حقوق الإنسان والحريَّات الفردية

 

عبد الإله إصباح

 

على إثر ندوة نظَّمتها الجمعية المغربية لحقوق الإنسان حول موضوع الحريات الفردية، والتي دعا مجموعة من المتدخِّلين فيها إلى إلغاء مادَّة من القانون الجنائي تجرِّم العلاقات الجنسية خارج مؤسَّسة الزواج، تفجَّرت ردود فعل تهاجم هذه الدعوة وتعتبرها مسًا خطيرًا بعقيدة الأمَّة وأخلاق المجتمع، لأنها في نظرهم تشجِّع على الزنا والتحلُّل من مبدإ أخلاقي له ارتباط بصميم الإسلام. وفي غمرة الجدال والنقاش الدائر حول الموضوع، قام إمام "مسجد" بالتحريض على قتل رئيس تحرير جريدة الأحداث المغربية الأستاذ "المختار لغزيوي" لأنه ساند دعوة إلغاء تلك المادة من القانون الجنائي المغربي، باعتبار أنَّ استمرار وجودها تعبير عن نفاق جماعي، يسعى إلى التغطية عن واقع أنَّ العلاقات الجنسية خارج مؤسَّسة الزواج أصبحت متواترة، ومألوفة من قبل شرائح واسعة في المجتمع. والحقيقة أنَّ فئة الشباب خاصة، لا تستطيع الإستغناء عن هذه العلاقات، بحكم ظروفها الاجتماعية التي لا تساعدها على الزواج، وبسبب آخر أهم في نظرنا، وهو أنَّ هذه العلاقات أضحت سلوكًا أساسيًا لنمط عيش له حضور ووجود وازن في المجتمع، نمط عيش لا يستغني عن المتعة واللذَّة في منظوره للحياة، ومن ثم فإنَّه لا يقوم بقمع الرغبات وكبتها لمجرَّد الامتثال الأعمى لمبدإ "أخلاقي" لا يراعي رغبات الفرد وحاجياته وظروف عيشه، وهو بسبب ذلك أصبح مفارقًا للواقع، بل ومعاكسًا له ومتجاوزًا من طرفه.

وما يثير الاهتمام حقيقة في المواقف الرافضة للعلاقات الجنسية الحرة، هو أنَّ أصحابها لا يكفُّون عن الادعاء بأنَّهم مع احترام حقوق الإنسان، بشرط مراعاة خصوصية المجتمع، وبمقتضى هذه المراعاة تتقلَّص هذه الحقوق شيئًا فشيئًا إلى أن تنعدم تمامًا. فباسم تلك الخصوصية المزعومة يتمُّ التحفُّظ على مواد أساسية في اتفاقية مناهضة التمييز ضدَّ المرأة، فتفرغ هذه الاتفاقية من محتواها وجوهرها، كما يتمُّ التحفُّظ على بنود أساسية من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان المرتبطة بحرية العقيدة وكذلك على اتفاقية حقوق الطفل، وبنودها المرتبطة بنفس الموضوع. وماذا يبقى إذن من هذه الإعلانات والاتفاقيات، إذا تمَّ إسقاط بنود أساسية منها؟ ماذا يبقى من حقوق الإنسان والحريات الفردية؟

إنَّ السعي إلى وضع سلوك الأفراد في قوالب متشابهة ومنمَّطة، يصطدم دومًا بحقيقة أنَّ الأفراد يرفضون هذه القوالب، ويتمرَّدون ضدَّها ويتحمَّلون في سبيل ذلك العواقب المترتبة عن رفضهم وتمرُّدهم. ذلك أنَّ القولبة والتنميط تتجاهل الاختلاف والتعدُّد، ولذلك لا تجد من سبيل لإخضاع الأفراد سوى القمع والاضطهاد. والأصولية في سعيها لفرض القولبة والتنميط، تجد نفسها دومًا في خندق التضييق ومناهضة الحريات الفردية، (بما هي رفض وخروج)... التنميط الذي تسعى دومًا إلى فرضه على المجتمع كمجموعة بشرية وأفراد. والأصولية تنطلق في فرض تنميطها من تصوُّر للدين، تعتبره هو الحقيقة والجوهر لهذا الدين، ومن ثمَّ فإنها ترفض كلَّ تصوُّر مخالف لتصوُّرها ولا تكتفي بالرفض بل تنتقل إلى المصادرة الفعلية عن طريق الإقصاء الممنهج والعنف الجسدي، وما قام به إمام المسجد المذكور في حقِّ الصحفي الذي لم يقم سوى بالتعبير عن رأيه، ترجمة فعلية لهذا النمط من التفكير الذي سرعان ما يعبِّر عن تبرُّمه وعجزه عن تقبُّل رأي مخالف باللجوء إلى العنف أو الدعوة إليه.

وتاريخ الأصولية في جزء كبير منه، تاريخ عنف ضد المخالفين لها، سواء كانوا أفرادًا أو جماعات. والعلاقة الجنسية خارج مؤسَّسة الزواج كسلوك يندرج ضمن الحريات الفردية، لا يمكن التحكُّم فيها وضبطها بمبدإ "أخلاقي"، لأنه إذا انضبط فرد أو عدَّة أفراد لهذه القاعدة "الأخلاقية"، فإنَّ ذلك لا يعني أنَّ كلَّ الأفراد بوسعهم أن ينضبطوا لها أو يجب عليهم الانضباط لها خاصة إذا كانوا غير متزوجين أو لا يرغبون في الزواج. ولعلَّ الأصولية تنطلق في موقفها من الموضوع من كون الزواج قدر حتمي لكلِّ الأفراد، متجاهلة أن العديد منهم ليس باستطاعتهم ذلك حتى وإن أرادوا، فضلاً عن الذين لا يريدونه ولا يرغبون فيه مطلقًا. فهل يحرم هؤلاء وأولئك من حقِّهم الطبيعي في الجنس لمجرَّد أنهم غير قادرين على الزواج أو لا يفكرون فيه؟ هل نقبل أن تحرم شريحة واسعة من الشباب من هذا الحق، لمجرَّد أن ظروفها المادية المرتبطة بوضعها الاجتماعي لا تسمح لها بالإقدام على قرار الزواج؟ والواقع أنَّ الشباب لا يأبه لمثل هذا النقاش ، لأنه يمارس حقَّه في الجنس دون انتظار إذن من جهة ما كيفما كانت، بل إنه يتحدَّى العراقيل سواء كانت اجتماعية أو دينية أو قانونية، لكي يتمتَّع بحقِّه المشروع في المتعة واللذة، غير آبه بمواعظ شيوخ المساجد أو الفضائيات. وفي عزِّ غليان المقدَّس كما هو الحال في شهر رمضان، لا يتوقَّف الأفراد في الاستجابة لنداء الرغبة خارج مؤسَّسة الزواج، وذلك بمجرَّد ما تنتهي فترة الإفطار المسائية، حيث الاستجابة لرغبة الجنس في إطار العلاقات الحرَّة بين المرأة والرجل، أو حتى في إطار الدعارة، وهذا واقع لا يمكن تجاهله بأيَّة حال من الأحول، وإلا كيف نفسِّر الإقبال الشديد على عروض عاملات الجنس في الشوارع الخلفية أو في الشقق المخصَّصة لذلك، أليس استمرار العمل الجنسي في عز ليل رمضان دليلاً قاطعًا على ممارسة للجنس خارج مؤسَّسة الزواج متواترة ومزدهرة؟ أين مواعظ الأصولية، وسعيها الحميم للتنميط والقولبة؟ أليس هؤلاء المقبلين على هذا النوع من الجنس مسلمين؟ وكانوا في النهار صائمين باقتناع وخشوع؟

لماذا إذن يتم السعي إلى إقامة تعارض بين الدين والمتعة؟ بين الدين وحقوق الإنسان؟ بين الدين والحريات الفردية؟ إن اعتناق دين ما كجواب عن قلق ميتافيزيقي لا يمكن أن يعوِّض الحاجة إلى تلبية رغبة مرتبطة بغريزة طبيعية، وفي حالة إحساس الفرد بالتعارض بين الاثنين، أي بين الدين والرغبة، فإنَّه إمَّا يضحِّي بالدين من أجل الرغبة، أو يعمل على الجمع بينهما بطريقته الخاصة، وهذا هو الغالب في سلوك الأكثرية. فلماذا التشبُّث ببند قانوني تجاوزه الأفراد في سلوكهم، وأصبح تفعيله من حين لأخر يندرج في إطار التضييق على الأفراد وحريَّاتهم؟

إن الأفراد وهم يمارسون حريَّتهم وحقَّهم في المتعة، يقومون ضمنيًا بتأويل خاص للدين يجعله لا يتعارض مع رغباتهم، يطوِّعونه حتى ينسجم مع تلك الرغبات، وهذا حقُّهم المشروع، حقُّهم في العيش في تناغم بين الرغبة والعقيدة، ولا يتاح لهم ذلك إلا من خلال إنتاج تأويل خاص بهم للدين يقوم على اعتناق العقيدة واحتضان الرغبة. وفي الواقع أنهم ينتجون دينهم الواقعي البعيد عن المثاليات، والمنسجم مع الطبيعة البشرية. وهذا هو ما يزعج الأصولية لأنَّه يضرب في الصميم احتكارها لتأويل الدين حسب تصوُّرها، ويقوِّض بالتالي سلطتها وهيمنتها الإيديولوجية. إنَّ الأصولية تعارض الأفراد وتضطهدهم وهم ينتجون دينهم الخاص، لأنها تريد أن تبقي الدين شأنًا عامًا لا ينفصل عن الأطر السلطوية، إذ في انفصاله عن هذه الأطر تفقد الأصولية منافذ التحكُّم في الأفراد وبالتالي في المجتمع. إنها تعي أنَّ الأفراد عندما يقومون بإنتاج تأويلهم الخاص للدين، يتحرَّرون من كلِّ سلطة تستند على هذا الدين لتبرير وجودها وقيامها، وفي ذلك نهاية أكيدة للأصولية وإديولجيتها، ولذلك فهي تحرص على أن لا يتحوَّل الدين إلى مسألة شخصية. إنها في العمق تناهض انطلاق صيرورة للعلمنة، تبدأ تدريجيًا من أفراد معدودين لتشمل المجتمع برمَّته. إن مناهضتها للحريات الفردية على صعيد العقيدة والعلاقات الجنسية تندرج ضمن إستراتجية للتحكُّم في المجتمع، تحول دون تحرُّره من تأويل معيَّن للدين يخدم ويكرِّس سلطة تريد تأبيد استمراريتها وسيطرتها، سلطة تقوم على الاستبداد والإقصاء والتحكُّم، ومن ثمَّ فإنَّها تتأسَّس على مناهضة التعدُّد والاختلاف، وترسيخ الحقيقة الواحدة، والممارسة الدينية المنمطة وفق تصوُّر وحيد يرفض التنوُّع والتَّأويل الفردي والخاص.

مشكلة الأصولية أنَّها تتبنَّى إسلامًا يناهض حقوق الإنسان والحريات الفردية، يناهض منطق العصر، حين يناهض الديمقراطية، ولذلك كانت ولا تزال مصدرًا لأزمات متواصلة تحول دون المعالجة الجدية لمشاكل المجتمع، إذ تحرِّف النقاش عن القضايا الحقيقية المرتبطة بالانتقال الديمقراطي، وتحقيق تنمية حقيقية ومستدامة تمكن المجتمعات العربية والإسلامية من تجاوز تأخُّرها التاريخي. وما لم تجدِّد منظورها للدين بما يتماشى مع روح العصر القائمة على الحرية والعدالة والكرامة، فإنها ستظلُّ العائق الرئيسي أمام تطلُّع هذه المجتمعات إلى غد مشرق تتجاوز من خلاله تخلُّفها وتقهقرها عن اللحاق بركاب العصر.

لاشكَّ أنَّنا في المجتمعات العربية والإسلامية، في حاجة إلى تمثُّل علاقتنا بالإسلام من منظور جديد، منظور يقلِّص من حضوره الطاغي في الفضاء العام كطقوس ومظاهر استعراضية أحيانًا، ويحوِّله إلى علاقة خاصة لا شأن للمجتمع والدولة بها، بحيث تندرج هذه العلاقة ضمن حيِّز حقوق الفرد المنصوص عليها في المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، علاقة لا يسأل عليها الفرد أمام أيَّة جهة سواء كانت أفرادًا أو مؤسسات، ولا يخضع بموجبها لأيِّ تقييم لمواطنته، يزيد أو ينقص من مكانته في المجتمع، لأنَّ هذا الأخير هو ملك لجميع المواطنين بغضِّ النظر عن عقيدتهم أو جنسهم أو لونهم أو لغتهم. وفي مثل هذا المجتمع لن يكون الإسلام إلا عقيدة ضمن عقائد أخرى دينية أو وضعية، يعتنقها من شاء من الأفراد ويتركها من شاء، ولا يترتَّب عن ذلك أيُّ مسٍّ بمكانتهم كمواطنين أو انتقاص من حقوقهم ومن ضمنها حقوقهم في حرية العقيدة وفي انتهاج السلوك الجنسي الذي يلائم أوضاعهم وأفكارهم ومعتقداتهم وميولاتهم. وفي هذا الصدد لا يجرم من العلاقات الجنسية إلا ما هو قائم على الإكراه أو الاغتصاب، أمَّا أية علاقة جنسية بين راشدين فينبغي أن تتمتَّع بالحماية التامة لأنها تندرج ضمن حقوق الإنسان وحريَّاته الفردية.

*** *** ***

الأوان، الأربعاء 8 آب (أغسطس) 2012

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود