|
التقمُّص إيقاع الحي
كلنا يعلم أن الكون والحياة قائمان على الحركة الإيقاع. كل ما هو كائن يقوم على الإيقاع. حتى أن الفيزياء الحديثة تؤكد ذلك بمقولتها إن "كل شيء ذبذبة"، وإن جميع الظواهر يمكن إرجاعها إلى ذبذبات. فقانون التذبذب يحكم سائر ظواهر الكون والحياة. والتذبذب، أو الإيقاع، يتناوب دائمًا بين قطبين، مثلما هي حركة النواس؛ فهو يقتضي وجود قطبين متقابلين متعاكسين، ولكنهما متكاملين، ووجود أحدهما ضروري للآخر، بينما تكمن وراءهما وحدةٌ تجمعهما في مستوى أعلى. وكلنا يعرف أيضًا أن القضاء على أحد القطبين لا يعني القضاء على القطب الآخر وحسب، إنما يعني أيضًا القضاء على الوحدة الكامنة وراء هذين القطبين؛ فإزالة القطب الكهربائي السالب، أو الموجب، لا يؤدي إلى زوال القطب الآخر وحسب، إنما إلى زوال التيار الكهربائي نفسه. لعل المثال الملموس، الذي يُكسِب الإنسان خبرته الأساسية بالقطبية، هو التنفس. فالتنفس يتكوَّن من تياري الشهيق والزفير، وبالتالي فهو يشكِّل إيقاعًا. ما من أحد يشك للحظة واحدة في أن كل شهيق يتلوه زفير بالضرورة، وأن كل زفير يتبعه شهيق بالضرورة أيضًا. مثلما يستتبع النهارُ الليل، الذي يستتبع بدوره النهار، وهكذا دواليك، ويشكِّلان معًا وحدةً نسمِّيها "اليوم". من هنا فإن تقويض الإيقاع يعني تقويض الحياة، لأن الحياة إيقاع. فمن يرفض الزفير، لا يعود بإمكانه الشهيق. إذا أزلنا أحد القطبين زال القطب الآخر، وزالت وحدتهما كليًا. يمكننا الآن نقل حتميات الإيقاع القائم في عملية التنفس، بالقياس، إلى إيقاع أكبر بعض الشيء، وهو إيقاع اليقظة/النوم. فالنوم يلي اليقظة حتمًا، ثم يستتبع النوم قطبه المضاد، اليقظة، بالقوة أيضًا. وإذا قمنا الآن بنقل هذه الحتميات، بالقياس، إلى إيقاع أكبر، أمكننا القول إن الولادة والموت مجرد إيقاع، شأنه شأن الشهيق والزفير أو اليقظة والنوم، سوى أن أبعاده الأكبر تصعِّب على الإنسان الإحاطة به واستيعابه (يُقال إن النوم هو الشقيق الصغير للموت). إن القانون القائل إن أحد القطبين يحصل على قطبه المضاد بالقوة يعني أن الحياة تُرغم على الموت. فالشيء الوحيد الأكيد والحتمي عند ولادة كائن حي هو حقيقة أنه سيموت يومًا ما. فالموت يلي الحياة بالتأكيد، مثلما يلي الزفيرُ الشهيق، أو يتبع الليلُ النهار. ولكن، وبموجب القانون ذاته، تستحصل حالة الموت، وبالتأكيد ذاته، على الحياة ثانيةً. فالولادة والموت قطبان ينتظمان إيقاعيًا في وجود أشكال الكينونة كافة من خلال تناوبهما، الذي لا ينقطع. ويمكننا القول إن الوحدة التي ندعوها بـ "الحياة" ينتظم فيها قطبان متقابلان هما الولادة، التي تقود إلى الحياة الدنيا، والموت، الذي يقود إلى الحياة الآخرة، وإن الموت في الحياة الدنيا ولادة في الحياة الآخرة، والموت في الحياة الآخرة ولادة في الحياة الدنيا. إذا كانت كل المظاهر تمتثل لقانون التذبذب هذا: المدُّ والجزر، الفصول الأربعة، الكهرباء، طورا الحرب والسلم، الليل والنهار، الشهيق والزفير... إلخ، ألا يحق لنا أن نطرح السؤال التالي: لماذا يُفترَض بقطبية الولادة والموت بالذات أن تشكِّل استثناءً من هذا القانون؟ لماذا يُفترَض بحتمية قابلة للبرهان في كل مكان أن تتوقَّف أو تتعطَّل أمام ظاهرة الحياة بالذات؟ لا شك في أن الأمر يتعلق بمشكلة الأبعاد. نحن نعرف أن الإنسان بحاجة دائمًا إلى أبعاد متوسطة، تقع في متناول العقل البشري، كي يظلَّ قادرًا على إدراكها واستيعابها والتعرُّف إلى "الشكل أو الهيئة". ولكن ثمة إيقاعات هي من الصغر أو الكبر بحيث يصعب علينا إدراكها مباشرةً، ولكنها موجودة ونستدل عليها بالقياس. ولتوضيح هذه الفكرة أورد مثالاً من عالم الموسيقا: إذا عزفنا لحنًا ما بالسرعة Tempo المعتادة، أمكننا التعرُّف إليه بسهولة. أما إذا قصَّرنا المسافات الزمنية بين العلامات الموسيقية المفردة، أي جعلنا آلة التسجيل تدور بسرعة فائقة، فعندئذ لا يعود بإمكاننا التعرُّف إلى اللحن. بالمقابل، إذا أطلنا الفواصل الزمنية بين العلامات الموسيقية للَّحن، بحيث لا نسمع سوى علامة واحدة كل يوم مثلاً، فلا يعود في وسعنا التعرُّف إلى اللحن في وحدته أو شكله. وهذا هو الحال في إيقاعية الولادة والموت؛ فهي ذات أبعاد من الكبر بحيث يصعب علينا الإحاطة بها واستيعابها، ولكنها موجودة. *** *** *** |
|
|