مُقَدِّمَةٌ
لِقِراءةِ شِعْر طَاغُور
محمد علاء الدين
عبد المولى
1
ثنائية المثال والواقع
ثمَّة فئة من الشعراء – ويبدو أنهم فقط الشعراء المهمُّون أصحاب
التجارب المركبة غير المسطَّحة - لا يمكنُ امتلاك القدرة على قراءة
شعرهم، إلاَّ بالعودة إلى مصادر هذا الشعر. كيف ذلك؟ وهل للشعر مصادر
غير ذات الشَّاعر؟ لابدَّ أن (المرتبة) التي يطمح شاعر ما لحيازتها
تتعدَّد أسبابها. وإذا قرأنا الشعراء الكبار، وتساءلنا لماذا هم كذلك
فسوف نرى أن الذات ليست هي الوحيدة التي تقومُ بمهمَّة خلق مكانة شاعرٍ
ما، إنَّ عناصر كالذاكرة، والتراث، والثقافة، لا يجب إغفال وظيفتها
المهمَّة. لأنها من أهمِّ مصادر الشاعر. قد يقال هنا: إن كل شاعرٍ
تتحدَّد مصادره بهذه العناصر. إن هذا القول مقبولٌ في الحالة التالية:
حين تغدو الفروقُ بين كلٍّ من هذه العناصر – وغيرها – وبين ذات الشاعر،
ضئيلة إلى حدِّ الإلغاء. والكبير من الشعراء وحده من تتحقَّقُ له هذه
الحالة.
و(طاغور) الشاعر الهندي، حالةٌ تقرِّبنا من اليقين بمصداقية الكلام
السابق. فهو من نتاج الشرق. والشرق هذا كما يبدو لن يكفَّ عن أن يكون
هو المزيج من سحرٍ وأسطوريةٍ وصلاة، وتفلسفٍ وحزن. من هنا ندرك لماذا
تطفح قصائد هذا الشرق بنكهةٍ حادَّة تميِّزها عن قصائد العالم جميعه.
خاصةً وأنَّ عددًا من الشعراء الكبار في العالم يعود أحد أسباب كونهم
حاضرين بقوة في مملكة الشعر العالمي، ذلك الصدى العميق في شعرهم للشرق،
كحالةٍ نادرةٍ من حالات الإبداع. نذكر هنا على سبيل المثال: (جوته،
ريلكه، لوركا، آراغون، سان جون بيرس، رامبو...) أمَّا ما يخص طاغور
فلأنه ابن الشرق الحقيقي، وابن بيئة وفضاء شرقي ينطوي على الكثير من
التفرُّد، فليس صعبًا علينا أن نلاحظ، أنَّ إرثًا من الروحانية، وسحر
آفاقه، ومن تأملات الذهنية الآسيوية التي وجدت في الهند تُربةً خصبةً
لها، أنَّ إرثًا كهذا يقبع خلفَ شعره، بل يسكن في الأساس العميق
لمعماره الشعري والفكري.
لقد طرحت التأمُّلاتُ الفلسفيةُ الهنديةُ القديمةُ وسواها، فكرةَ
الإنسان المثال أو النموذج، أو الكامل، وكلها مرادفاتٌ مشروعة هنا، إذ
إنها تشير إلى ضرورة تدرُّج الإنسان من رضوخه للأحاسيس السفلى ورغباته
العابرة، إلى حالةٍ الصفاء المطلق، فكيف كانت تبرزُ هذه الفكرة في شعر
طاغور؟
لقد قاد طاغور، فكرة الإنسان الكامل المنزَّه، إلى منحى متميزٍ متطوِّر
فأغناها جدًا، وإذا جاز لنا وسم إنسان الفلسفة الهندية بالإنسان
المطلق، فإن طاغور قدَّم لنا حَلاًّ لإشكاليةٍ قد تبرزٍ هنا أو هناك،
من كون الإنسان مجموعة رغباتٍ وطاقاتٍ حيوية، وكونهِ مدفوعًا إلى
التجرُّد من كل هذه الرغبات ليحقِّق المطلق. هذا الحلُّ الذي قدَّمه
طاغور، انطلق فيه من أنَّ الإنسان يستطيع أن يحيا بجدارة في عمق الحياة
اليومية، ويستطيع تحقيق حلمه بالارتقاء فوق تفاصيلها والنظر إليها
نظرةً تُوحي بأن هذه التفاصيل تحمل القدرة على التحوُّل إلى (مطلقٍ)
لكنه مطلقٌ يحفظ للنفس حريتها وطموحها بافتراس الأيام والأشياء
الجميلة. وبذلك يتخلص الإنسان من معاناة القلق حين يجذبه المثال من
جهةٍ والواقعُ من جهةٍ ثانيةٍ، كما أنه يعيش بين هذين القطبين في حالةٍ
من الجدل والتجاور. إنَّ طاغور في علاقته مع الأشياء لا يترك المثال
يتحوَّل إلى قيد على حرية جموح الإنسان إلى أقصى أحلامه. لذلك كان يسخر
من (الناسك) المنفصل عن حركة الحياة وجدلها، ظانًا أنه مُلاقٍ مثاله عن
طريق التَّموضع في حالة غيبيةٍ تقتل النفس شيئًا فشيئًا. إن المطلق لن
يكون في الصومعة، بل في الحقول:
حيث
يشقُّ الحارثُ أرضَه الصَّلدةَ
إنَّه هناك، في لظى الشمسِ وانهمار المطر
يكسوه الغبار.
أين ترجو الخلاص؟
ألم يتقيَّدْ ربُّنا مسرورًا بقيود الخلق؟
لقد تقيَّدَ بنا إلى الأبد.
طاغور إذًا لا يقع في التناقض حين يُنزلُ المُطلقَ إلى مستوى الإنسان،
إنما يُقدِّم إغناءً لفكرة العلاقة بين الإنسان والمطلق. حيث تبرز
قيمةُ هذا المطلق بقدر ما يشكِّلُ وجهًا فاعلاً في الإنسان الذي لا
يخضع، بل يحدِّد بذاته علاقاته مع الأشياء، وكأنما طاغور هنا يمثِّل
امتدادًا لفكرة (محيي الدين بن عربي) حول إلغاء الثنائية بين الخالق
والمخلوق ليتَّصلا في لحظةٍ تنهار فيها حدودُ الفَصْل، ويجتمع المطلقُ
بإنسانه والإنسانُ بمطلقه، بعيدًا عن شقاء الثنائية المدمِّرة. ولم لا
يكون امتدادًا لابن عربي وهما يتفقان حول فكرة الإنسان الكامل؟ ثم
أليست جذور ابن عربي ضاربةً حتى تصل إلى أعماق الهند؟
استنادًا لذلك، يمكن أن نزعم أنَّ من أسباب منح الشاعر جائزة نوبل، أن
شعره ينقذ الإنسان من الطرف الأقصى للعلاقة الثنائية بين المثال
والواقع. بين العقلانية والوجدانية... ينقذ الإنسان؟! نعم، لأنَّ
الغرب، الذي صنع نوبل وجائزته، أصيب بخيبة أملٍ من إغراقه بالتَّجريدات
والعقل، وكان لابد أن يخرج عن إطاره باحثًا عن إبداع ينتشل الروح من
خوائه. فكأنَّ الغرب حين منح طاغور جائزته كان يريد أن يثبت للعالم أنه
– أي الغرب- ليس خواءً تمامًا ولا (يبابًا)، بل بإمكانه التعاطف مع
حالةٍ غنية من الشرق والرومانسية. إننا بزعمنا هذا نؤيِّد ما ذهب إليه
صاحبا كتيِّب طاغور – نصري الصايغ ونبيل حبيقة – من ذكرٍ لأسباب
حصول طاغور على الجائزة. ولا بأس أن نورد هنا فقرةً مما ورد في
الكتيِّب على لسان الأديب الهولندي فريدرك فان إيدن عن طاغور والجائزة:
لقد
تغلَّبت الأكاديمية السُّويديةُ إذن بشجاعةٍ على الأفكار الدينية
والقومية المسبقة حين ميَّزت هذه الشخصية العظيمة [يقصد طاغور] الملكية
فعلاً... ميَّزتها بالمال؟ طبعًا، وفي ذلك شيء مضحك... تُعِسون نحن
الغربيين لأننا لا نملك طريقة أخرى لتكريم الناس.
الآن، من المناسب أن نرى كيف عبَّر طاغور بكتابته عن هذه الأفكار...
التي شكَّلَتْ حيزًا واسعًا من تفكيره. حتى ليرى اتحاد الثنائيات كلها
في لحظاتٍ تخلِّص طرفي الثنائية من الألم.
يقول:
وعادت
المرأةُ بأملٍ بهيجٍ ، وجعل (تولسيداس)
يوافيها، كل يوم، ويهبُ لها الخواطر السامية لتفكر
فيها، حتى جاء يوم امتلأ فيه قلبها وأفعم بالحب الإلهي،
وكان الشهر يوشك أن ينتهي، حين جاء جيرانها مستفهمين:
أيتها المرأةُ هل لقيت زوجكِ؟
وأجابت الأيّمُ باسمةً: لقد لقيتهُ.
وألحفوا في سؤالهم: ولكن أين هو؟
فردَّت عليهم: إنه في قلبي يقيم سيدي وحده.
هذا المقطع يحمل أكثر من دلالة. فمن جهةٍ، وقد وصَلَنا أن هذه الأيَّم
تبحث عن زوجها، يكون قلُبها متعلِّقًا به. وعندما يأتي (تولسيداس) وهو
شاعرٌ كان يستغرق في أفكاره قرب نهر (الغانج) فإذا به يبصر امرأة تجلس
قرب قدمي جثمان زوجها، تراه فتطلب منه أن تتبع زوجها إلى السماء. يردُّ
عليها: "فيم العجلة يا بنيتي؟ ألا تخصُّ الأرضُ ذاك الذي سَمَكَ
السماء؟". فتقول إنها لا تهتمُّ بأن تصعد إلى السماء ولكنها تريد
زوجها. فيردُّ عليها اذهبي إلى بيتك وقبل أن ينقضي الشهر سيعود إليك
زوجك، إنها إذن تبحثُ عن موضوعها الذي فقدتْهُ، وفجأةً تشرق الفكرةُ في
رأسها، ويمتلئ قلبُها بالحب الإلهي. يحلُّ موضوع الإلهي بدل موضوع
الرجل الميت. وتعرف هي مغزى الكلام الذي قاله الشاعر لها، قبل أن ينقضي
الشهر سيعود زوجكِ. تدرك أن من يعود ليس زوجها، بل سيحلُّ في قلبها حب
الإله، وحين يسألها الجيران عن زوجها تقول لهم: إنه في قلبي يقيم سيدي
وحده... هم يسألونها عن زوجها الواقعي، وهي تتحدث عن (زوجٍ/رمزٍ) أقام
في داخلها واتحد بها لتزول المسافة بينها وبين زوجها الميت من خلال
تلاشي الزوج/الرمز في داخلها. وبذلك تخلَّصتْ من عذاب الثنائية.
إنَّ طاغور لا ينفكُّ يدعو للروح الشرقي، لأنه خشبة خلاص حقيقي. حتى في
بعض من كتاباته الشعرية، تبرز هذه الدعوة، وهذا دليلٌ واضح على أنَّ
ثنائية الغرب والشرق ماثلةٌ في ذهنه أبدًا، نسمع إليه قائلاً:
إن
الفعل الأكثر دلالةً في الفترة الحالية، هو تلاقي الشرق والغرب. ولكي
يحمل هذا التَّلاقي الجوهري للأجناس ثماره، يجب عليه أن يخبِّئ في قلبه
بعض الأفكار الوجدانية النبيلة والخلاَّقة والعظيمة.
يقول أيضًا:
إن
تحرر الإنسان يتناقص في المدنية الحديثة، التي يخدم لأجلها عدد كبيرٌ
من الناس كآلات، وحيث أصبحت العلاقاتُ الاجتماعيةُ نفعيةً بدرجةٍ
كبيرة. ذلك لأن تحرُّر الكائن الإنساني ليس في الواقع أنه قدرة، بل في
كونه روحًا.
إن انشغال طاغور بتلاشي الهوة بين مدلول العمل والآلة (الغرب) ومدلول
الروح والوجدانية (الشرق) لهو أكبر دليل على إحساسه الكوني بمأساة
الإنسان المعاصر. هذا الإنسان المستسلم لتقييد طاقاته في سبيل العملُ
وتحقيق متطلبات حياة مدنية لا تعطي الروح شيئًا من حقِّه. وهذا يعني
أنه اكتشف زيف الحضارة الصناعية التي تناقص مع نموِّها تحرر الإنسان.
كل ذلك لأن هذا الإنسان ضحيةُ ثنائيةٍ مشروط بها أبدًا، يحقِّقُ وجوده
وعدمه من خلالها.
2
بين الطبيعة والطفولة
يلتصق الشاعر طاغور بالحياة، ويخلق منها كائنات جميلةً، مع كل القبح
المتغلغل في الأشياء. فإن طاغور – لإدراكه مهمة وماهية الشعر– يقدِّم
الجمال الحقيقي في شعره. من هنا نفسِّر هذا الاهتمام العظيم عنده
بعالمي الطبيعة والطفولة. فإضافةً إلى أنهما يشكلان البديل عن المطلق
المثالي الذي يرفضُه، فهما عنصران يمتلكان من طاقات الجمال ما لا يملكه
غيرهما بالنسبة لشاعرٍ مثل طاغور. لقد حقَّقَ الشّاعر بالنسبة للطفولة،
أرقى انسجامٍ بين الفكر والسلوك من جهةٍ، وبين الطفولة والطبيعة من
جهةٍ ثانية. فهو لم ير في الطفولة مصدر إبداع فقط، بل أنشأ لها مدرسةً
نموذجيةً حقًا. وأين أنشأها؟ في الغابة في عمق الطبيعة. خالقًا بذلك
أوثق رباطٍ بين الطفل والحياة. فالطفل لا يجد أحلامه في مظاهر الترف
والإمارة، إن هذه قيودٌ لحركته التي لن يعيشها حقًا بشكلٍ حرٍّ إلاَّ
في أعماق الحياة. وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن طاغور ابن سلالةٍ
أرستقراطية، وجدنا في موقفِهِ من الطفولة موقفًا مناقضًا لحيثيات وضعه
الطبقي الذي لم يمنعه من أن يكون ذا موقفٍ يمكن وصفُهُ بأنه (ثوري)
بجدارة:
إن
الطفل الذي يرتدي ثوب الإمارة، ويضع حول عنقه
الأطواق، يفقد لذَّتَهُ كلَّها في اللعب، فإنَّ ثوبه
يعيق كل خطوةٍ يخطوها.
إنه لينتبذُ مكانًا بعيدًا، ولا يجرؤ أن يريم،
خشية أن يبلي ثوبه وأن يعلو حَلْيَهُ الغبار
أماه أيجدر به أن يكون حبيس هذا التَّرف
بمنأى عن غبار الأرض النافع؟
استطاع طاغور أيضًا في حواره مع الطبيعة أن يكون شاعرًا كبيرًا. حيث لم
يقف منها الموقفَ الرومانسي التقليدي – مع أنه كان معجبًا بـ (وردزورث)
- فكانت الطبيعةُ عنده عنصرًا غير سلبي، إنها تفعل فعلها، وتحقق له
تطورًا على صعيد علاقته بالطفولة. فلا يُسقِطُ مشاعره عليها، ولا يلوذ
بها هربًا، إنها داخلةٌ في كيانه، وهي الَّتي تناديه وتبثُّه همومها.
إنْ هذا إلا إطاحة بالموقف الرومانسي... طاغور هنا مع الطبيعة مثلما
الطفل الذي يؤمن أن الشجر والماء والطير، كل أولئك يتكلم معه ويُوليه
اهتمامًا:
فلأعلم قبل أن أغادر الأرض لماذا نادتني الأرضُ
إلى أحشائها،
لماذا كان صمتُ الَّليل يكلِّمني على النجوم،
لماذا كان ضوء النهار يجعل فكري يزدهر فيه بقبلة.
ونقفُ عند مثالٍ، آخر، يبيِّنُ كيف حاور الشاعر الطبيعة، (الليل) هذا
العالم السحري الذي يشكِّل أهمَّ عنصرٍ من عناصرِ الموقف الرومانسي.
يبدو عند طاغور مختلفًا الاختلاف كله. إذ يكفُّ الليلُ عن أن يتحول إلى
تفجُّعٍ وأنينٍ وسهر، بل يغدو محرِّضًا على المشاركة في الحياة . إنَّ
الشاعر وهو يقبعُ في جوف الليل، ينأى عن التداعي بين أفكار اليأس لأنه
(شاب)، فالزمن لن ينتهي بالشَّيب. وفرحُ الشاعر بالحياة يطلب منهُ
الدخول دومًا في مهرجاناتها بأية وسيلة:
إنَّ
أوَّل نجمٍ من نجوم السماءِ قد أفل
ووهج المشعل الجنائزي أخذ يخبو رويدًا رويدًا
على ضفة النهر الصاَّمت
وأخذت بنات أوى تعوي في جوقةٍ واحدة،
من فناء الدار المقفرة، على ضوء القمر الشاحب.
ترى لو أنَّ عابر سبيل هجر منزلَهُ، وقدم إلى هُنا
ليتأمَّل في الَّليل ويُصغي، مطرق الرأس، إلى
وشوشة الظلام، فمن ذا الَّذي يهمس في أذنيهِ
أسرار الحياة، إن أقفلت أنا أبوابي.
تلك مهمةُ الشاعر، الكشف عن أسرار الحياة، واستجلاء ما استغلق من
عوالم، ليصبح السرُّ في متناول يد الإنسان، حتى لا يبقى الليلُ حاجزًا
وباعثًا على اليأس. لابدَّ للشاعر أن يدرك هذا الارتباط بينه وبين
الإنسان، إنه ارتباط يصل إلى مستوى الالتزام الشامل بجوهر الحياة وجوهر
هذا الإنسان. لذلك لا يُقفل أبوابه عن العالم. فدائمًا هناك من يجيء
ليسأل عن سرِّ الحياة. ولابدَّ أن تبقى الأبوابُ مفتوحةً لتتدفَّق منها
الأسرار.
الآن، ما علاقةُ الطفولة والَّطبيعة بالفكرة التي بدأنا بها؟ إن طاغور
يُلغي الهوَّة بين الذات وعناصرِ الكون من خلال احتفائه بهذا الإنسان
الكامل. هذه الهوة التي يعني بقاؤها مزيدًا من القلق المدمر. والشعر
يحقق امتيازًا أكثر عندما ينقذ الذاتَ من مصيرها التدميري. والفرح
الكبير الذي يعيشه الشاعر ويكتبُهُ ويحيا مع الكائنات فيهِ، هو وحده
الكفيل بالارتقاءِ بهذا الإنسان إلى مستوى إنسانيته الحقِّ. حيث لا
قيمة لشيء مهما يكن، إن لم يمتثل لإرادة الإنسان، سواء في ذلك: المطلق
والطبيعةُ والجمال والطفولة.
إن الطبيعة هي الطفولة في مهدها البكر، وشِعرُ طاغور مليءٌ بالدهشة
التي يشعر بها الطفل أمام العالم معبرًا من خلالها عن إصراره على عدم
التلوث بشروط الآلات وحضارة المعدن.
يرى طاغور من خلال شعره، إلى الوجود، بعين الطفل، حيث تزولُ عند هذا
الطفل الحدود بين جسده والأشياء، مكتفيًا من العالم بأن يحقِّق وجوده
بهذا الاندماج مع العالم. ففي فترة عدم تمييز الطفل للحدود بين يدهِ
وأشياء الكون، حيث يعتقدُ أن الأشياء امتداد (طبيعي) ليده، لعينِهِ،
لجسده، في هذه الفترة لا يكون هناك فرق حادٌّ بين (الطبيعة) و(الثقافة
والمعرفة). أي أن وحدة الطفل بالطبيعة هي بحد ذاتها المعرفةُ. وفيها
يصل الشاعر/الطفل إلى حقائق مُذهلة سرعان ما تزولُ هذه الحقائق عندما
يبدأ الطفل بالتفريق والتمَّييز. فيفقد الكثير من الغنى والاحتشاد
الكوني في أعماقه. لهذا كان طاغور يهتمُّ بهذه اللحظة التي يحقق الطفل
وجوده فيها، لأنها في الحقيقة اللحظة الحقيقية الحاسمة لدى كل شاعر.
فالشاعر يصبح طفلاً في هذه اللحظة فقط. ويخسر هذه الميزة عندما يخضع
لشروط الثنائيات فيما بعد. إن الطفل والصوفي والشاعر، يلتقي كل ذلك في
روح شعر طاغور.
بل إن طاغور يفهم فن الشعر من هذا المنطلق. فهو بالنسبة إليه صرخةٌ
يطلقها الوليدُ. صرخةَ تعني للطفل أنه موجود حقًا. وأنه خرج من مرحلة
العماء إلى مرحلة التحقُّق. لنقرأ هذه الفقرة من إحدى مسرحيات طاغور:
الشّاعر: أجل أيها الملكُ، أعددتُ الشيء اللازم، ولكن لا أستطيعُ أن
أقول أهو مأساة، أم قصيدة أم حفلة مقنَّعة.
الملك: تُرى أيكونُ في وسعي أن أفهم ما كتبتَ؟
الشاعر: لا، أيها الملك، إن ما يكتبُه الشاعر لا يرمي إلى أن يتضمَّن
معنى ما.
الملك: إذن، فإلام يرمي؟
الشاعر: إلى أن يتضمَّن الجَرْس الموسيقي نفسه.
الملك: ماذا تعني؟ ألا يتضَّمن ما ينظمُه فلسفةً ما؟
الشاعر: لا، لا يتضمَّن ذلك والحمد لله.
الملك: إذن، فماذا يقولُ هذا الشعر؟
الشاعر: إنه يقول: "إنني موجود". أتعرف معنى الصَّرخة الأولى التي
يُطلقها الطفل الوليد؟ إن الطفل يسمع حين يولد صرخات الأرض والماء
والسماء التي تحيط به تهتف له كلها: "إننا نوجد" ويجيبُ قلبه الصغير
الضَّئيل صارخًا بدوره: "إنني موجود". إن شعري شبيه بصرخة هذا الطفل
الوليد، إنه جواب عن صرخة الكون.
3
جماليَّات في شعر طاغور
بعيدًا عن العوامل الموضوعية والخارجية (إن جاز لنا الفصل في حديثنا عن
شعر طاغور بين الذات والموضوع بين الداخل والخارج) ماذا يمكن أن يقال
عما قدَّمه طاغور (الشاعر) على صعيد الشعر، كيف تعامل مع القصيدة
كعلاقات قائمةٍ بين دلالات الكلمات والجُمل، كيف يشكِّل طاغور عالمه
الشعري؟ قد تكون هذه الأسئلةُ خاصةً بلغة طاغور التي كتب بها. فنحنُ
الآن نواجه شعره المترجم بأسئلةٍ ذات صلةٍ وطيدة بطبيعة الشعر كلفةٍ
يكتبها الشاعر ليعبِّر من خلالها عن انتمائِهِ للغة شعبه. مع ذلك يبدو
أن الرأي القائل بأن الشعر حين يُترجم يفقدُ الكثير، لا يمكن القبول به
بالنسبة لوجهة نظرنا على الأقلِّ، إن الشعر يبرز عند الترجمة أكثر حتى
لو كانت هذه الترجمةُ سيئةً، إنَّ رداءةَ الترجمة لا تطمس جوهر الشعر.
إنها تطمس ما ليس شعرًا. أما الشعر الحقيقي فتشكل الترجمةُ اختبارًا
ثانيًا له. لذلك تحاول هذه الأسئلة التعامل مع شعر طاغور من خلال
(العام المشترك) بين شعراء الأرض كلهم من خلال اتفاقهم على بديهيات
تتعلَّق بضرورة تميُّز كل شاعرٍ بأسلوبه اللغوي، وبحثه عن وضعٍ فنيٍّ
تبدو من خلاله علاقاتُ الكلمة (لنقل معنى الكلمة، كون النصوص مترجمة)
بالشيء والعالم والذات علاقاتٍ جديدةٍ وخاصة.
لكن، هل يجوز فصل الشعر عن الخارج؟ هل يمكن النَّظرُ إلى اللغة التي
يكتبهُ من خلالها الشاعر، أو إلى المفردة أو الصورة... على أنها هدفٌ
مقصودٌ لذاته معزولٌ عن عوامل أخرى؟ الجواب لا. مع إيماننا بأنَّ
الشّعر فنٌ قائمٌ، فإنَّ هذا الفنَّ يتحرَّكُ في إطارٍ تاريخي، شاء ذلك
أم أبى. وحين يطرح النقدُ السؤال المتعلِّق بفنيّة الشّعر، بصوره،
بمفرداتِهِ، فإنَّ الخارج يجب أن تخفَّ وطأتُه قليلاً أو كثيرًا. حتى
يبقى من هذا الخارج ما يُساعده النقد المتعلق بالفنِّ على أن يمارس
دوره بأمان. ومع تأكيدنا على ذلك، فإننا نشير إلى عدم تعاطفنا مع
النظرة الشكلية التي تنظر للغة والصورة والمفردة كعناصر مستقلة تمامًا،
منغلقةً عن الآخر وعن العالم، من خلال عَزْلِ هذه العناصر كبنياتٍ
مكتفية بذاتها. ونحن بذلك نبتنَّى رأي البنيوي لوسيان غولدمانLucien Goldmann
القائل: بأن الأدب
ذو بُعدٍ جماعي... وإلاَّ فلا معنى لكتابة الشعر، الذي لا تكتمل آفاقهُ
(وآفاق الأدب بشكل عام) دون وجود القارئ، مهما كان هذا القارئ، ودون
تلمُّس الشعر لأسئلته المتعلِّقة بالتاريخ البشري وانعكاسه على مأساة
الروح الإنسانية، ومدى علاقة نبض الكون بنبض القلب. غولدمان يرى بأن في
الأدب فاعلاً يجدرُ بنا التعامل مع الأدب على أساس من هذا الفاعل، هذا
الفاعل قد يكون التاريخ أو الإنسان... إلخ.
وطاغور
–
محورُ حديثنا – أثَّرت الصيغةُ العامةُ لحياته في
سمات شعره. لا بمعنى أنه عكسها ونقلها - فهذا قتلٌ للشعر لا يمكن أن
يفعله طاغور - بل بمعنى: أنَّ الترف الذي أصابه طاغور في حياتِهِ
وعلاقاته، تسلل إلى شعره. وهذا ما يتَّضحُ لنا عبر استقراءٍ يتناول
منشأَ الألفاظ في معانها وإيحاءات الصُّورة وكيفية اعتناء طاغور ببناء
كونٍ شعريٍّ أنيقٍ بأعمدته وعميقٍ بشفافيته. وذلك لا يعني أنَّ الشّعر
كان "بورجوازيًا" مثلاً. إنَّ طاغور يهتم بعناصر الطبيعة والطفولة
والإنسان، ولكنه في الوقت نفسه لا يخرجُ من جلده حتى الأبد، مما هو
مستحيلٌ على أي إنسان. ماذا نعني إذن بأن التَّرف تجلَّى في شعره؟ وكيف
- في الوقت نفسه – يكون شعره خاليًا من التَّرف كموقفٍ إنساني، ولا
يمتُّ هذا الشعر بصلةٍ إلى التعالي على الإنسان؟
للشعر كما هو مبيَّنٌ في نظريَّات الأدب المعاصرة، حتَّى لدى البنيويين
التكوينيين – ومنهم غولدمان الذي هو أهمُّهم – للشعر عالمه الخاص الذي
يرقى فوق مستوى العادي والمسف والمبتذل، ليكون ذا صلةٍ بما يمكنُ
وصفُهُ بـ (الجلال)، أو الأناقة، أو الترف. حيث تُنتقى المفردةُ
انتقاءُ وتُنسجُ الصورةُ بإحكامٍ يحفظ لها عمقها. لأن عمق الصورة
الشعرية لا يتأتَّى من صياغةٍ رخوة وبناءٍ مهزوز فالعمق يعني انتشال
القصيدة كافةً من الضحالة والتسطُّح. فللشعر حرمتُه كفنٍّ. وأي مساسٍ
بحرمته يُعتبر نشازًا مرفوضًا. وتلك أول خطوة كما يبدو، يمكن أن يخطوها
الشاعر، أي شاعر، ليسير في درب الشعر العظيم، فأن يكون شاعرٌ ما،
عظيمًا، يعني ألا يكون عاديًا مسفًا مُبتذلاً.
يبدو لنا ذلك جليًا في كيفية تناول طاغور لعناصر الصورة الشعرية، حيث
يقدم من خلالها مشاهد بهيَّةً تتجاذبها أطراف من الاحتفالية والغنائية،
غير منفصلةٍ عن مصدرها الواقعي. يقول مثلاً:
إنني
جالسةٌ فوق العشب، أتأمَّلُ في العذاب، وأحلُمُ
بروعةِ مجيئكَ المفاجئ، تحيط بك المشاعل وترفُّ حول
مركبتك أجنحةٌ ذهبية، إنهم يقفون على حيد الطريق وقد
فغروا أفواههم وهم يرون إليك تتركُ مجلسك وتنتشلني
من التراب، لتضع إلى قربك تلكَ الفتاةَ المتسولة المهلهةَ
الثياب، وهي ترتعش خجلاً، وزهوًا، كأنها عريشةٌ يجاذبها
نسيمُ الصيف.
إننا هنا نضع في الاعتبار المفردات الأصلية التي اشتغل بها طاغور،
ولكننا نتعامل مع دلالاتها المنقولة عبر الترجمة.
إن البحث عن شعرية هذا النموذج لا يتمُّ فقط عبر تسمية الإيحاءات
الممكنة الَّتي تومئ إليها الصور، بل وبالدرجة الأكثر أهمية، يتمُّ
بالتأمل في الكلمات التي تتشكل منها هذه الصور، وإلى علاقة هذه الكلمات
بمجمل الصورة، ثم بالنَّظر إلى تموضُعِ مجموعة الصور في إطار القصيدة
بشكل عام. هذا ما يتطلبه نقد الشعر بصورة مبدئيةٍ. فماذا نرى في هذا
النموذج؟
"أحلم بروعة مجيئك المفاجئ"
"تحيط بك المشاعل"
"ترفُّ حول مركبتك أجنحةٌ ذهبية"
يصل المشهد الاحتفالي إلى ذروته في هذه الصورة من خلال دلالات هذه
الكلمات: أحلم، روعة، المشاعل، ترفُّ، مركبة، أجنحة ذهبية. لا نُفاجأُ
هُنا بقدرة طاغور على الارتقاء بموضوعٍ قد يبدو عاديًا، إلى مستوى
الجلال. فالفتاة التي (تحلم) هي (فتاة متسوِّلة) وهذه صورةٌ واقعية
مبتذلة، لكن طاغور حوَّل مسار الصورة هذه إلى مصافِّ القدوم الملكي
للمنقذ الذي تحلم به المتسوِّلة. إن علاقة هذا المشهد بالصورة علاقة
وطيدة، إذا نحن لحظنا واقع المتسولة بما تفقدُه وما حُرمت منه من مشاعل
وذهب ومراكب ملكية، فلابدَّ أن تركز حلمها كله على هذه العناصر
المفقودة. ولا غرابة أن تحلم بهذا الجلال. فالمحروم من الحياة الحقيقية
يُزيِّن لنفسه هذه الحريةَ بشكلٍ أسطوري مدهش. وكلما أوغل الإنسانُ في
الحرمان أصبحت أحلامه أكثر بهاءً. وليس مفاجئًا أن ينتشل طاغور هذه
الفتاة عبر إدخالها في حقل الحلم من واقعها المأساوي إلى درجةٍ تصبح
معها أميرةً، وترى نفسَها في قلب المشهد الجديد على الطريقة التالية:
"كأنها عريشة يجاذبها نسيم الصيف". إنها تحلم بالفرح إذن. من خلال حركة
النَّسيم والعريشة. لا نقرأ في هذه الصور كلمة "فرح"، لكن علاقات
الكلمات ببعضها هي التي شكلت حالة الفرح. ثم لنلاحظ علاقة هذه الحركة
(مجاذبة النَّسيم للعريشة) بخجل وزهو الفتاة وهي قرب منقذها في حالة
جديدة. هنا نلمس صورةً حسيةً بعناصر تُوازي الحالة النفسية للفتاة.
وطاغور – كونه شاعرًا كبيرًا متقنًا لأصول اللعبة الكبيرة – يقدِّم
موازاةً بين المجرَّد والحسِّيِّ في إطار بنائه لصوره.
في مثالٍ آخر نقرأ لطاغور:
أشعرُ
بأنَّ النجوم كلها تتلألأ في كياني
أنَّ الكون يجيش في حياتي كأنهُ السَّيلُ
أنَّ الزهورَ تتنوَّر في كياني
أنَّ شباب الأرض والسماء يسمو في قَلْبي كأنَّهُ
بخور المجامرِ، ولهاث الوجود كلَّه يتردَّد ضمن أفكاري
كما يتردَّد في ثقوب الناي.
يبرز هنا الوعي الحقيقيُّ لعملية الشعر، على صعيد علاقة اللغة
بالأشياء، وعلاقة الذَّات باللغة التي هي أساس عمل الشاعر.
إذا قسَّمنا هذا المثال إلى جداول نُدرج فيها الكلمات على أساس العلاقة
بين الأشياء والذات، برز عندنا في جدول الأشياء: (النجوم – الكون –
الزهر
–
الأرض – السماء – الوجود)، وفي جدول الذات: (كياني
– حياتي – قلبي) ويتوسَّط هذين الجدولين جدولٌ يشكل برزخًا واصلاً بين
الذات وتلك الأشياء . فالنجوم (تتلألأ)، والكون (يجيش)، والزهور
(تتنوَّر) وشباب الأرض والسماء (يسمو)، ولهاث الوجود (يتردَّد).
إن العلاقات القائمة بين دلالات الكلمات تدلُّ على وعيٍ كاملٍ بأنَّ
الشعر، في المقام الأول، عملٌ في نطاق اللغة. ومن ثمَّ تأتي العناصر
الأخرى الممكنة. في هذا المثال يبدأ الشاعر بـ (ذاته) نقطة انطلاق لكل
عناصر الوجود: (أشعرُ). وتصُبُّ العناصر كلها في هذا الإحساس الذاتي.
إنها عناصر حيادية بعيدًا عن ذاته. لكن عندما شعر بها أعطاها ماهيتها
وماهية ذاته في آنٍ واحدٍ معًا. مستبطنًا بذلك أعماق الكون، عبر وضعه
لـ (الذات) مقابل الكون، دون إحساس بالثنائية القاتلة. وتكون علاقةُ
الكون بالذات علاقةَ الاندماج. وليست هذه العلاقة غريبةً على عالم
طاغور. فهو – إضافةً لأنَّهُ يحلُّ إشكالية الهوة بين الثنائيات – ابنُ
الشرق الفلسفي الروحي، حيث تبرز الرؤى الصوفيةُ أوضح بروز في شعره
جميعه. حيث تتلاشى الحدود في لحظةٍ يقبض عليها الشاعر، صاهرًا العالم
ومظاهره وجماله وقبحُهُ وتناحراته في نار ذاته. تحلُّ عناصر الكون في
قلب الشاعر، والوجود يتردَّد لهاثهُ في أفكار الشاعر، ليعود فيرسله،
كأنه ناي تتلقَّى العالمَ وترسله عبر ثقوبها. وكأنَّ هذه الثقوب أفعالُ
خلقٍ وإحياء للوجود بعد أن دخل في ذات الشاعر فعاش الموتَ ثم نهض من
جديد. يمكن أن نُسمِّي هذا (أنسنة) الوجود وأشيائه. هذه الأنسنة التي
تعبر عن موقفٍ صوفيٍّ شامل، لا يُعبِّر عنه الشاعر بالكلمات بقدر ما
تبوح به طبيعةُ علاقته مع الوجود. الذي – كما أشرنا قبل قليل – لا
يمتلك قيمةً كبيرة إذا ما انفصل عن بُعده الإنساني. وقد اكتنزت الصور
الشعرية عند طاغور حين وجَدَتْ لها مصدرًا مهمًا – إضافةً لما ذكرناه
من صور الطبيعة والطفولة – في تلك العلاقة الشاملة بينه وبين الوجود.
ويمكننا بسهولةٍ أن نكتشف أنَّ طاغور اهتمَّ بعنصرٍ مهمٍّ من عناصر
صورته الشعرية، هذا العنصر هو (الجدل) المتجلِّي بوضوحٍ في الحوار
الدائم المتناغم بين الذات والكون. فكل ما يحدثُ في الخارج، سيجد له
صدى أساسيًا مكملاً في داخله، قد يكون هذا الصدى منشأً أوَّليًا لهذا
الذي يحدث في الخارج. وكثيرة كثيرة هي التي تدلُّ على هذا التناغم الذي
هو سمةٌ لأيِّ شعرٍ يطمح لتوطيد علاقة صوره بالعالم الخارجي. ولا بأس
من ذكر بعض صور طاغور بهذا الخصوص. مع أن كل الأمثلة السابقة تتضمَّن
دليلاً على هذا.
إن
نهر الحياة نفسه الذي ينساب في عروقي
ليلاً ونهارًا، هو الذي ينساب في الكون.
*
سوف
نتدفَّقُ، مع فيضان الأشياءِ،
من الجبل إلى البحر.
*
أنتَ
يا جيبَ السماء الأول،
أنت يا توأم لشعاعِ الصباح،
لقد جرفك تيار حياة الكون حتى رسوتَ أخيرًا في قلبي.
*
كلما
اقتربتُ منكَ ازداد التوثَب في رقصة البحر
إن دنياك غصنٌ من النور يملأ راحتيك، ولكن
سماءك هي في قلبي الخفيّ، ولهذا فإن براعمه تتفتح في
يسرٍ على حبٍّ خجول.
إن الشاعر في شعره كله ونثِره وكتابته الفكرية، يؤسس مشروعًا مهمًا
لكرامة الإنسان، وحريته، حين يجعل منه الجوهر الأصلي لتظاهرات الكون.
يحتضن الكون، ويصهره في داخله ويعيد صياغته وفق مشيئة هذا الجوهر
الإنساني. وهنا يكمن جزء كبيرٌ من أهمية طاغور. فقد نذر حياتَهُ
وتفكيرهُ وشعره ومواقفَهُ لتطوير حال الإنسان وإيمانه بأنه طاقةٌ محركة
للكون. ومن المهمِّ أيضًا أننا حين نقرأ تركيز طاغور على الذات، فإننا
لا نرى عنده البتة أي أثرٍ للأنانية، فهو يطرح الذات على أنها الكون في
تجلِّيه المهم. وهذه هي ديانةُ الشاعر التي من المنتظر أن يعتنقها في
حياته ويترك مفاهيمها تتسلَّل في أفكار قرائه ومُحبيه. طاغور لا ينشغل
إذن بأناهُ، فليس هناك وقتٌ لهذه الأنا بمعزلٍ عن نهر الحياة، وفيضان
الأشياء، وتيار حياة الكون.
إن التناغم الذي تحدثنا عنه قبل قليل ليس لفظًا أطلقناه فجأةً. فطاغور
عبَّر عنه في كل شعره. وما اكتفى بهذا، بل راح ينظِّر له في دراسةِ
الشعر والفلسفة. ولنقرأ هذه الفقرات من كتابة طاغور عن هذا التناغم.
حتى ندرك أنه حتى هو كان يعيش التناغم مفهومًا وسلوكًا. وكان يشكل
هاجسًا له.
كنتُ
أحدِّث دومًا صديقًا عن الفرح الذي تزودنا به شخصيتنا، يجعلنا واعين
لروح الوحدة فينا. فأجابني محدِّثي إنه لم يشعر بأي فرح داخلي من هذا
النوع، لكنني بقيت واثقًا من مُغالاته. وأيًا كان الأمر، فإنَّ هذا
الرجل كان يُعاني بشدَّةٍ من بعض الانفصام في التناغم بين محيطه وروح
الوحدة فيه، مثبتًا هكذا بشدَّة أعظم حقيقة هذا التناغم.
ما هي
حقيقةُ هذا العالم؟ ليست الحقيقةُ في كُتل المادة، ولا في عدد الأشياء،
إنما في صِلاتها التي لا نستطيع عدَّها وقياسها وتجريدها. وهي ليست في
المادة تحت أشكالها المتعددة، بل في التَّعبير الذي هو واحد. وكل
معرفتنا للأشياء ترتكز على توضيعها في علاقتها مع الكون، في هذا
التجانس الذي هو الحقيقة. إن قطرةَ الماء ليست تركيبًا خاصًا للعناصر،
بل هي أعجوبةُ تبادل تناغمي، يكشف فيه الاثنان معًا الوحدة.
واضح من هذين المقتبسين من كتابة طاغور أن مشروعه كله قائم على سرِّ
هذه الوحدة التي تلتقي فيها الأشياء والموجودات في حالةٍ من التناغم.
إنه يصفُ صديقه الذي لم يشعر يومًا بفرحِ التقاء هذه الموجودات
واتحادها بروحه، بأنه "يعاني بشدَّةٍ من بعض الانفصام في التناغم بين
محيطه وروح الوحدة فيه". إن هذا هجاء للأنانية التي برَّأنا طاغور
منها. فهو لا يصدِّق أن أحدًا لا يشعر بتناغمٍ عميق بين ذاتِهِ وبين
المحيط.
*** *** ***
مراجع
-
رابندرانات طاغور،
نصري صايغ ونبيل حبيقة، دار الرواد، بلا تاريخ.
-
روائع طاغور في الشعر والمسرح، تر: د. بديع حقي، دار طلاس،
دمشق، 1984.
-
ديانة الشاعر،
طاغور، تر: موسى وغسان الخوري، دار الغربال، دمشق، 1988.