كاميل كلوديل بين
مصحِّ العشق وإبداعات النضوج
رشا صالح
"يعذبني دائمًا شيءٌ غائب"
هي العبارة النحتية الخالدة للنحاتة الفرنسية الشهيرة كاميل كلوديل
التي نُحتت على واجهات أحد فنادق ستراسبورغ والتي وصفت الحالة
الدراماتيكية التي عاشتها الفنانة الشابة والتي تحمل صورة للفقدان
والضياع والألم والانكسارات الجمة، التي غلفت المشهد الخارجي لتفاصيل
حياتها، نتيجة للعلاقة الجنونية الغرامية لعشيقها ومعلمها النحات
الشهير أوغست رودان،
الذي كان يكبرها بأربع وعشرين عامًا والذي كان أيضًا عاشقًا لها، إلا
أنه رفض التخلي عن رفيقته وزوجته غير الشرعية روز بورييه التي تقاربه
في العمر، لإخلاصها له ووقوفها إلى جانبه دومًا، الأمر الذي أودى بعقل
كاميل وأودعها المصحَّ العقلي مدة ثلاثين عامًا، حيث استعر قلبها
بنيران الحب والغيرة القاتلة التي أصابتها بنوبات عصابية، أدت إلى
تحطيم كل ما كانت تحاول نحته؛ ظنًا منها أن رودان سيسرق منحوتاتها كما
سرق قلبها، لذلك كانت تصرخ من بين جدران غرفتها في المصحِّ مناجية
أخاها الشاعر والكاتب المسرحي الشهير بول كلوديل لإخراجها، كي لا تموت
هي وأعمالها هناك، حيث اكتفى هو في المقابل بكتابة الرسائل وزيارات
قليلة لها طوال فترة بقائها فيه. كتبت له تقول:
أرتعب من فكرة أني لن أحصد يومًا ثمرة جهودي، وأني سأموت هكذا في
العتمة الكاملة.
هذه الأجواء من القهر والهلوسة والخذلان، تركا للفن النحتي المعاصر
إرثًا عظيمًا تجسد بمنحوتتها الشهيرة "عصر النضوج" والتي تصرخ فيها بكل
مكنونات قلبها الكسير. والتي كثرت تفسيراتها وتأويلاتها عند الكثيرين،
إلا أن هذه المنحوتة التي صورت الفتاة اليافعة الراكعة على ركبتيها،
والتي تستجدي الرجل الناضج الممزق بين البقاء معها، والذهاب مع امرأة
عجوز أخرى، كانت برمزيتها الفنية مثالاً إسقاطيًا، يحمل عدة معان غنية،
فعبَّرت الشابة المتوسِّلة في هذه المنحوتة عن الشباب الضائع والروح.
وكما مثَّل الشاب الجسد، مثَّلت المرأة العجوز الموت.
ولم تتوقف قصتها عند الفن النحتي فقط، بل استفزت عوالم الفن السابع،
حيث حرَّضت مشاعر ومخيلة المخرج الفرنسي برونو دومونت على صناعة تحفة
سينمائية تسمى كاميل كلوديل (1915) فيلم روائي طويل شارك في مهرجان
برلين السينمائي عام 2013 ورشح لجائزة الدب الذهبي في المهرجان ذاته،
وكان هذا الفيلم الثاني الذي يروي قصة النحاتة العاشقة كاميل.
ففي البداية، قدم المخرج برونو نيوتن فيلم كاميل كلوديل عام 1988،
والذي صوَّر العلاقة الغرامية بين كاميل ورودان وعلاقتها بأخيها الشاعر
بول، حيث قامت الممثلة الشهيرة إيزابيل أدجاني بتمثيل دورها، والتي
استطاعت نقل الحالات الحسية التي مرت بها النحاتة بكافة تناقضاتها
وباحترافية عالية، حصد الفيلم على أثرها جائزة أفضل ممثلة رئيسية حصلت
عليها في برلين، وحصل أيضًا على ترشيحين لجائزة الأوسكار لأفضل ممثلة
رئيسية، وأفضل فيلم غير ناطق بالإنكليزية.
استطاع نيوتن من خلال فيلمه أن ينقل المشاهد إلى التعريف بالجو
الإبداعي النحتي الذي كانت في صلبه الفنانة وشغفها الروحي بالنحت من
خلال تصوير أعمالها النحتية في سياق العمل، مركزًا بذلك على موجة
الانفعالات الحسية التي رافقت كاميل من غضب ووله وجنون وحب، راسمًا
العلاقة الثرية بين المنحوتة وبين النحات، فافتتح عمله بمشهد لـكاميل
وهي تقوم بانتزاع الصلصال من بين تلك الحفريات التي أعدت لنظام الصرف
الصحيِّ في باريس في ليلة ماطرة تحملها إلى معرضها، لتقوم بتحويل الطين
من الطابع النتن إلى عالم الجمال، محاولاً في هذه الافتتاحية أن يخلق
حالة الولادة الفنية لكاميل كلوديل، ويظهر حالة النشوة والجمال التي
تبدعها أصابعها، من خلال إضفاء الجمال في كل ما يخص عوالمها، ليختتم
العمل بمشهد الإعصار المُدمِّر في روح كاميل وهي تقوم بتحطيم مجمل
أعمالها في نوبة غضب عارم.
النحت في هذا الفيلم عبَّر عن كاميل، والمنحوتة عبَّرت عن مقدرة مشاعر
كلوديل على خلق الحياة، من خلال قدرتها على تشكيل الصخور وإضفاء الطابع
الجمالي لذاتها، وكذلك صورت الموت عبر تحطيمها للأعمال.
كذلك تمكن نيوتن أن يصف حالة عشيقها رودان ونظرته المادية إلى العمل
الفني، حيث عرض نظرته الشبقة لأجساد الفتيات اللواتي يعرضن أجسادهن،
ليقوم هو بإنجاز منحوتاته، بعكس كاميل التي كان كل تركيزها على التعبير
العلوي من الرأس للمنحوتة، ونبذ العلامات الجسدية، في توضيح منه عن
النظرة الداخلية لذات كلا النحاتين. فرودان لم ينظر إلى كاميل إلا
بطابع منحوتة وثورة شبق تشعل الإلهام عنده. أما كاميل، فجعلت من رودان
عالمًا يحتضن روحها وجسدها، وتمثلت تلك الحالة في العديد من المنحوتات
المشتركة بينهما، الأمر الذي ساق الفنانة العاشقة إلى الانجراف نحو
كثير من التناقضات والإشكاليات النفسية والروحية التي كانت نتيجتها
الجنون والهلاك، ولم يقم بوتين بتصوير علاقتها بأخيها إلا في مشاهد
قليلة جدًا.
أما المخرج دومونت الذي خصها نجمة لفيلمه مضمونًا واسمًا، لم يصور
علاقتها العاطفية، ولا يظهر رودان أصلاً وإنما يستخدمها للتعبير عن
رؤيته لقضايا كانت تشغله، اكتفى بسرد تفاصيل أخرى من وجهة ثانية (يدور
الفيلم عام 1915) عن كاميل، وهى فى المصحِّ بعد أن قضت فيه عشرين سنة،
ويصور الفنانة وهي تنتظر أخاها بول، مقدمًا لنا قصة النحاتة وما
يعتريها من إبداع ومشاعر إنسانية، من خوف وانتظار ورغبة في الخروج من
سجن المصحة.
يعرض الفيلم عدة لقطات عامة ومتوسطة مميزة للمكان وللأشخاص، ناقلاً بكل
مهنية حالة الجو العام الذي تعيش فيه البطلة، فيبدأ بلقطة متوسطة
لكاميل "جولييت بينوش" من ظهرها، من خلال قيامها بطهو طعامها في المصحة
بنفسها، وذلك لأنها كانت تشعر أن هناك مؤامرة لقتلها بوضع السم في
الطعام.
ثم ينتقل لتصوير كاميل المرأة الناضجة العاقلة في علاقتها مع المرضى
والممرضات، ثم مع الطبيب مدير المصحة، وهي تطلب منه أن يقنع أسرتها
بضرورة خروجها من المصحة، ويوافقها على ذلك، ويخبر بول عندما يأتي
لزيارتها، ولكنه يرفض. كذلك تم التركيز بلقطات عدة على كاميل وهي تقوم
بنزهة في حديقة المصحِّ تمسك قطعة من الطين، وتوشك أن تصنع منها
تمثالاً، ولكنها تتراجع وتلقي بها. وقد مثلت بينوش هذه اللقطة بأصابعها
التي عبرت عن شوق النحاتة للعودة إلى ما تحب، وتوترها وخوفها من النحت
في الوقت نفسه. وفى لقطة ثانية، نرى بول (جان-لوك فينسنت) قبل أن يزور
كاميل، يكتب في حجرته عاريًا، وتتحرك الكاميرا إلى وجهه، ونرى عليه
تشنجات عصبية شديدة توحي بدرجة ما من درجات الاختلال، قد تفسر موقفه
المتناقض من شقيقته، فهو يوافق على بقائها في المصحِّ، وينفق الكثير من
المال على علاجها. وهي في المقابل، على الرغم من رفضه إخراجها من سجنها
المميت، بقيت تناديه بكل عطف وحنان بعبارة: أخي الصغير.
ينتهى الفيلم بلقطة على وجهها، بعدما بدأ بلقطة لظهرها، لم تعرِّفنا من
تكون المقصودة. وتظهر نظرة بينوش في هذه اللقطة بين الاستسلام لمصيرها
ومواجهة هذا المصير في آن واحد، وتعبر عن أنها لم تفقد إنسانيتها، بل
وربما تفضل الحياة مع المرضى الذين لا يدركون بعقولهم، وإنما يعيشون
حسب مشاعرهم وأحاسيسهم.
فكل ما سردته كاميل في فيلمها عام 1915، وكل كلمة نطقت بها، عبرت عن
رؤية المخرج دومونت الناضجة لشخصية النحاتة، وأسئلته عن المنطقة
الإنسانية الملتبسة بين العقل والجنون وبين الحب والكراهية، مركزًا
بذلك على الجانب الإنساني البحت في معالجة الصور فنيًا وتقنيًا،
ملامسًا قلب المشاهد وحدسه.
وكذلك تمكن نيوتن من توصيف المرأة الإنسانة المرهفة بكافة جوانبها،
فاستطاع توصيفها كامرأة بثلاثة محاور، تعبر عن المرأة المحبوبة، المرأة
المبدعة، والمرأة في المجتمع وعلاقتها الارتباطية العكسية مع الرجل،
وعلاقته بها، سواء كان حبيبها أم أخاها، مرسخًا صيرورة الإبداع كخط
واضح المعالم جعله سمة مميزة وطابعا فرديًا لجو الفيلم وطبيعة أبطاله.
وفي كلا الفيلمين، وأيًا كان توجه المخرجين نيوتن ودومونت، يبقى القاسم
المشترك لكلا العملين هو كينونة النضوج الإنساني تحت مراسيم الحب
ورياحه العاصفة، وهو عبقرية كلوديل المرأة العاشقة والمبدعة، التي ظلت
راسخة كحالة فكرية في كل تطوراتها؛ من العشق... إلى عصور النضوج.
*** *** ***
بلدنا