تعرف أن ضحكتها تنتقل مثل عدوى
إلى أطفالها الذين صارت ترسمهم ليتشبه خيالها بخيالهم. كان عليها أن
تتذكر أنها في لحظة إلهام كانت قد أطلقتهم من شباك مرسمها الدمشقي. يوم
كانت هناك وهي المقيمة اليوم في عمان.
"أجدهم كما لو أنني أكتشفهم"، قالت لي ذات مرة. يبدو عالمها حلميًا،
كما لو أنها ترسم لتحلم. ما إن تضع يدها على القماش الأبيض حتى تسترسل
في أحلامها. شيء منها يظل عالقًا بين ما تراه وبين ما تحلمه وهي تود لو
أنها استطاعت أن تكتب يوميات الطفل الذي كانته من طريق الرسم. التبس
عليها الأمر فصارت تحلم ما رأته وترى ما حلمته. وهو ما صار
يتأكد من خلال الرسم. تعرف أن صورتها تكبر. خيالها يكبر، وهي تصنع جنة
متخيلة، تسكنها كائنات، إيقاع خطواتها يبلغ عن وجودها الخفي. أعلينا أن
نقيس خطواتنا بالموسيقى ونحن نشعر بالضياع في مواجهة الحرب؟ سنكون
حذرين ونحن نرى. فالرسم لن يكون طقسًا عابرًا. يمكن تقنيته أن تختصر
عاداتنا المنسية. هناك عاطفة هي أكثر مما نطيق.
تنتمي الفنانة السورية إلى جيل سبقته الحرب إلى الواقع على رغم أنه ظهر
قبلها بسنوات. إنه جيل الألفية الثالثة. الجيل الذي وُعد بأن تكون له
سورية أخرى. وإذا ما كان الكثير من أبناء ذلك الجيل قد فضَّل اللجوء
إلى الفنون المعاصرة في التعبير عن مشاعره، فإن ريم يسوف اختارت الطريق
الأصعب، أن تكون وفية لتقاليد الرسم السوري الحديث. ومن يتأمل رسومها
جيدًا، لا بد من أن يخرج بقناعة مفادها أن هذه الرسامة قد استفادت
كثيرًا من تجارب عدد من الرسامين السوريين وفي مقدمهم نذير نبعة.
ترسم ريم لتحكي. طمأنينة حكاياتها لا تخفي هلعًا استثنائيًا صار السرد
فيه مملاً لتشابهه وهو يكرر المشاهد المؤلمة نفسها. لذلك لجأت ريم إلى
الأقل من السرد متوجهة إلى ما يشبه الشعر في التقاط الخلاصات
التصويرية. لا تخفي ضعف حيلتها أمام أهوال الحرب حين تركز على الأطفال،
باعتبارهم الجزء الفالت من المعادلة. تلك المعادلة التي يقف اليوم
أمامها الكبار وهم مَن صنعها حائرين. ترى في الأطفال مادة تذكر بقوة
بديلة، القوة التي تذكر بالخير من جهة صلتها بالمستقبل الذي طوى صفحته
المتحاربون وهم يدافعون عن حاضر صار يلتهم وجودهم. لذلك تبدو رسوم يسوف
متحررة من أي شعور بالإشفاق أو أية محاولة لابتزاز عاطفة المتلقي.
ما من شيء في رسومها يمكنه أن يخبرنا بأن مَن نراهم هم أطفال من سورية
التي تعيش حربًا طاحنة منذ أكثر من ثلاث سنوات. الفضاء الذي تسبح فيه
ملائكة عصر النهضة وهم أطفالها مثلما تخيلتهم يبدو مستلهما من الكتب
المقدسة. فهل أرادت الرسامة أن تصنع من إيحاء الحكاية الدينية غطاء
لرؤيتها التي لا تخلو من شعور عظيم بمرارة العيش؟ لقد اختارت ريم يسوف
أن ترسم عالمها بالأبيض، وهو خيار لا يحدث بالصدفة. إذ نادرًا ما يلجأ
الرسامون إلى الصبغة البيضاء وهي الأكثر صعوبة من بين الأصباغ. أعتقد
أن رهانها على استحضار أحلامها المخترقة الإشارات الدينية قد دفعها إلى
هذا المركب الصعب. وهو مركب سيقودها لاحقًا وبحكم التجربة إلى اكتشاف
طبقات الأبيض بكل ما تنطوي عليه من تنويعات لونية.
ترسم ريم الحرب التي يعيشها بلدها، لكن بطريقة مواربة. طريقة تسمح للفن
بأن يتحرر من قيود الواقع، بكل تفاصيله المقيتة والهمجية. تعيش الحرب
بما يشبه السخرية من المتحاربين. وهي إذ ترسم أطفالاً يولدون من أجل
السلام انما تبعث برسالة واضحة باسم الفن إلى المستقبل. مرح أطفالها
يسيج القسوة بالضحكات البريئة، يمنعها من التمدد ويبدد آمالها. أعتقد أن
فنًا يثق بالسلام مثلما يفعل فن ريم يسوف يمكنه أن يدحر الحرب.
*** *** ***
الحياة