لم أكتب قصيدة
كانت غايتي منها التكسُّب
البلد الذي تحدث فيه ثورة ليس أبدًا من البلاد ذات الحظِّ السعيد
حوار مع الشاعر منذر المصري
سؤال: ابن القارح،
الشخصية الرئيسية في رسالة الغفران للمعري، يحاول أن يكسب ودَّ
الرضوان ويمدحه بقصيدة، لكن الرضوان لا يستجيب لطلبه. يقول له ابن
القارح: ولكن لقد قلت فيك شعرًا، وهنا يسأله الرضوان: ما هو الشعر،
فيجيبه ابن القارح: الشعر كلام موزون تقبله الأنفس على شرائط، إذا زاد
أو نقص بان في الأنفس، وكان الناس به يتقربون من الملوك. تفيد تلك
القصة، التي أوردها المعري، في أنَّ ابن القارح عرف الشعر، وذكر
وظائفه. إذا سألك الرضوان يا منذر مصري ما الشعر فبماذا ستجيبه؟ وما هي
وظيفته بالنسبة إليك؟
منذر المصري:
أولاً... اتَّفقنا، عندما تكلَّمنا بخصوص هذه المقابلة، أن تكون
الأسئلة صعبة، لا أن تكون طويلة وصعبة معًا! فذلك سيؤدي، إذا ما
أوفيتها حقَّها، أن يكون نشرها كاملة في أيَّة صحيفة متعذَّرًا، إلا
إذا نشرت على دفعتين على الأقل.
ولكن لا داعي لهذه الاستطرادات التي ستزيد الأمر
سوءًا، وها أنذا أجيبك بأني لن أكتب قصيدة أحاول بها كسب ودِّ الرضوان،
أو حتى مالك، الذي لا أظنُّ أنَّ علاقتي ستكون معه، أو أيِّ خازن من
أمثالهما يومًا. لم أكتب قصيدة كانت غايتي منها التكسُّب من أيِّ نوع،
أو بتعبيرك، كسب ود من يسعى الآخرون لكسب ودهم، وعندما كتبت قصائدي عن
مصطفى، لم تكن غايتي أبدًا كسب ودِّه، أو المزيد من هداياه، فقد كان
"واجبه أن يعطي/واجبي أن آخذ". حتى إنَّه قال لي: "يكفي فضائح!"، وكذلك
كل قصائدي عن أصدقائي في مجموعتي الرابعة دعوة خاصة للجميع - دعوة
عامة لشخص واحد. ما أظنني كنت أحاوله، بكلِّ اندفاع الشباب
وحماقاته، قد يلخِّصه هذا السطر من إحدى قصائد آمال شاقة:
أنا
أنتم جميعًا لوحدي
ومعًا معي
لن نكون لأحد.
ثانيًا... إذا سألتني أنت ما الشعر، وما هي وظيفته بالنسبة إليَّ، وفي
ظنِّك أن سؤالين كهذين، من الممكن، وربما من المفترض، بالنسبة إلى شخص
مثلي يدَّعي كتابة الشعر منذ ما يقارب الأربعة عقود، أن يجيب عنهما،
ولو بصعوبة محدودة، فإنَّك لن تكون منصفًا على الإطلاق. هذان سؤالان قد
يحتاجان مني كتابًا، إذا عرفت كيف أبتدئ به، فلن أعرف كيف أنهيه. ولكن،
طبعًا، في حوارنا الجاري، لا مانع لديَّ من أن أستخدم ما وضعته أنت
أمامي الآن، أقصد تعريف ابن القارح هذا، فأقول:
1.
"الشعر كلام موزون": نعم، موزون لغويًا وعقليًا وحسيًا وعاطفيًا، وربما
هذا عكس ما يظنُّه الكثيرون، أنَّه كلام يجري حسب أوزان إيقاعية
موسيقية محدَّدة أرى أنه لا علاقة لها باللغة الشعرية، بل هي نظام
مفروض على الشعر.
أمَّا موزون عقليًا وحسيًا عاطفيًا، فأيضًا تجد
الكثيرين ينزهون الشعر من شروط كذه. الشعر جنون، القصيدة إعصار، بركان
حسيٌّ وعاطفي. ولكن ليس أنا!؟.. باكرًا، اكتشفت اختلافي في هذا عن
الآخرين. الشعر وكذلك الرسم يشكِّلان حالة وعي حادٍّ بالنسبة إليَّ،
عندما أكتب أو أرسم أقوم على شحذ كلِّ طاقة حيوية بي عقلية وذهنية،
وحسية وعاطفية أيضًا!؟
2.
"تقبله الأنفس": أيضًا أوافقه، ولو عمومًا. يجب أن نكتب شعرًا تتقبَّله
أنفس الناس ما أمكن، فدون هذا التقبُّل لا يحدث التأثير، التواصل. ولكن
ربما أيضًا للصدمة أثرها في تقبُّل الشعر، أن تكتب شعرًا صادمًا يستطيع
أن يجد طريقه إلى عقول الناس وقلوبهم، بشكل مباشر أو غير مباشر، سريعًا
في ذات اللحظة، أو بطيئًا يحتاج إلى زمن.
3.
"وكان الناس يتقربون به للملوك": نعم، ولكن أيَّ ناس وأيَّ ملوك!؟ في
أيامي، عرفت أناسًا يكتبون قصائد يتقرَّبون بها من ملوك وحكام وطغاة،
لا يهمُّهم أمر هذه القصائد في شيء. وأذكر مرَّة أنَّه جاءني اتصال حين
كنت أخدم كضابط احتياط، فطُلب منِّي أن ألقي قصيدة وطنية بمناسبة حرب
تشرين، فأخبرتهم أنَّ الشعر الذي أكتبه، لا يصلح لمناسبات كهذه، فهو
شعر حديث ليس له قافية ولا وزن، ومواضيعه، مع الأسف، ذاتية لا علاقة
لها بالمواضيع الوطنية... فإذا، بأحد الضباط يسألني: هل تقصد أنَّك
تكتب شعرًا سورياليًا؟ فأجبت:
نعم، شعري شيء من هذا النوع. عندئذ سيطرت الدهشة
على الجميع لهذا الحديث الذي يسمعونه لأول مرة، فبرَّر أحد الضباط
حديثي بقوله: الملازم منذر واحد من أولئك الشعراء الحديثين الذين
يكتبون شعرًا لا يفهمه أحد، ولا حتى هم أنفسهم.
سؤال: الكثير من
نصوصك مفعمة بلغة دينية، كقولك: "بعدك لا ربَّ يعبد في هذا البيت"، كما
في الآية: "فليعبدوا رب هذا البيت"، كما أنك في شعرك تتكئ على النظم
الديني، سواء في الكلام القدسي، أم في الدعاء الديني، أو في المناجاة
كقولك: "لا أخاف من عطش صحاريك، ولا من بعد واحاتك، مادمت أعرف الدرب
إلى الينبوع في قلبك". وهذا كلام يقوله المتعبِّد وهو يناجي ربه. أو
كقولك إذا أخطأت، فأنت صوابي... إلخ. ما الغاية من تطعيم نصك الشعري
بالنفحة الدينية. هل هو ميل نحو الصوفية أم أنه نوع من إعطائه مزيدًا
من الديمومة كما عمد الكثير من الشعراء إلى ذلك بربطهم نصهم الشعري
بالرمز الديني؟
م. م.:
ما سأقوله ليس دفاعًا عن شعري، ولا محاولة لتبرئة نفسي من تهمة، تجارب
شعرية عظيمة كان محورها الدين، أو، لأقل، كان الدين محورًا أساسيًا
فيها. أمَّا بالنسبة إلي، فالقليل جدًا من نصوصي تقوم على تناص ما مع
الخطاب الديني. وما ذكرته - وهناك بالتأكيد المزيد منه - شيء من ضمن
الأشياء الكثيرة في شعري، يمكن الإتيان بمثله وأكثر من أية تجربة
كتابية مهما بلغ نأيها عن الدين ودلالاته. لكني، حياتيًا، بعيد كل
البعد عن أيِّ تنشئة دينية، يخضع المرء بها لهذه التأثيرات، ويحفظ بعض
ما يردَّد أمامه من نصوص دينية، أو يقرؤه بنفسه ويحفظه من كثرة تكراره
له.، فلقد نشأت في أسرة كانت قد أدارت، كأسر كثيرة في مدينتي، ظهرها
بالكامل للماضي، متجهة بكلِّ كيانها المادي والروحي إلى القادم من
الأيام والأفكار والرؤى. ولقد ذكرت أنَّني لم أنتبه إلى وجود نسخة من
القرآن الكريم في بيتنا إلا عند مرض أمي ووفاتها، وكان ذلك بعد أن
أصدرت باكورتي آمال شاقة، وتمت الموافقة على مجموعتي الثانية
بشر وتورايخ وأمكنة من قبل وزارة الثقافة، التي قدَّمتها إلى
"خالدية"، لكن خالدية
توفيت قبل صدورها بأيام، إضافة إلى أنني أمضيت مرحلتي تعليمي
الابتدائية والإعدادية في مدارس خاصة لم تكن تولي مسألة تعليم الديني،
والإسلامي خاصة، أي اهتمام، فقد كانت مدارس مسيحية، كاثوليكية كانت أم
أرثوذوكسية، تلك الأهمية التي يمكن أن تلقاها في المدارس الرسمية، حيث
إن أغلب مدرسي هاتين المدرستين كانوا من غير الاختصاصيين.
وممَّا تندَّرت به كثيرًا أن الشاب الذي كلِّف
إعطائنا دروس الديانة، خلال المرحلة الإعدادية، في الكلية
الأرثوذوكسية، كان يحدِّثنا عن أفلام ممثلة الإغراء الفرنسية بريجيت
باردو، الشهيرة تلك الأيام. في الحقيقة، أستطيع ادعاء أنني شاعر
ناسوتيٌّ صريح، وهذا أمر، ربما، كنت واحدًا من القلة التي أعطته حقَّه
من التفكير، ليس فقط لأني شغلت نفسي كثيرًا بالناس، ولا يمكن أن تخلو
أيُّ مجموعة من مجموعاتي من قصائد عن الآخرين ومهداة إلى الآخرين، حتى
إنَّ كلَّ قصائد مجموعتي الشعرية الثالثة دعوة خاصة للجميع. دعوة
عامة لشخص واحد كذلك، إلا أنَّ اصطفافًا كهذا لا بدَّ أن يواجَه
بنقيضه، أو ربما لا وجود له إذا لم يكن هناك ما يقابله ويعارضه، غير
أنَّني، بطبعي وتربيتي التي ذكرت، لست بكائن ثنائيَّ التكوين، لست
بشاعر ثنائيات، تقليبي للأمور على مختلف وجوهها، الرغبة الكامنة في
داخلي بالقبول، القبول بالعالم بكلِّ متناقضاته، قبول الآخر، قبول
المختلف، أوصلني إلى خلاصات أقرب ما تكون إلى الإيمانيات: "الله في
داخل الناس، الناس في داخلي، الله في داخلي"، "عندما قال الله غير
موجود خاف أن يكون الله قد سمعه".
سؤال: يقول
المتنبي في إحدى قصائده:
فربَّما جَزَتِ الإحسانَ موليــــــــــــــــــــــــــه
خريدةٌ من عذارى الحيِّ مكسالُ
وإن تكنْ محكمات الشكل تمنعني ظهور جريٍ فلي فيهنَّ
تصهالُ
مكسال= كسول، وتصهال = صهيل.
إذا كان الشعر
الكلاسيكي قادرًا على تزويد اللغة بمفردات جديدة، أو على الأقلِّ
تراكيب جديدة لمفردات قديمة، تحت ضغط الوزن والقافية كشرط فني لا يجوز
الخروج عنه، فما الذي يدفع قصيدة النثر التي تكتبها للقيام بذلك،
باعتبار أن أحد أهمِّ أسباب وجود قصيدة النثر هو الخروج على الشروط
الفنية القديمة التي تقيد الشعر، وما هو الشرط الفني لقصيدة منذر مصري
إذ لا شعر لا شروط فنيّة له؟
م. م.:
وكأني لم أقرأ هذين البيتين سابقًا، بالتأكيد ليسا من أبيات المتنبي
التي أحببتها. لا أجد ما يدفع قصيدة النثر إلى شيء كهذا، على الإطلاق.
وبالنسبة إلى تجربتي، لم يكن اختراع التراكيب الجديدة وتزويد اللغة
العربية بمفردات جديدة همًا فنيًا من أيِّ نوع، بل إنني لست من أولئك
الذين يستسيغونه، ولكني، أيضًا، في حال وجوده بشكل طبيعي؛ أي أن تدفع
حاجة ما إليه، وبطريقة خالية من الافتعال، فلا بأس. أمَّا قولك: "إن
أحد أهم أسباب وجود قصيدة النثر هو الخروج على الشروط الفنية القديمة
التي تقيد الشعر"، فاسمح لي باستخدام أحد الشروط الفنية في شعري، وأنا
أقرؤه، ألا وهو: "علينا أن نحملق بالكلمات"، ما يؤدي مبدئيًا إلى أن
أخالفك وأقول: "إن أحد أهم شروط قصيدة النثر هو خروجها على الشروط
الفنية القديمة التي تقيد الشعر"، أرجوك انتبه إلى الفرق، الذي قد يبدو
لك شكليًا، لكنه، بالمعنى، يحمل اختلافًا جوهريًا. ذلك لأنَّه، أساسًا،
لا وجود لقصيدة النثر إلا بهذا الخروج. أمَّا الأسباب التي دفعت إلى
وجود، وربما طغيان، قصيدة النثر، وجعلها الخيار الأعم والأمثل للأكثرية
الساحقة من المواهب الجديدة الواردة إلى حقل الشعر، وكذلك لمن يرغب في
البقاء فعالاً فيه، فهي أكثر وأعمق من هذا المنطق شبه الصوري، شبه
الشكلاني، في رأيي.
وهذا ينطبق - أقصد ذلك الشبه الصوري، الشبه الشكلاني - على ما ختمت به
سؤالك السابق، وكأنه إحدى البديهيات: "إذ لا شعر لا شروط فنية له"، لأن
تحرُّر قصيدة النثر من شروط قصيدة العمود والتفعيلة، بالتأكيد، لا يعني
تحرُّرها من كلِّ الشروط على الأرض، وإن كان هذا ما كان يخيل لرياض
صالح الحسين، ولأمثاله من مغامري قصيدة النثر، ممَّن رغبوا في أن تكون
قصيدة حرَّة من كلِّ شرط أو قيد؛ إذ لا بد في النهاية من معيار، من
آليَّة ليس فقط للنقد والحكم، بل، أيضًا، للتذوق والتأثر والتواصل، ولا
بدَّ في أن ينتهي كلُّ شيء ويأخذ شكلاً ما، فما لا شكل له لا وجود له،
ولأنه صحيح، أيضًا، أنَّ اللاأسلوب بدوره سيغدو أسلوبًا. أما أن يكون
هناك قائمة محددة من الخطوات، والإرشادات، أو وصفة شعرية جاهزة لكتابة
قصيدة، فهذا لا يقود إلا إلى كتابة شعر مدرسي ساذج.
من كلِّ هذا يكون جوابي على سؤالك: "ماهو الشرط الفني لقصيدة منذر مصري"، أنَّه متغير،
ومتبدل، بل ينزع كثيرًا إلى أن يتحرَّر من كلِّ شرط فني، حتى الذي وضعه
لنفسه. في الشعر، كما في الرسم، أحكِّم شعوري الغامض بالأشياء، وذوقي،
ومزاجي، وقدرتي في التمييز بين الجيد والسيِّئ، بين ما يستحق أن يُرسم
ويشاهد، ما يستحق أن يُكتب ويُقرأ، وبين ما لا يستحق. وأظنها مناسبة
جيدة لأنقل لك قولاً لطالما سمعته من الشاعر سعدي يوسف، وليس من المهم
أنني أصدقه وأعمل به أم لا: "الموهبة لا تخطئ".
سؤال: بعد البيت
العمودي والقرآن؛ التقنيتين المختلفتين في الكتابة، جاء النثر كتقنية
ثالثة، وهو فنٌّ قديم ورد في العديد من كتب النثريين الكبار كالجرجاني
والجاحظ وبعض الأحاديث النبوية التي وردت في الصحيحين. إلا أن شعرك لا
معالم واضحة له، أو بمعنى آخر لا تقنية واضحة تتبدى فيه. ما الذي
يجعلني كقارئ لشعرك أفرِّق بينه وبين أيِّ نص آخر كنص استحضار محكمة
مثلاً، أو كورقة يكتبها دلال لبيع البيوت ليستدلَّ أحد ما على البيت
المقصود، أو مقال، لاسيما أنَّ قصائدك تضجُّ بما ذكرت، ومنها، مثلاً،
اللغة العقارية في قولك: "كي تصلي إلى قلبي لا حاجة إلى صعود السلالم
أو هبوطها بلا عتبة مباشرة يقع على الشارع"؟
م. م.:
اسمع يا أخي، وإن كنت لا أوافقك على وضع الأمر بهذا السياق، إلا أنني
أريد أن أقول لك، إنه لا شعر جديدًا دون لغة جديدة، ولا شعر مختلفًا
إلا بلغة مختلفة. بالتأكيد ليست لغة شعري شاعرية في حد ذاتها؛ أي
استخدام الكلمات الشاعرية، التي يظنُّ بعض السذَّج أنه بمجرَّد حشوها
في النص يصير شعرًا، فتمتلئ أشعارهم بكلمات مثل: (القلب)، (المطر)،
(الحلم)، (العصافير)، (البحر).... (الروح). تصوَّر أنني مؤخرًا قرأت
مجموعة شعرية، أقسم أنه لا توجد قصيدة فيها إلا ووردت فيها، بطريقة أو
بأخرى، كلمة (روح)، ليس مرَّة واحدة بل مرات! ولكن مع ذلك، لا بد لهذه
الكلمات أن ترد في أيِّ شعر، وشعري ليس استثناء إلى هذا الحد، كما أني
مرة ختمت قصيدتي عن وليم بتلز ييتس: "رجل ضلَّ الطريق مرارًا/ فوصل إلى
قلبي". أمَّا ما وصفته بلغة عقارية، (السلالم، عتبة، الشارع) فهذه،
وسواها، مفردات لغة الحياة. اللغة التي أحببت أن أكتب بها، وليس لغة
القواميس والمعاجم والكتب الصفراء، شعري... لا أدري إن كنت تذكر تقديمي
لقسم (بولونيزات) في مختارتي الباكرة مزهرية على هيئة قبضة يد:
إنه
يعتبر صرير الأبواب موسيقى، وضجة الشارع في الصباح والظهيرة والمساء
سوناتا من ثلاث حركات. فما بالك بما يعتبره شعرًا.
سؤال: يعكس شعرك
بيئة ارستقراطية منفصلة عن المجتمع، مثل: "بيت مضاء لا يسكنه أحد،
الشاي ليس بطيئًا، ضجر لا ينجح الأصدقاء في دفعه بعد أن نجحوا في ذلك
ردحًا من الزمن. راتب يُبدَّد في ثلاثة أيام"... وغيرها، وهذا يتناقض
مع الإيحاء العام، الذي تحاول أن تسبغه على شعرك، سواء في حواراتك أم
في تقديمك لكتاب ما، ثم إنَّ هناك فصامية ما في شعرك، ولاسيما في
علاقتك بالناس الذين تذكرهم إمَّا كأصدقاء تقدِّسهم كمصطفى، وإما كأناس
تزدريهم، وتستخدم في ذمِّهم أقدم وظيفة من وظائف الشعر، كقصيدتك عن
محمد دريوس، الذي قمت بتمجيده يومًا، وسعدي يوسف، أو بجملة أوردتها
تذكر فيها أنَّ الناس قذارة عندما قلت: "الشارع نظيف من الناس". كيف
تفسِّر تلك المواربة، وتلك الفصامية الشعرية؟
م. م.:
سؤال طائش حقًا. أيَّة بيئة ارستقراطية!؟ من أين لي ذلك؟ ومن أين لي أن
أدَّعيه؟ ولأيَّة غاية؟ عشت في بيت أناس متوسطي الحال. أبي موظف، وأمي
معلمة، يومًا، لم نتمتع أنا وإخوتي بأيِّ نوع من أنواع الرفاهية، لكننا
لم نكن في حالة فقر أو عوز، هذا صحيح. بيت مضاء لا يسكنه أحد، هو
الشعر!؟ كيف يكون هذا أرستقراطيًا، هل قلت: قصرًا يسكنه أمراء أو
سادة!!؟ وهل الشاي مشروب الأرستقراطيين!؟ هل ذكرت الشمبانيا. وإذا قلت
إنَّ الأصدقاء ما عادوا قتلة ضجر، هل يعني هذا أنني ارستقراطي ضجران.
وهل الأرستقراطيون، دون سواهم من خلق الله، يحتكرون الضجر!!؟ في العدد
الأول من مجلة "الشعر" المصرية، كتب محمود خير الله عن مزهرية على
هيئة قبضة يد، وقال إنَّها تجربة تعود إلى شاعر أرستقراطي يحيا في
لندن؛ عاصمة الاستعمار القديم. وكنت حينها لم أزر لندن في حياتي. أمَّا
المزهرية التي أذكرها، فهي مزهرية رخيصة من الجصِّ، تباع على الأرصفة،
صادفتها مرات في بيوت أناس بسيطين.
أمَّا موقفي من الناس، فهنا كان من المحتَّم عليك أن تأتي على ذكر
قصيدتي التي تحمل ذات العنوان الناس، والتي تظهر، على الرغم من
إيماني بهم، إشكاليَّتهم؛ أي أنني أؤمن بالناس كناس، وليس كآلهة، أو
ملائكة، أو شياطين. أؤمن بالناس كما هم كبشر، محكومين بشروط متنوعة،
منها الطبيعي، ومنها الاجتماعي، شروط قاسية عمومًا، حريصًا على ألاَّ
أسبغ عليهم أيَّ صفات غير إنسانية: "هكذا أنا. تسألني شطَّافة الدرج:
كيف الأولاد أبو شكيب؟ أجيبها: بيبوسوا إيديكي أختي أم محمد".
ثمَّ هذا الذي اجتزأته من قصيدة باكرة جدًا في مجموعتي الكره أعمى
الحب يرى... فقد جاء على لسان عاشق يتخيَّل أنَّه سيلتقي حبيبته،
ويتمنى أن يكون الشارع خاليًا من الناس الذين سيشكِّلون، في حال
وجودهم، إعاقة بالنسبة إليه، والقصيدة كلُّها مكتوبة بأسلوب سورياليٍّ
ساخر، نتيجة تأثيرات شوقي أبي شقرا في شعري في تلك الآونة.
ولا أدري، بعد هذا، إن كنت قد فسَّرت فصاميَّتي أم نفيتها؛ الأمر الذي
لا أدعيه مطلقًا؛ لأنني أظنني فصاميًا كغيري من أفراد الجنس البشري،
الفصامي والعصابي وغيرها من الأمراض الخاصة به، التي تميِّزه عن
الملائكة والشياطين والحيوانات، وبقية مخلوقات الله.
سؤال: يقول أحد
النقاد: تعاني قصيدتك من خلل بنيويٍّ في إنشائها اللغوي الذي يظهرها
وكأنَّها كلام عادي لا شعر فيه، رغم أنك في بشر وتواريخ وأمكنة
كنت أكثر وضوحًا في رؤيتك الشعرية. ماذا تقول في ذلك؟
م. م.:
أقول إنَّي لا أفهم ما يقوله هذا الناقد!؟ أولاً، ما معنى خلل بنيوي؟
وفي ماذا؟ في إنشائها اللغوي!؟ كيف؟ هل يقصد أنَّ هناك ركاكة ما، هل
تراكيبي اللغوية لا تساعد على الإدلاء بالمعنى!؟ حقيقة لا أفهم. لكن
السؤال يمضي قدمًا ليفسر هذا الخلل، فيقول إنَّه يظهرها ككلام عادي لا
شعر فيه، ما يؤدي إلى سؤال: وهل الكلام العادي، الذي لا شعر فيه، ينتج
عن خلل بنيوي!!؟ الكلام العادي قد يؤدي إلى أن تكون قصيدتي ليست شعرًا،
إنشاء، وليس لخلل لغوي. ثمَّ سؤال آخر يوجبه سؤال كهذا، وهو كيف تعاني
قصيدتي خللاً لغويًا وتبقى كلامًا عاديًا!؟ ما هذا تمام صديقي؟ كيف،
بالنسبة إلى شاعر كان يعمل بنصيحة فاليري، حتى قبل أن يعرفها: "أوصيك
بالدقة لا بالوضوح"، أن يحكِّم الإجابة عن سؤال ملقى على عواهنه كهذا؟
ولكن... ولكن، اسمع، اسمع منِّي، ربما ما لم تسمعه من قبل، الشعر، في
جوهره، عدوُّ اللغة. في القصيدة، هناك حرب بين الشعر واللغة، بين
الإحساس والتعبير، وبين اللغة، ما يجعل شرط القصيدة الجديدة أن تقوم
على خللٍ لغوي ما، بنيويٍّ نعم، وليس ظاهريًا فقط.
أمَّا الخلل الذي أعاني منه الآن، فهو في انتقالك ممَّا قاله أحد
النقاد، إلى قولك إنَّني كنت في بشر وتواريخ وأمكنة أكثر وضوحًا
في رؤيتي الشعرية، ذلك أني لا أرى رابطًا واضحًا بين الفكرتين. ولكن لا
بأس، استمع الآن إلى فرقة السول الأمريكية (فور توبس) يغنُّون أغنية
البيتلز: (المجنون على التل)، لذا مزاجي رائق كفاية لأجيب حتى عن سؤال
لا يحتاج جوابًا كهذا، وأقول: نعم كانت رؤيتي الشعرية أشدَّ وضوحًا في
البداية. نعم في البداية كان كلُّ شيء أشدَّ وضوحًا، ماذا أقول، وكيف
أقول، ولمن أقول، ولكن بعد أن قطعت كلَّ هذا الشوط، كان لا بدَّ
لتجربتي أن تتعقد وتتشعب وتتشتت، وما إلى ذلك. كتبت بأدواتي الأولى،
الأصيلة، أستطيع القول، طوال عقدي السبعينات والثمانينات، حتى شعرت
أنَّني، كما فعل رينوار بالانطباعية، لم أبقَ في ضرعها قطرة. وهكذا بعد
الصدى الذي أخطأ، صار الضياع، لا الصواب، هو من يقودني، صرت
أسترشد بخرائط العميان، متبعًا آثار خطى ظلال، موضحًا هذا في الشاي
ليس بطيئًا بقصيدة كتبتها بعد حوار ليليٍّ مع عباس بيضون: "تبعًا
لإحساس أعمى بالاتجاه". قصائد في الشاي مثل: "ريلكه أنا.. منذر مصري
شخصٌ آخر"، و"أجري خلفَ كلِّ شيءٍ يجري"، و"ثعلب داخل مشمشة" ما كنت
لأكتبها لولا هذا التغيير.
سؤال: لماذا توقف
الشعر عن تزويد الأدب بلغة جديدة؟ لماذا تخلى عن تجديد اللغة مذ تخلى
عن شروطه الفنية وصار كلامًا حرًا لا حدود تفصله عن باقي الأجناس
الأدبية، وأنت تدرك أن تطوير اللغة يقع على عاتق الشعر باعتباره منجم
اللغة؟ ثم إنَّ القطيعة مع الشروط الفنية القديمة يفرض بالضرورة شروطًا
فنية جديدة، فالفن، بشكل عام، لعب ضمن شرط معروف، أو ابتكار شرط جديد
لا ينطبق عليه الإيجاز والوضوح والإشراق، لأنها تنطبق، أيضًا، على
المقال، واستدعاء المحكمة... إلخ. ما الشروط الفنية الجديدة التي
فرضتها إزاحة الشروط الفنية القديمة؟
م. م.:
قلت لك، الشعر واللغة عدوَّان، والشاعر لا يستطيع أن يحارب في صف
الاثنين معًا، وهو كونه شاعرًا، شاعرًا وليس لغويًا، لا بدَّ له أن
ينحاز ويخدم سيدًا واحدًا هو الشعر، لكن هذا لا يعني أنَّه بريء من
كلِّ الخيانات، ذلك لأنه كما هو صحيحٌ "إنني أرى في الخيانة حياة"،
فصحيح أيضًا: "إنني أرى في الخيانة شعرًا"، ثم إنَّني حقيقة لا أدرك
ولا أصدِّق أن تطوير اللغة يقع على عاتق الشعر! قرأت شيئًا عن ذلك أكثر
من مرة، وسخرت منه. تتطوَّر اللغة بتطوِّر المجتمع، بالتطوُّر الحضاري
لمتكلِّميها. أشعر وكأنني كررت هذا عشر مرات في حوارنا هذا، غير أنك
أيضًا تكرِّر سؤالك عن الشروط الفنية القديمة التي أزاحها الشعر، كونه،
بدوره، تعبيرًا عن تغيُّر وتطور أحوال المشتغلين فيه، مشترطًا وجوب
وجود شروط فنية جديدة، وهذا ما سبق أن تطرَّقنا إليه في جوابي عن
السؤال الثاني أو الثالث، ولا أظنُّ الأمر يستوجب المزيد.
سؤال: كيف تقيِّم
وضع الشعر في سورية، خلال الأزمة التي تعصف بالبلاد؟ وأين أنت شاعرًا
له موقف محيِّر ممَّا يحدث؟ وإذ أقول محيِّر فلأنَّه لم تصدر عنك أيُّ
إدانة بحقِّ الدعوة إلى سفك دم الشاعر السوري أدونيس، مثلاً، وتبني
مقولة الشارع أكثر من الانفراد بمقولة الشعر؟
م. م.:
كيف يمكن لي، من خلال ما وصفته بأزمة تعصف بالبلاد، أن ألتقط طرف خيط
الشعر في سورية!؟ أرى أنَّه - وهذا ما حلَّ بي - منذ سنتين وثمانية
أشهر قد توقَّف، مثله مثل كلِّ شيء، له علاقة بالحياة وشؤونها، كلُّ
الأدب والفن في سورية، وكأنَّ أحدًا قد ضربه بعظمة فخذ بقرة على رأسه،
أو قل كأن رصاصة أصابته في قلبه. سورية صارت بلدًا منكوبًا، بلد القصف
والتفجيرات والموت والتهجير، لا يوفي الحالة السورية حقها اليوم إلا
تعبير "المأساة السورية".
قلت في المقابلة، التي أجرتها "جماعة شعراء الثلاثاء" معي، ونشرت في
صحيفة الوطن السورية، أنَّني، منذ بداية الأحداث، الأزمة، الثورة، أو
سمِّها ما شئت، في سورية، لم أستطع أن أبقى كما أنا، وفي الوقت نفسه لم
أستطع أن أكون الإنسان الذي رغبت في أن أكونه، وأحسب أنَّ هذا يصح وصفه
بموقف محيِّر إلى حدٍّ بعيد، لكنِّي، مثلي مثل علي الجندي، ومحمد
الماغوط، وممدوح عدوان، ورياض صالح الحسين، وووو.. كلِّ من أحب وأقدر
من الشعراء، الذين كان يحيون ويكتبون لأجل الثورة التي يبست أقدامهم
وهم في انتظارها. فماذا تريد موقفي أن يكون.
ولكن كما الحروب، هي الثورات، خراب ودمار. لا. ليس من البلاد ذات الحظ
السعيد البلدُ الذي تحدث فيه ثورة، أو، لأقل بشكل أدق، تصل به الأمور
إلى أن تحدث فيه ثورة. وأجد أنَّه إذا كان هناك من يلام، ويحمل
المسؤولية السياسية والأخلاقية، فهو من أوصلوا البلد، وأوصلوا الناس،
إلى هذه الحالة، ودفعوا بهم إليها. بالنسبة إلي، تعلم، كنت واحدًا من
أولئك الذين وقعوا على بيان الـ 99 مثقفًا عام 2000، وطالبوا
بالإصلاحات الجذرية والجوهرية، على كافة الأصعدة، وأوَّلها الصعيد
السياسي، لأنَّه - وهذا ما أثبتته التجربة السورية - أبو الإصلاحات
جميعها، واعتبروا أنه يتوقف على هذا سلامة ومستقبل سورية، كمجتمع
وكدولة، وكذلك كنت أحد الموقعين، الذين تجاوز عددهم الألوف، على ما
سمِّي "العهد السوري"، على أن لا يرفع السوري سلاحًا في وجه أخيه
السوري مهما كانت الظرف.
أمَّا أنَّه أنا... منذر مصري الذي تعرفه، ويعرفه من يعرفه من الناس،
لم تصدر عنِّي أيَّة إدانة بحقِّ الدعوة إلى سفك دم الشاعر أدونيس؟ أنا
من أدنت وأدين سفك دم كلِّ سوريٍّ وكلِّ إنسان في العالم، لا أدين
الدعوة إلى سفك دم أدونيس!؟ أظنُّك تعلم الصداقة التي تربطني به،
والتقدير والاحترام والحب أيضًا. يومًا لم أنجرف بتوجيه الاتهامات
والإساءات إليه، كإنسان وكشاعر أيضًا، وقد كان هذا موضوع نقاش تكرَّر
أكثر من مرة بيني وبينه، وأمام أصدقاء معروفين، وأظنُّهم، عندما
سيقرؤون هذا، سيعلمون عن أيِّ شيء أتحدَّث، وها أنذا أعيد خلاصته هنا،
وأذكره من باب التقدير والحب الذي أكنُّه له، نعم كان يستطيع أدونيس أن
يقدِّم أكثر لسورية وللشعب السوري، ليس فقط كونه شاعرًا سوريًا بهذه
القيمة الأدبية والثقافية الكبيرة، هو الذي، للأسف، كثيرًا ما عرَّف عن
نفسه بأنَّه شاعر لبناني، كما حصل في آخر مهرجان شعري حضرناه معًا، في
سيت في فرنسا 2010. وهذا ما حزنت له كثيرًا، واعتبرته تنصُّلاً ليس من
حقِّه، وليس لائقًا به! بل كشخصية ثقافية عالمية لها مكانتها وحصانتها،
وبالتالي لها دورها الوطني والإنساني.
في النهاية، إذا خيَّرتني، في هذه اللحظة، بين مقولة الشارع (الشعب)،
ومقولة الشعر، مهما تكن هذه المقولة، فلن يكون خياري بعيدًا عن خيار
بايرون وشيلي وبودلير ورامبو ولوركا وإيلوار وبوشكين ومايكوفسكي وبريخت
وبروتون... وآلاف الشعراء الحقيقيين في العالم. "الشعر لا يقبل
اليأس... إنَّه رسالة أمل وثورة" يقول برتون.
حاوره:
تمام علي بركات
*** *** ***
بلدنا