زهرة البلغار
رياض كاظم
الريح
هائجة هذا المساء، الستائر تهتز بعنف، العاصفة تحمل ذعر المدن ورائحة
المخلوقات ثم تدسها عنوة، خليط روائح قديمة نسيتها - القرية، حقل الذرة
الواسع، المطر -. متى سقط آخر مرة؟! الوافدون الجدد يأتون مع المطر، لم
يأت غرباء أو عابرين وما عاد أحد يتذكر متى سقط المطر آخر مرة. لم يقف
ببابي غريب يسألني المبيت لليلة واحدة حتى تمر العاصفة، ما زلت أنتظر
تلك اللحظة عسى مجيء القادم الغريب يزيل عن روحي كل ما علق بها. مواسم
الجفاف تمتد بذاكرتي لأعوام طويلة، تلك الأعوام التي أردت اعتزالها
وحملت ذاكرتي بعيدًا عنها، إلى مدن أخرى، منازل تحتال على إخفائها،
غرفًا محاطة بروائح جديدة وذكريات جديدة، لكني أشمها الآن باكتمالها
القديم، لم تهرم معي، ذكريات نائمة تنتظر مطرًا أو عاصفة كهذه.
كانت الحرب قد انتهت عندما قررت العودة لمنزلنا القديم، منزل العائلة
الذي شهد ولادتي مع شقيقي التوأم عبد الله الثاني. كنت في البداية
مدفوعًا بعاطفة غريبة، شعور بأني الوريث الوحيد لتركة ضخمة عليَّ أن
أعني بها، لكني بمجرد أن وصلت وشاهدت ذلك البناء الكئيب والمنعزل أحسست
بأن كل تلك الأحلام التي نسجتها حوله لا تعدو أن تكون سوى نتاج خيال
مولع بالأمكنة وبقايا ذكريات، فقررت أن أبيعه وأعود من حيث أتيت لولا
أن لفت انتباهي بضع شتلات زهور بيضاء وأربعة طيور قماري تتجول في
الفناء الخلفي. لم يخطر ببالي للحظة إنها الطيور ذاتها التي جاءت بها
تلك الفتاة النحيلة التي كانت تظهر بأحلامي كبائعة خرائط وتسمرت عند
النافذة وقد بللها المطر. ذلك الحلم الجميل الذي اجتهدت بصنعه مع عبد
الله الثاني، فتجسد ذات ليلة على شكل طفلة أو صبية تحمل في رأسها كل
الخطوط التي تصل المدن ببعضها. زمن الطفولة بطئ جدًا لا يشبه أزماننا
العادية، وما عدت أتذكر كم من الوقت بقينا نتطلع إليها من خلف زجاج
النافذة حتى قررنا أن نفتح لها الباب، أعتقد إنها كانت دقائق معدودة،
لكنها بدت لي وكأن المطر قد أغرقها خلال تلك الفترة. عرضت علينا
بضاعتها، حبات "بلغار" غامقة اللون وأربعة طيور قماري أهدتها لشقيقي
التوأم عندما قررت الرحيل معها مأخوذًا بحلم الحقل الذي تنمو به زهور
البلغار التي تمنح من يقتاتها ذاكرة البرية، ذاكرة البدء المليئة
بأحلام الأسلاف بعيدًا عن زمننا هذا.
الرحلة الطويلة التي انتهت عند سواحل "ظفار" حينما رأيت المسقطين
يحملون أطنان البلغار ويقدمونه علفًا لدوابهم، أزهارًا بلا رائحة تنمو
مع الأشتات على سطح البحر.
قال مسقطي حينما رآها تشمم الزهور: "إنها تنمو كالحشائش هنا... لبن
الدواب أصبحت رائحته مختلفة". فعدت تاركًا إياها مع أحلامها عن الزهرة
الحقيقية، ذلك الحلم الجميل الذي ضيعته إلى الأبد، وأجد نفسي الآن بعد
مرور كل تلك السنوات ما زلت محتفظًا بتوافه ذاكرتي التي أوصلتني إلى
منزلنا القديم حيث حقل الذرة الواسع والفناء الخلفي الذي تتجول به
أربعة قماري قرب شتلات زهور بيض. الرائحة القوية جعلتني أقطف واحدة من
تلك الزهور وأشمها، عطراً قوياً وغريباً لم أشممه من قبل، وتخيلت للحظة
أن أحدًا ما لقنني اسمها. همس صدر من النافذة: "إنها زهرة البلغار".
فرفعت رأسي ناحية الصوت، ولمحت ثلاثة شيوخ يتطلعون إلي من النافذة
وبأيديهم آلات موسيقى، ألقوا إليَّ باسم الزهرة ثم اختفوا داخل المنزل،
ففتحت الباب الخلفي ودخلت، وأثناء بحثي عن مفاتيح النور سمعت صوت
موسيقى بدائية تصدر من إحدى الغرف في الممر المظلم، وحينما فتحت بابها
التصقوا ببعضهم مذعورين وانحشروا في الزاوية قرب الأعواد والدفوف وآلات
النقر، فلم أستطع أن أسألهم شيئًا بسبب الذعر الذي سببته لهم.
بعض التفاصيل تغيب عن الذاكرة، لكن هناك نوع من الألفة مع الأشياء
المنسية. كان هذا ما شعرت به حالما رأيتهم قرب النافذة فاعتبرتهم من
ضمن ما أهملته الذاكرة لهشاشة أجسادهم.
كان الوقت مساءً وقد هدأت الضجة التي يصنعها الموسيقيون الثلاثة، ولم
يعد بإمكاني العودة ثانية إلى المدينة ففضلت أن أقضي ليلتي في المنزل
حتى الصباح واكتفيت بإشعال مصباح زيتي لأني فشلت في إيجاد مصدر النور.
كان ضوء المصباح خافتًا يصنع ظلالاً وهمية لموجودات الغرفة، يضخمها
عشرات المرات، ومن بين تلك الظلال برز ظل عملاق لجسد رجل، في البداية
لم أتبين ملامحه لأنه كان يقف بجانب الغرفة المظلم، فتراجعت إلى الخلف
وأمسكت بظهر الكرسي، لكنه عندما أصبح في منطقة الضوء عرفت من هو، إنه
شقيقي التوأم عبد الله الثاني. تقدم ناحيتي واحتضنني وقال:
-
لقد عرفتك... أنت عبد الله الأول.
-
قلت: كنت أظنك غادرت كعادتك.
-
قال: لم أغادر المنزل، عشت به طيلة الفترة الماضية مع أصدقائي الثلاثة.
كانت أصابعه تعبث بالتميمة التي تصور أشخاصًا بدائيين، ثم أكمل:
-
هل رأيتهم؟
-
نعم لكني لم أستطع أن أسألهم.
-
حسنًا فعلت... إن أجسادهم هشة لا تتحمل ضغط الأسئلة، الأسئلة تجعلهم
يتلاشون.
ثم اندفع ناحية الباب وخرج. كنت أخشى أن أسأله خوف أن يتلاشى هو الآخر،
فاحتبست ذلك السؤال: "كيف عدت ثانية؟".
كان عبد الله الثاني شقيقي التوأم الذي يشبهني كظلي بلا رائحة، لذلك لم
أكن انتبه لغيابه. الرائحة تجعل الأجساد صلبة وتتنقل معها. عبد الله
الثاني ولد بدون رائحة، نزل بعدي بلحظات وكاد يتلاشى في جو الغرفة لولا
أن فضحه صراخه فامسكوه. كنت أخشى عليه من الريح والعاصفة خوف أن تحمله
معها لأني اعتقدت إنه ربما يكون من بقاياها، فحصنته بذاكرتي وعندما
أريد رؤية وجهه أضع المرآة أمام وجهي فأراه، لكنه مع مرور الوقت كاد
يتحول إلى صورة بديلة أتطلع بها كلما شعرت بالحنين للمنزل، حتى بعد أن
رحلت ظننت بأنه سيغادر حتمًا أو يبقى معلقًا في فضاء حقل الذرة الواسع
علَّه يحصل على بعض من رائحته فتمسكه الأرض، ولولا هذا اللقاء غير
المرتقب ونحن ندنو من كهولتنا سوية لبقيت على اعتقادي القديم. كان ذلك
موعد القماري الأربعة مع زهرة البلغار، موعد الموسيقيين الثلاثة مع عبد
الله الثاني، لم يكن موعدي مع شقيقي التوأم الذي يشبهني كظلي والمنزل
الذي يحمل ذكرياتي.
*
كانت الحرب قد انتهت، وكنت الوحيد الباقي من العائلة، نذر الموت ما
زالت تملأ المنزل الكبير الذي ورثته عنهم... رائحة أبي وهو يذرع الفناء
الخلفي ينصت لأخبار الحرب، صور أشقائي الراحلين، مخلفاتهم، بقايا
ذكرياتهم التي عشت عليها طيلة الفترة الماضية مع أصدقائي الثلاثة، قبل
أن يصل عبد الله الأول شقيقي التوأم الذي كنت أظن أنه مات في الحرب أو
في المنفى الذي اختاره، لكن عودته المفاجئة أربكتهم وأدخلت الحزن
لقلوبهم، لم تنفع معهم توسلاتي بالبقاء، لقد رحلوا، أخبروني بلا جدوى
انتظارهم طالما إنها لم تعد معه، بائعة الخرائط الجميلة، حفيدتهم أو
ابنتهم أو هي الحلم ذاته الذي صنعناه سوية أنا وعبد الله الأول وسلبناه
منهم في ليلة عاصفة. لقد مر على ذلك زمن طويل. الأحلام تنتظر فرصتها
لتتحقق. كانت الريح هائجة وكنا وحيدين في الغرفة ننظر من النافذة،
فشاهدنا فتاة قادمة من حقل الذرة الواسع ترافقها أربعة طيور بيضاء،
عيونًا لوزية وجسدًا ناحلاً كأن الريح هي التي تحمله. فصرخ عبد الله
الأول:
-
إنها بائعة الخرائط الجميلة! جذبها الضوء ناحية نافذتنا وطلبت منا أن
نأويها إلى أن تمر العاصفة...
لم تكن تحمل حقيبة خرائط كما كنا نتصور لكن عينيها كانتا تعلمان كل
شيء، ففتحنا لها الباب. نفضت مياه المطر عن ثوبها وتركت نعليها في
الخارج ودخلت مع طيورها الأربعة. ألقت نظرة على ما يحيط بها وتهالكت
على السرير. كانت متعبة وكأنها قطعت رحلة طويلة على قدميها، فجلسنا عند
رأسها ننصت لأحلامها عن "دفيئة" تنشأ بها زهور البلغار، الزهرات التي
تمنح من يقتاتها هناءة الذاكرة البدائية بكل فيضها وأسرارها، ودعتنا
سوية للرحيل معها. لست أدري أي شيطان همس في أذن عبد الله الأول فقرر
الرحيل معها، ربما صوتها الساحر الذي يقود قطعان الأحلام إلى موطنها،
ربما صورة الدفيئة التي رسمتها الفتاة بمخيلته، فحزم أمتعته بصمت ونزع
تميمته ووضعها في عنقي، بينما منحتني الفتاة بذرات غامقة اللون والطيور
الأربعة مقابل أن لا أشي بهما. فرضيت بتلك الصفقة وأشعت بأن عبد الله
الأول قد حملته العاصفة.
بعد رحيله بسنين طويلة جاء إلى القرية ثلاثة موسيقيين جوالين طاعنين
بالسن، لم يكونوا كسائر الموسيقيين الذين يمدون أيديهم بالسؤال، دخلوا
من جهة حقل الذرة الواسع ونصبوا خيمتهم هناك وأخذوا بالغناء، أصواتًا
حزينة تبكي فتاة ضائعة مع أربعة قماري بيضاء، نحيلة ينسدل شعرها حتى
قدميها وتجيد صناعة الأحلام. بقوا لثلاثة أيام يعيدون الأغنية ذاتها
ويتناوبون عليها، فتحلق جميع من في القرية حولهم ينصتون لحكاية ألفتاه
ويمنون أنفسهم بلقائها ذات ليلة مع قماريها الأربعة، لكن ليس هناك أحد
يعرف سر الحكاية سواي. الموسيقيون لم يقولوا كل شيء في أغنيتهم، أخفوا
عن قصد ذكر البلغار، عطايا الزهرة التي رأيت بذراتها تنمو بجيبي
فحملتها إلى الفناء الخلفي وزرعتها هناك، وعندما أخذت تكبر صنعت منها
القماري الأربعة أعشاشًا لها، فامتلأ المنزل برائحة البلغار، ذلك العطر
المسكر الذي جعلني أتذوق واحدة من أوراقها وأتبعها بأخرى حتى خشيت أن
ألتهمها جميعًا. الطعم الذي أدمنته وأنا أعلم بأني ألتهم ذاكرتها
ورائحتها التي أستدل بها الموسيقيون الثلاثة على المنزل، توقفوا عند
نافذتي وقد غطاهم التراب وأنهكهم الغناء وأخبروني أن رائحة البلغار
تملأ المنزل وجسدي، أخرج أحدهم صورة فتاة نحيلة وقال:
-
نحن نعلم إنها مرت من هنا، تلك قماريها وزهورها، حتى أنت تبدو وكأنك
بعض من بقاياها، أدمنت حلمها فالتهمت عريشة الدفيئة، لكل لعبة قوانينها
ليتك تعرف هذا، لأننا نخشى أن يأتي يوم وتتحول فيه إلى كائن لن يكفيه
حتى حقل الذرة الواسع فتهيم على وجهك في البراري تبحث عن حقل أوسع،
منقادًا خلف رغبتك التي تحاول إيجاد أسماء لها، لا نفع للمسميات
حينذاك، ستتلبسك روح البلغار، نبتة الشيطان التي استلبت منا فتاتنا
الصغيرة، ليتك تعرف هذا أيها الأخ الأصغر وتتركنا ننتظرها في هذا
المنزل عسى أن تعود، ومقابل وجودنا سنعلمك سر الأوتار التي تشفي من
المرض وتحول الأحلام إلى حقائق.
فرضيت بوجودهم لأني
شعرت بأنهم مثلي بعض من بقايا أحلام بائعة الخرائط الجميلة.
لا نفع من بقائي
وحيدًا بعد أن رحل الجميع ثانية، سأغادر هذه الليلة عندما يحل الظلام
عسى أن أجد أحدًا ما ينتظر عند النافذة.
*** *** ***