|
||||||||||||||||||
| |||||||||||||||||||
|
قلق وغضب في قصص محمد بدر جبور
صدرت للأديب/المهندس محمد بدر جبور مجموعتان قصصيتان: - الكابوس الجميل وتضم العناوين: كركة السعادة، الجائزة، عصفورية، الأذناب المقطوعة، الكابوس الجميل، الاختيار. - الإيقونة وتضم العناوين: الجقل الرمادي، قيامة مبكرة، أولاد الحسب والنسب، الناطور، الأيقونة، عمود الكهرباء، نهاية أتان، صلاة الغائب. نريد في هذه الإطلالة على القصص إضاءة ما رأينا أنه الخيط الذي يتخلل نسيج القصص ويشبكها سوية، ومن ثم فهي ليست دراسة مفصلة لكل عوالم القصص وما تضمه في ثناياها، بل، ربما هي قَرْعٌ على أبواب هذه العوالم، ألم يقل المعلم الناصري: اقرعوا يُفتحْ لكم. *** "... حين تعبت أمي من حملي، وضعتني فسقطت، وإلى الآن لم أصل إلى قرار". تكثِّف هذه العبارة التي ترد في قصة الكابوس الجميل موضوعة محورية تستبطن أحداث وشخصيات القصص: القلق؛ قلق الوجود والمصير الذي تحجبه لدى الكائن البشري طبقات سميكة من الانشغالات التي تحاول إخماده وإطفاء جذوته كي تتيح للكائن مواصلة وجوده اليومي، لكنه لا يلبث حتى يندفع من أعماق النفس ويتخذ مظاهر شتى. في القصص التي نحل ضيوفًا عليها نلتقي بهذا القلق في تقنيات القصِّ التي اختارها الكاتب وأهمها الانكفاء السردي إلى أيام الطفولة وعوالمها حيث الحرية والانطلاق، وفي استحضار الذكريات بأسلوب وصفي تفصيلي وكأن الكاتب يريد غرسها في كلمات وتعابير وشخوص قصصه خشية أن يمحوها النسيان. ومن تقنيات القص المستخدمة المونولوجُ الداخلي الذي يصير معادلاً فنيًا لما يعتمل في داخل الكاتب من هواجس ومخاوف وأحزان وتوترات تظهر في القصص لتكون كالزبد الذي تقذفه أمواج القلق الهادرة في صدره. يتغيَّا الكاتب استعاراتٍ وصورًا ورموزًا يتلامح قلق الذات فيها. فالنشرة الجوية استعارة لمزاج الكاتب، وتقلبات الطقس تعادل تقلبات مزاجه بفعل اندفاعات القلق. والنعوات، التي يراها على الجدران في كل خطوة يخطوها، تترصد حركته كما يترصد الموت الكائن البشري في وجوده. لكن قلق الذات الوجودي يجد تعبيره أيضًا في الغضب؛ وهو الموضوعة الثانية التي تتمحور حولها شخصيات وأحداث القصص وتعدُّ، برأينا، المفصل الذي يربط بين مستويين: المستوى الذاتي/الشخصي والمستوى الاجتماعي. إن بحث المؤلف عن السكينة والطمأنينة لا يثمر، فالتفاهة والسفاهة والعلل في المجتمع، والانكسارات والاحباطات الجماعية، تلقي بأثقالها على روحه القلقة فلا تجد سوى ثورة الغضب مفرِّجًا عنها. يثور الكاتب على التفاهة البشرية التي تحوِّل المشاعر النبيلة إلى سلعة استهلاكية (عيد الفالنتاين وما يرافقه من سلوكيات دعائية مبتذلة)، أو يغضب من وضع ثقافي همه المظهر لا الجوهر(قصة الجائزة)، ويرثي لمصير طفل ذكي فقير يغيب عن مسرح الزمان بينما يصعد الخشبة زميله الفاشل ابن المختار الذي صار شخصية "مرموقة" لها حراسها (قصة صلاة الغائب). فنيًا، يوظف الكاتب أيضًا التصويرات الكاريكاتورية في قصصه فتصير السخرية والتهكم وسيلتين للتعبير عن الغضب؛ الغضبِ من القبح السائد: مثلاً، صورة عمر بن أبي ربيعة يلوك علكة منطاد، أو الأتان المدللة عند الشيخ رسلان، أو صورة الأذناب المقطوعة... وفي باب السخرية والتهكم يندرج استحضار الكاتب عناصر تراثية سيئة الذكر (حرب البسوس...) وربطها بالحاضر الذي يعيد اجترار الماضي. *** لغة الكاتب أكثر جنوحًا إلى التعبيرات والتشبيهات التقليدية (سهوب نسيت طعم المطر، يأتي على الناس حين من الدهر، الهدوء الذي يسبق العاصفة، أشدُّ وثاق أطرافي، لم تأل جهدًا....)، فكان من الأجمل برأينا الإكثار من التعابير المبتكرة كما في الصورة المبدعة التالية: "انكمشت مثل قطعة بلاستيك دهمها لهب عابر". ونلمح في بعض المقاطع السردية نوعًا من التدخل المباشر في إيصال آراء الكاتب، "نحن أمة تجلد ذاتها كل يوم"، فالأفضل، برأينا، استخدام الصور والمواقف الفنية وسياق الأحداث لإيصال الآراء وليس إعلانها بهذا الشكل المباشر. *** قلق وغضب يتناوبان في قصص محمد بدر جبور، لعلَّ رمزية الجقل الرمادي (ابن آوى) أكثر الرموز بلاغة في التعبير عن هاتين الموضوعتين في المستويين الذاتي والاجتماعي: تدخل الجقلان إلى القرية، ومع مرور الأيام يصير حضورها مألوفًا ومعتادًا... وفي لحظة من الزمان تغدر بديكة القرية وتقطع رؤوسها... الديكةُ التي تبشِّر كل يوم بالفجر والنور تُذبح... وتدخل القرية في زمن الجقلان، فأي مدعاة للقلق والغضب أكثر من ذلك؟! *** *** *** |
|
|
|
