|
حدود التاريخ في الرواية التاريخية
أين يبدأ التاريخ في النص الروائي وأين ينتهي؟ هذا السؤال هو أكثر الأسئلة إلحاحًا على عقل قارئ القصة التاريخية، سواء أكانت قصة تاريخية تقليدية أم أكثر ميلاً إلى الحداثة. أبرز ملامح القصة التاريخية التقليدية أنها مخلصة للحدث التاريخي إخلاصًا حكائيًا، وليس وظيفيًا، كما هي الحال في قصص جرجي زيدان (1861 – 1914)، أو قصص محمد فريد أبو حديد (1893 – 1967)، الذي جذبته الموضوعات الشخصية من مثل زنوبيا، أبي الفوارس عنترة، المهلهل، الملك الضليل امرئ القيس، جحا، سيف بن ذي يزن، أو عبد الحميد جودة السحار (1913 – 1974)، الذي تدارك بعض ما فات زيدان من موضوعات تاريخية، وأولى عناية ملحوظة بالمتن التاريخي. بصرف النظر عن تعاقب الأجيال الروائية، وتنوع عناصر المعالجة والتجويد الفني وتباينها في تلك الأعمال التاريخية، فقد لبثت تحاكي التاريخ وتتبع مساراته العامة برغبة توثيقية واضحة، مدعومة بمقدرة على تضليل القارئ، وإقلاق وعيه وتشويش معارفه وأحكامه، وجعله يترنح بين التصديق والتكذيب. أما القصة التاريخية المعاصرة، ذات النسيج المعقد والاحتيال المهاري الحاذق، التي تُفعِّل البيئة والحدث والحقائق التاريخية عضويًا، وتعيد نسجها داخليًا في محتوى النص ومناخه، فإنها تغدو لغزًا مستغلقًا، لا يستطيع فك أسراره كاملة سوى أنفار معدودين ممن تخصصوا في دراسة التاريخ. وإذا كان قرَّاء النمط الأول يقعون في فخ الشك، فإن قرَّاء النمط الثاني مرغمون على الاستسلام التام للنص وشروطه الفنية، وتقبُّل ما يعرضه من مزج للتاريخ بالمتخيل على أنه وحدة متكاملة، لا تقلِّد التاريخ، ولا تقتفي أثره، إنما تصنع واقعًا سرديًا على أنقاض الواقع التاريخ المتحقق أو المروي. أين الحدود؟ أين الحدود التي تفصل التاريخ عن اللاتاريخ، حدثًا وواقعًا، والحدود التي تفصل الخيال السردي الأدبي عن الواقعة المتحققة تاريخيًا؟ يضعنا الذهاب إلى التاريخ دائمًا أمام عقبة كأداء، لا يسهل عبورها بيسر. هناك دائمان تاريخان. الأول التاريخ الموضوعي، الذي يشمل حدوث واقعة ما في زمن محدد وجريان حسي معلوم. الثاني هو التاريخ المروي عن هذا التاريخ. الثاني، كتابيًا أكان أم شفاهيًا، ليس جزءًا عضويًا من الواقعة، لكنه جزء تاريخي أيضًا بحكم الزمن، وجزء تاريخي بحكم صلته التفاعلية، باعتباره حزمة من التصورات السلبية أو الإيجابية عن الحدث التاريخي الفعلي. إنه ردود الفعل البشرية على الحدث، وعلاقة الحدث بالمحيط والبيئة الثقافية والسياسية والاجتماعية التي أنتجته، وصلته بتطور أشكال الوعي الاجتماعي ووسائل بنائه. إن ما نسمِّيه عادة بالتاريخ، هو النسخة الذاتية (فردية أو جماعية) للحدث التاريخي الموضوعي الموجود باستقلال عن الوعي. إنه تاريخ مكمِّل، واستطالة تأثرية بالتاريخ الواقعي. التاريخ التصوري عن التاريخ يتأخر دائمًا عن الأول، لكنه يظل مشدودًا إلى ما حدث بعلاقات شرطية، ضرورية، تتجاوز حدود كونه شاهدًا تدوينيًا صرفًا على ما حدث. ربما يعيد رسم بعض ملامح التاريخ الأول على نحو صادق إلى حد معيَّن، وقد يزيِّفه أو يحرف مساراته، صانعًا تاريخًا ثالثًا أو سلسلة من المرويات التواريخية المتناظرة أو المتقاطعة. الواقعة المتحققة ونسختها التاريخية الإخبارية، وما يرافقهما من أخيلة وحاجات اجتماعية ونفسية وسياسية خفية، تتبادلان دائمًا موقع المرجعية. لكن الأولى، التي تم حدوثها في الواقع، لا تملك المقدرة على الانتقال إلى الوعي التاريخي إلا من طريق الذاكرة السردية العامة. ولا يستطيع أحد احتكار إعادة نقل الحدث الواقعي، بصرف النظر عن الطريقة التي جرت بها روايته كما حدث، وبصرف النظر عن تأويله وتفسيره وتوجيهه إلى هدف معين. أما الواقعة الإخبارية، فهي إعادة إنتاج الحدث سرديًا، وإعادة تأسيس للمرجعية التاريخية نظريًا، ربما تستند إلى أساس حقيقي أو صادق أو مثبت علميًا، لكنها تتحول مع مرور الأيام من كونها مصدرًا من مصادر رواية التاريخي إلى تاريخ مرجعي قائم بذاته، بحكم وجودها في الزمان الماضي وتواتر تداولها، بصرف النظر عن حقيقة انطباقها على التاريخ الفعلي. فهي أيضًا تاريخ، لكنها مروية تاريخية، وليست تاريخًا مرويًا. ربما يكون الاسكتنلندي والتر سكوت (1771 - 1832) المؤسس الحقيقي للرواية التاريخية عالميًا، نموذجًا تقليديًا أوروبيًا، واضح المعالم، يجسد عملية المزج بين التاريخ (الحدث ومروياته التاريخية) والاجتهاد الخيالي، أو الأدبي. مثل هذا المخطط المزجي التاريخي، نجده في أشهر رواياته وأكثرها صلة بالتاريخ العربي، نعني بها ايفنهو (1820) والطلسم (1832)، اللتين بنيتا على قواعد فنية متقاربة: وجود خطين روائيين، الأول عاطفي، شخصي، تشويقي، خيالي، يبنيه سكوت بنفسه، ويجعله مادة ناظمة تربط أطراف الحدث التاريخي، وتدخلها في نسيح الحبكة الروائية. أما الثاني فهو تأريخي، واقعي، متحقق. في الطلسم يتَّحد مساران، يصف أولهما العلاقة العاطفية، المتخيلة، بين فارس اسكتلندي وايديت، الفتاة التي تعود بنسبها إلى سلالة الملك ريتشارد قلب الأسد، بينما يصف الثاني الحملة الصليبية الثالثة، متخذًا من الطبيعة الفروسية لصلاح الدين الأيوبي نقطة ارتكاز لتحليل شخصية ريتشارد وعلاقته بأعدائه وأصدقائه. لا يختلف الأمر كثيرًا في ايفنهو، لكن التباين يظهر جليًا في المساحة المخصصة للمسارين التاريخي والعاطفي. ففي ايفنهو يحتل الجانب التخيلي المساحة الكبرى من النص الروائي، إلى الحد الذي يجعل التاريخ عبارة عن إطار زمني ومناخ حضاري، يوثق تقاليد الناس وعاداتهم وأساليب حياتهم. في الحدث العاطفي يكون الفارس ايفنهو عائدًا توًا من فلسطين إلى انكلترا المنقسمة على نفسها، وهو يحمل خبرات الحرب والإدارة السياسية، وجرعة عالية من الوعي المقارن، الذي هو إنتاج التلاقح الحضاري بين شعوب وأديان متحاربة. من يراقب محتوى الروايتين جيدًا يفطن إلى أن سكوت تنبه، بعد انجاز ايفنهو بعقد من الزمن، إلى أهمية العودة إلى حقبة الحروب الصليبية، وإضاءة جوانبها الأكثر إثارة للجدال والخصام. من حسن الحظ أن يكون سكوت قد عمَّق تمرينه القصصي والتأريخي أكثر خلال تلك الأعوام، فقد صدرت الطلسم في العام الأخير من حياة والتر سكوت. لم يزل تأثير رواية ايفنهو كبيرًا في الأدب الأوروبي. يستطيع القارئ أن يجد له امتدادًا مباشرًا في الثقافة الأوروبية عامة. ففي أسوج، نجد آثارها في الختم السابع، أحد أبرز الأفلام التي وضعت انغمار برغمان في موقع العالمية. في فن الرواية نجد هذه الآثار مطبوعة بقوة في شخصية آرن، في الطريق إلى القدس، فارس المعبد، والمملكة في نهاية الطريق، ثلاثية الكاتب الأسوجي جان غيو. وإذا كان تأثير سكوت على برغمان يتوقف عند استلهام عودة المحارب، وإن كان منكسرًا، غارقًا في مشاعر الموت والخيبة والصمت الوجودي، فإن العلاقة بين سكوت وغيو لا تقتصر على عودة الفارس من الحرب، بل تتعداها إلى تصوير تأثير الهزيمة الحربية والصدمات الحضارية، وتأثير صلاح الدين الأيوبي شخصيًا في تغيير مواقف الأبطال ومشاعرهم، وفي مصير الحرب الصليبية ومصير الوعي الأوروبي عمومًا. يستخدم غيو المخطط الوالتري بطريقة مبدعة وبارعة، تجعله يصوغ مسارين أيضًا، شخصيًا، عاطفيًا، يتمحور حول قصة نشأة آرن وغرامه وعقابه، وخط الحرب الصليبية ثم عودته وتوحيد المملكة الأسوجية، التي تقابلها عودة ايفنهو التمهيدية، ثم عودة ريتشارد لتحقيق وحدة المملكة الانكليزية. شغف سكوت العميق بالماضي، وميله القوي إلى التاريخ، كانا سببًا جديًا من أسباب نزعته السياسية المحافظة. لكنه رغم ذلك تحلى بقدر لا يمكن الاستهانة به من الجرأة الفريدة في تصويره الناقد للتمييز الديني وللاحتقار العرقي العميق، الذي خص به اليهود من قبل الأوروبيين عمومًا، والمسيحية الأوروبية خصوصًا. ولم تمنعه نزعته المحافظة أيضًا من تصوير القيم الإيجابية للثقافة العربية. مثل هذه الجرأة نجدها في محتوى ثلاثية غيو أيضًا. بيد أن غيو، الناقد الجريء للثقافة الاستعمارية، والمدافع العنيد عن هوية البشر الإنسانية وحقوقهم، بما في ذلك حق الفلسطينيين في استعادة وطنهم، يصوغ حركة التاريخ الوسيط بعيون معاصرة، ويوظف خبرات القرنين الماضيين السياسية والفنية لمصلحة إنتاج نص يعيد تأسيس التاريخ الأسوجي بطريقة فنية، تستمد من تقاليد الرواية العصرية قوتها ومتانتها. لذلك لا غرابة أن نجده يفتتح رواية فارس المعبد (1999) بسورة الإسراء: "سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير". أما جذور المناخ التاريخي في رواية سكوت فقد نعثر عليها في الأجواء الشكسبيرية التاريخية المبهمة، التي سادت الكثير من مسرحياته، وتحديدًا قصص المغامرات الخيالية، كـ العاصفة. عند تمعن أجواء العاصفة نجد أن التاريخ المبهم كان مناخًا للحدث العاطفي ولسلسلة المفاجآت العجيبة، التي رافقته. تأثير والتر سكوت في الأدب الروائي العربي كان كبيرًا، وربما نستطيع أن نقول إنه كان حاسمًا. فقد تأثر به أبرز رواد الرواية التاريخية العربية، وأحد مؤسسي مرحلة البدايات الروائية العربية، جرجي زيدان (1861- 1914 )، الذي أصدر ثلاثًا وعشرين رواية. ولم يكن تأثير سكوت غب زيدان، كما يحسب كثيرون، محصورًا في استلهام فكرة كتابة التاريخ روائيًا، بل تعداه إلى نواح أخرى، فنية وشخصية وثقافية، أبعد بكثير ممن حدود الريادة الروائية. كان زيدان عصاميًا ناجحًا، بينما كان سكوت خاسرًا كبيرًا، دفعه حبه للأدب والثقافة إلى فقدان الكثير. فقد أصيب مشروعه الطباعي بالفشل، وانتهت مؤسسة نشره بالافلاس. بينما كانت مطبعة "الهلال" مقدمة لصدور واحدة من أشهر مجلات الثقافة العربية "الهلال" في نهاية القرن التاسع عشر. لم يكن زيدان محافظًا على طريقة سكوت، لكنه كان ولوعًا بالتاريخ أيضًا. توجه نحو التاريخ العربي الإسلامي ووضع فيه دراسات رائدة. وهنا تكمن نقطة التقاء مهمة بسكوت، الذي جعله ولعه بالماضي واعيًا تمامًا بما يريد من التاريخ ومن فن الرواية. وإذا كان زيدان يختلف عن سكوت فنيًا في قلة اهتمامه بالتفاصيل البيئية والشخصية، وانشداده إلى الحدث الروائي، فإنهما يتشابهان في البناء العام الروائي، حيث يتخذ زيدان نهج سكوت في التحرك روائيًا بمسارين: تاريخي متحقق وعاطفي متخيل. كان سكوت عارفًا ما يفعل، مخلصًا للروح الاسكتلندية، وكان زيدان مخلصًا للثقافة العربية، شغوفًا بتاريخها، حققت رواياته ريادتين: نشوء فن الرواية العربية الحديثة، ووضع حجر الأساس للرواية التاريخية. لذلك كان سكوت وزيدان متشابهين في أنهما بدءا مرحلة إنهاء سيادة الشعر الأوروبي والعربي، من طريق إشاعة فن القصة بثوبها الشعبي، عزَّزها زيدان عربيًا بظهور مجلة "الهلال" المجددة. *** *** *** |
|
|