ســـــــتــــــــار
فيصل زواوي
القطعة أُدِّيت.
مجهول
يستيقظ
بوليتيكو[1]،
يحرك رأسه ببطء ثم يرفعه، يندهش! وهو يجد نفسه جالسًا أمام طاولة بها
أربع كؤوس من القهوة، وثلاث رؤوس أخرى ومنفضة سجائر... ينهض بسرعة دون
أن يلمس شيئًا وهو يتساءل: "أين أنا؟ ماذا أفعل هنا؟!"... يذهب حتى
حافة الخشبة ليرى ماذا هناك يمينًا ثم شمالاً! لكن لا يرى شيئًا
بالمرَّة عبر الظلام. ينادي بهدوء: "هل من أحد هناك؟" ينادي بقوة: "هل
من أحد هناك؟!" يصرخ: "أنتم هناك!". يعود إلى الطاولة مهرولاً حتى يكاد
يلامس المصباح المعلَّق! يربت على كتف أحدهم وهو يقول: "هاي أنت!
استيقظ، استيقظ!" لكن لا يجيب! يعاود نداءه لثلاثتهم بقوَّة: "أيها
السَّادة النِّيام! استيقظوا، استيقظوا!" لكن لا أحد يجيب. يغرس وجهه
بين يديه منقبضًا من فرط القلق والاضطراب وهو يستدير، فجأة يلاحظ من
بين أصابعه ستارًا أسود! (يفكر بصمت) ثم يتساءل: "ماذا يوجد وراء
الستار؟!". وحين يتقدَّم منه بخطوة يصرخ أحدهم: "إلى أين أنت ذاهب؟ إلى
أين؟!...".
يستدير بوليتيكو نحو الطاولة، حيث همَّ بوييتيكو[2]
بالنهوض متسائلاً:
-
قف عندك! من تكون؟ من أتى بي إلى هنا؟ ما هذا المكان الغريب؟!
-
أنا!
أنا مثلك تمامًا! لم أفهم شيئًا البتة! لقد نهضت منذ برهة من على هذه
الطاولة ووجدتكم نائمين جميعًا. يجيب بوليتيكو...
-
(يتنهَّد بوييتيكو بصعوبة ثم يتراجع نحو الطاولة): لكن ما هذه الحكاية
اللعينة!؟
-
إنني أحاول التذكُّر منذ لحظات لكن من دون جدوى! (يجيب بوليتيكو وهو
يتقدَّم نحو الطاولة).
-
هاي أنتم! استيقظوا، استيقظوا! (ولا أحد يجيب)، هل هم موتى؟! (يتساءل
بوييتيكو).
-
لقد حاولت إيقاظك منذ لحظات، ولم تجب! أهلا بك في الحياة إذن! (يجيب
بوليتيكو).
-
ما هذا المصباح! (وهو يتدلى بعد أن لمسه بوييتيكو) يبدو وسيلة من وسائل
التعذيب البصري! يكاد يفقدني صوابي! (يتراجع قليلاً).
يرفع بوليتيكو إحدى كؤوس القهوة، ويتذوَّقها... إنها ساخنة! (ودون شعور
يدخل يده في جيبه ويخرج علبة سجائر "المسّ"، ويشعل واحدة):
-
(أفففف)... لكن، من تُراه يكون قد أقحمنا في عقر هذا المسرح الميت
هكذا؟ ألا تشعر ببرد الموت يسكن كل المكان؟! (يجلس في مكانه).
-
(ينظر
بوييتيكو حوله بارتعاش):... أجل، يبدو المكان رهيبًا وكأنه اكتنف كل
أنواع التراجيديا البشرية التي لا يستطيع العقل تحملها! إنَّه في حِداد
ولا شك!
-
حِداد! عن أيِّ حِداد تتحدَّث؟ لأجل من؟! (يتعجَّب بوليتيكو...).
-
(يجلس بوييتيكو في مكانه مقابلاً بوليتيكو): من؟ من هم في الخارج الآن!
لقد دفنوه وانصرفوا... وأنت أيضًا ألا ترى؟!
-
ماذا بي؟ (يلوِّح بوليتيكو بيديه).
-
كل لباسك أسود! (وينظر بوييتيكو حوله من جديد ثم لنفسه مندهشًا!)
ولكنني بلباس أسود أيضًا وهؤلاء الموتى! ما هذه المصادفة العجيبة...
إننا في حداد ولا ندري حتى!
-
ربما لأننا نحاول أن نتذكر لماذا لا ندري فقط! (وهو يطفئ السيجارة...).
-
كل ما أتذكَّره أنني كدت أنهي كتابة قصيدة، وقد غلبني النعاس ونمت...
(ودون شعور يضع يده بجيبه وهو يتساءل: ما هذا؟!).
بوليتيكو ينظر إليه باندهاش...
-
علبة سجائر! "المسّ"! (ويقطع دهشته بأن يشعل واحدة)... أففف... ماذا
هناك؟!
-
(بوليتيكو لا يزال ينظر مندهشًا!): لكنني تذكَّرت أن هذه العلبة لا
تخصُّني أيضًا! وما هذا الاسم الغريب: "المسّ"!
-
(بوييتيكو
يدخِّن): ونوع التبغ أيضًا غريب، ولكنه جيِّد! نكهته فريدة...
-
(بوليتيكو يمدُّ يده نحو بوييتيكو): آه كدت أنسى، حقيقة إنني متشرِّف
بوجودك هنا يا حضرة الشاعر.
-
(بوييتيكو يمدُّ يده و يصافح بوليتيكو): لي الشرف أيضًا، لكنني شاعر
بالفعل مثلك ومثل أيِّ إنسان آخر! أمَّا الغاوون الذين يدعونني باسم
"بوييتيكو"؛ على أنني أمتهن نظم الشعر لأحيي الآخرين وهم يدرون أنني
لست كذلك! فهذا افتراء منهم وليس لي ذنب في التباس هذا اللقب! فأنا لا
أزيِّن ولا أزخرف المعاني بألوان البراءة! أنا أكتب عن الكلمات المدانة
بالسواد فقط وهي تدلي بشهادتها بدون قسم، ولأجل من تقول الحقيقة
البيضاء والحقيقة صدر بحقها إعدام! لذلك فتفاهاتي الشعرية لا تهمُّ
الجمهور لأني أخاطب القلوب عبر العقول. وهذا أيضًا ليس ذنبي! فالشعر
عندي بمعنى عام روح مشرَّدة عميقًا في "جوف التراب". تأمَّل ماليخولية[3]
الحياة! وحتى الأشعار التي نكَّلت نفسي بها بالأمس ومتُّ من أجلها قد
أصبحت لا تعني لي شيئًا اليوم...
-
كيف ذلك؟! كيف هو اليوم؟!
-
اليوم! اليوم! اليوم يقول لي اليوم إياك أيها اليوم أن تنام داخل
ميتاتك اليومية! إنه يستيقظ ليجد البارحة كالغد المعتاد من حيواته
الوهمية...
اليوم أو أيُّ يوم أو كلُّ الأيَّام متقاطعة على
جثَّته المرمية! فاليوم أصبح لا يسمع دقَّات عقارب ساعاته البلهاء
الشاكية، من رنَّات هواتفه الذكية... اليوم إنسانية كريهة تغتصب
أفراحه، وتنكِّل بأحزانه! وتكرِّس
لأحقاده كلَّ أمجاده النزيهة! اليوم ينتعل أشدَّ أعماله، ويلبس كفن
صمته وزواله... يرفع أثقالاً أخرى على عاتق أهواله، ويتنفَّس آخر سكرات
أقواله! اليوم يُنسج اليوم الرهيب، كما الجريمة تُمارس! لكن كلَّ
الأيادي تبدو بريئة! اليوم يُصلب ويُجلد لأجل الآخرة؛ فهو المتَّهم
بتكاثر الخطايا وعذاب النَّاعمين بيوم أو بعض يوم... ويل! ويل
للمستخفِّين به! ربما تنطق كلُّ الهوام عنه: "يومًا ما"... تصرخ معًا
لتتوقَّف كلُّ أفواه بشريَّته عن استهلاك أصواته البغيضة... اليوم -
خريف الأيام المُسنَّة - هاهو يتناثر هنا وهناك، فلربما لن يكون هناك
يوم لربيع الضمير! وأبقى على حافَّة هذه الطاولة فوق هذا المسرح الأسير
صريع نومه!
-
لكن جوابك كلَّه أصبح فجأة منسوجًا بمشاهد شاعرية يقشعرُّ لها البدن
وجفًا لمدى جماليتها المريعة، لكن! لكن كيف يمكن للشعر أن لا يعني
لنفسه شيئًا اليوم!
-
إنه ببساطة ملَّ من التغنِّي بلا شيء! مثل جسدك المتآكل بعد الموت!
فماذا يعني لك بقايا صلصاله والقبر الحالك قد أصبح جسدك الجديد...
-
إنك تتكلم وكأنك ميت منذ البداية!
-
وماذا نصنع نحن برأيك منذ البداية تحت هذه البقعة الملعونة! في حين
الأسلحة تعبث من حولنا في الخفاء بالأيادي الملطَّخة بالسواد! إنها
تطلق رصاصًا أسودَ على أية بقعة ضوء! أية بقعة ضوء...
-
(بوليتيكو،
يمسك برأسه وينزلق بيديه على وجهه...): أنا أيضًا أتذكَّر أنني كنت
أشتغل لأيَّام وأشهر وأعوام طوال - من دون هوادة! - على بحث سياسي،
وكنت قد قاربت على النهاية حين غلبني النعاس وأصبحت بغتة هنا!
-
(بوييتيكو،
يبتسم والسيجارة تذبل حتى تكاد تنطفئ بين شفتيه!): لكنني أجلس مع حضرة
السياسي حتى الآن هنا، ولا أدري!
-
(بوليتيكو،
متوترًا...): لا! لا، لست سياسيًا على الإطلاق! إنني فقط باحث في علم
السياسة على الهامش... والناس يدعونني "بوليتيكو"! ظنًا منهم أنني أحلم
إمَّا بأن أصبح رئيسهم أو صائده، في حين يدعون السياسيين مزاحًا
بالعرائس! وهنا فرق رهيب بين هؤلاء وأولئك...
-
(بوييتيكو، محتارًا!): لكن عن أيِّ فرق تتحدَّث؟! وأين هم السياسيون
إذًا؟!
-
إنَّ الفرق ببساطة هو نحن، الشعب! نحن فرائس السياسة السوداء... أصبحنا
مدمنين على ممارسة دور الطريدة بامتياز! السياسة هي السلاح والسلاح هو
السياسة... وأية سياسة!
-
أيَّة سياسة؟!
-
سياسة تهويل أو تهوين السياسة بالطبع! أم السلاح؟! لا أدري بالضبط!...
(يفكِّر بصمت...).
-
لكنك نسيت أن تحدِّثني عن "الصيادين"!
-
(بوليتيكو،
ينزع يديه من على وجهه وهو يضحك ثمَّ يقهقه...!): لكنهم أيضًا نحن؛ لقد
عمَّمنا أو عوممنا السياسة على كل فرد بالتساوي، فقد أصبح الصيد من
الشعب وإلى الشعب... انظر إلى هذا المسرح الأسود كيف أصبح! هذه الطاولة
وهذه الكؤوس السوداء جدًا وسجائر هذا "المسّ" المنعش! ولا تنسَ هذه
الكراسي المريحة التي نجلس عليها الآن وهي غير مستريحة...!
-
إذًا فقد نجحنا في عوممة السواد على السواد الأعظم منا! حتى ظلام هذا
الموت البارد... (يضع رأسه على الطاولة)... أريد فقط العودة من حيث
عدت!
-
(بوليتيكو،
ينظر حوله وكأنه تذكر شيئًا مهمًا، ثم يقف ويسير بضع خطوات على خشبة
المسرح...)، ألا توجد أزرار أضواء في المكان (يتابع بحثه في الظلام)...
(هه!)... أظنني وجدت شيئًا ما هنا... (وراح يجربها كلَّها حتى أنار
قاعة المتفرجين...).
-
(يتفاجئ
ويترك مقعده بخفة ويتجه مع بوليتيكو إلى كراسي المشاهدين): لكن إنهم!
إنهم هنا! موتى؟!
-
بل نائمين جميعًا!
-
(بوييتيكو،
يتفحَّص في جهة أخرى ويصيح!): هاي، هاي، استيقظوا! استيقظوا! (الصّمت
مخيِّم).
-
(بوليتيكو، يتذمَّر!): لا أحد منهم يجيب، لأنه لا أحد يسمع! لا أحد!
(ويصرخ أحد من خلفهم): "أنتما هناك! تبًا، تبًا لكما، إنني أسمعكما!).
يعود بوليتيكو وبوييتيكو إلى منصَّة المسرح حيث يقف قيثاريستو[4]
غاضبًا:
-
ما هذه المهزلة، ماذا أفعل هنا! من أنتما؟! (يحك عينيه وكأنه لا يصدِّق
ما يراه!).
-
(يردُّ بوليتيكو): تريث أيها الأرعن! لا تتسرَّع في الارتياب من وجودك
صدفة معنا هنا هكذا، (ويجحظ عينيه!)؛ لأننا فقط سبقناك في الاستيقاظ من
هذه الطاولة الملعونة دون أن يكون لنا حول في ذلك!
-
(بوييتيكو
يهمس في أذن بوليتيكو!): يا له من عدائي!
-
(يلتفت
قيثاريستو كالبرق!): إنني أسمعك ربما أكثر من نفسك أيها الشاعر
المتحاذق، لا أحد يهتم ببلاغتك الشَّمطاء! واللغة الخرساء لم تعد
تلهمني على أية حال!
-
وما الذي أصبح يلهمك الآن ونحن نجهل تمامًا كيف حصل لنا الشرف حتى
التقينا ومتى!؟ (يردُّ بوليتيكو بنبرة حادَّة ونظرة استخفاف).
-
بحثك الممل عن عرائس وفرائس السياسة!
-
لكن كيف عرفت وقد كنت شبه ميت على الطاولة!
-
كنت أسمعكما جيدًا ولا أقوى على الحراك! ولو استطعت لأوقفتكما عند
حدكما؛ بعدما كنت أعمل أوحدًا على عزف أغنية بحرارة إلى حد فقدت فيها
وعيي! أستيقظ مشلولاً ليتطفَّل عدم تناغم صوتكما للتشويش على سكينة
سمعي!
-
النوتات، النوتات اللعينة! أجل، تقف أمامي بذقن سيء الحلاقة معلِّقًا
على ظهرك قيثارة مشوَّهة بدون أوتار وتظن أنك الأنسب لأنسب أداء عبثي
هنا! (يجلس بوليتيكو متأفِّفًا)... لكن هذا المقطع كان من المفروض أن
تؤديه أنت يا بوييتيكو! لمَ أنت مسمر هكذا؟!
-
نسيت فعلاً دوري مع انسياقي الزائد لأدائكما الارتجالي... لكن لا أظن
أن لدى المخرج اعتراض!... هه! لكن ما به جورناليستو[5]!
لمَ لم يستيقظ؟!
-
جورناليستو! جورناليستو! استيقظ! هل نمت فعلاً؟! (يسأل بوليتيكو).
-
أجل! كنت متعبًا حقًا، لم أنم هذا الأسبوع جيدًا من أثر الصداع الذي
خلفته ضجَّة الأخبار حول إدمان الصبيان والشيوخ على خوض غمار شبكات
الألعاب الانتحارية! (دون أن يحرك رأسه من على الطاولة).
-
هل ستنجو بنفسك من نفسك بفعلتك هذه؟! (يعلِّق بوليتيكو).
-
لقد خرجنا كلية عن ما اقترحه النص المسرحي! بسبب انسياقنا للعاطفية
المفرطة في التعبير عن انطباعاتنا حول مدى صدق تقمُّصنا لأدوراه!
(يعقِّب قيثاريستو).
-
أيَّة عاطفية مفرطة! أظن علينا إعادة أداء القطعة من جديد وسنرى ماذا
سيقترح المخرج في النهاية من الجانب الآخر! (يقترح بوييتيكو).
-
إذًا أطفئ أضواء قاعة المتفرجين!
بقي المصباح وحده يتدلى فوق أربع رؤوس وأربع كؤوس قهوة ومنفضة سجائر
على طاولة مربَّعة، فوق خشبة المسرح الأسود... وفي الأثناء يستيقظ أحد
المخرجين (ويدعى بيستوليرو[6]!)
يصعد على الخشبة ويتقدَّم نحو الطاولة مشهرًا بين إبهام وسبَّابة
سلاحًا ناريًا في جو من الحذر والريبة، وكأنه مستعد في أيَّة لحظة
لإطلاق النار... (طَخْ)! (ينطفئ المصباح)! ويبتلعه الظلام... يهبط
الستار الأسود خلفه في الوقت الذي يُرفع فيه الستار الأسود أمامه.
*** *** ***
من كتاب الميِّت