|
الإنسان في ديوان راما عبد اللطيف "إن وصديقها سان"
"راما عبد اللطيف" اسمٌ قد لا يكون معروفًا في عالم الأدب بعدُ، ربما يكتب له أن يلمع في سمائه نجمًا يضاهي في بهائه فينوس، وربما يبقى مغمورًا لحكمة إلهية تعمى عنها عيون البشر، لكنه حسب ما أرى، الأهم من ذلك كلَّه، أن يكتب له الخلود في سِفْر الحياة. وهي أهل لذلك، ذاك أنها المبصرة في دنيا العميان، فما كلُّ من ينظر يبصر، وما كلُّ من وقف على قدمين استحق اسم إنسان. ولو تركنا لفطرتها أن تقودنا أظنها ستصل بنا إلى برِّ الأمان. تقدم لنا راما إبداعها الأول: إن وصديقها سان، الذي وضع على غلافه اسم "شعر" كاصطلاح أو تعبير عن المشاعر، لأنها اختارت أن تقدم كتابها بما ينفي عنه القوالب الجامدة والتصنيف، ما بين نثر وشعر، داعية لرؤياه ومشاركتنا لها به على أنه: "خبز نحن فيه القمح"، "سعادة نحن منها القلب"، "أفكار تسمو بنا نحن منها العقل". دون أن تعنيها "زخرفة وطبع الكلمات بل أن نطبع نحن في الكلمات كلمة أولى". إنها وحق الله فلسفة وحكمة من صغيرة لا يقاس عمرها بعدد السنين بل بأبعاد ما تراه عين القلب التي استعاضت بها عن عينين شاءت الإرادة الإلهية أن تغلقهما لتنفتحا على آفاق أوسع وأرحب. فأي معنى للتحسينات الشعرية والصور البيانية والاستعارات والتشبيهات مهما بلغت روعتها وحرفيتها، إن عجزت عن أن تهبنا استحقاقًا اسم إنسان. لذلك نراها ترفض كلَّ:
إبداع لا يليق به قِدم الوجدان لكنها تعي بالمقابل أن المباشرة قد تُحوِّل النص إلى "خطاب وعظي"، فتسعى إلى انتقاء قالب جمالي للمفاهيم عندها، بشرط ألا يؤثر عليها كمضمون وهو الأهم عندها. وقد أفلحت في ذلك، فجاءت قصائدها بخاصية جمالية تميِّز راما عن سواها، حتى لكأنها تشير إليها، وإن لم ترفق باسمها، وتلك لعمري روعة الإبداع. وإني لأترك دراسة القوالب الجمالية عند راما لأهلها، فما أظنني أصلح لذلك، إذ عميت عيني عنها، حين رحلت عميقًا فيما أرادت أن توصله إليّ، أنا القارئة الظمأى للمعاني المستترة بأثواب الحروف والكلمات، أعرِّيها فأراها كما هي حقيقة، فأحسبني إياها؛ ففي عالم المعاني تنتفي الفوارق لنلتقي معًا في باحة إنسانية واحدة كانت ضائعة منا في خلاف الاختلاف. كبذرة صغيرة ترحل راما في باطن التراب المظلم على مهل، مادَّة جذورها فيه لاقتناص حضرة الماء، حكمة ورؤى وفلسفة، ثم ترسل سوقها إلى الأعلى، ليعرج نحو حضرة الهواء والضياء، فإذا بالورق الخضر يشي بسرِّ الحياة عندها، وإذا بالورد ينبي بلونه وعطره المميَّز عن عالم نوراني تغرق فيه، ووحدها تراه. وما بين النور والظلمة، ما بين الألم والأمل، تبقى موزعة أبدًا، تدخل ظلمة باطنها فترى النور، وتخرج لعالمهم المبهرج الملَّون فترى العتمة، فتنكفئ من جديد على ذاتها، لائذة بالصمت - خير اللغات -، فوحده من علَّمها أبجدية أخرى غير أبجدية الحروف:
إن الكلام أضعف وسيلة للتعبير وما العيب بالكلام بل بأنياب غرزناها به حين:
حملت الكلمات أكثر من طاقتها وهي في ذلك في حنين دائم لا تخبو ناره لتلك الأبجدية الإنسانية المغيَّبة قسرًا وكرهًا:
ليتنا تعلمنا أبجدية النفس ترسم راما في وحدتها صورًا للأشياء كما تشتهي، أو كما ينبغي أن تكون. تحيك في سكينتها ثوبًا أخضرَ شفافًا تخلعه على الإنسان ليكون. لأن حلم الإنسان هاجس يقلقلها، ولا يفتأ يراودها، فتنذر له نبض القلب، وصدق البيان. إنسان جسَّده الإله في مثنوية رائعة كرجل وامرأة لتعبر عنه راما بقصيدة إن وصديقها سان وقد اختارتها كعنوان لديوانها، الذين ما أن تلاقيا حتى كانا "إنسان"، لأنه كما قالوا وتقول: "بأيدينا نكون"، ووفق هذا القانون يقترب سان من إن راجيًا:
لا تبعدي يدك عن يدي قبل أن يمضي العمر:
فالعمر كمشوار دمعة على الخد وهكذا يتعانق الجلال والجمال، لتتحول المثنوية وحدة عن طريق الحب، ولا سبيل سواه، لعمارة هذا الكوكب الجميل بحضرة الإنسان:
هاجس الكبار فيكتب في سفر الخلود ولا يأفل نجمه، وإن أذن الإله برحيل جسده، مادام حضوره قد كان:
رحلة بين كروم الفكر وعبر هذا الإنسان - هاجسها الملحاح - تنشد الحريَّة الحقَّة البعيدة عن الشعارات، عن الدم والبارود، حرية "غير مستعبدة ولا مقعدة":
حرية تعود شاة تغلب السكين حرية تتلخص بتوق واحد:
أريد الركض تدرك راما أن الإنسان جملة تناقضات وأضداد، وأنه وإن كان المبشَّر بالألوهة، والمجتبى المختار كخليفة لله في أرضه، قد نأى عن إنسانيته وتاه عن غايته التي لأجلها خلق، ولأجلها نفخ الله من روحه فيه. وهي وإن قبلت عقلاً بهذه البدهيَّة، وسلَّمت بجدلية صراع الخير والشرِّ، إلا أن قلبها في استنكار دائم لما آل إليه حال الإنسان، فإذ به يتحول إلى ثعبان:
يباغتك ولا غرابة في ذلك فهذا هو الحال الذي ينتهي إليه الإنسان مادام:
الشعور ولأنها أعجز عن رؤية الشرِّ، بكلِّ فنونه وصوره، المستترة حينًا بثوب البراءة والطهر، المقنعة بالكلمات المنمقة، وباقات الوجد، فإنها تحمد الله على كونها كفيفة. ولو أننا تأملنا قليلاً فيما ينطق به قلبها، لذهلنا من تسليم ورضىً تحياه، هذا من جهة، ومن جهة أخرى حكمة يصل إليها أهل الله حين يرون في النقمة نعمة وفي الشر خيرًا، وهو طريق طويل أرى راما قطعته بيسر، واختزلت خطوات كثيرة لتصل إلى تلك الحقيقة في دنيا الوهم.
من حظي أني لا أرى الحقد راما التي لم تقرأ الحقائق في السطور، بل قرأتها في الصدور، وفي القلب - كتاب العارفين - القلب الذي يقول: لا يدفع الشرُّ بالشرِّ، ولا يداوى الظلم بمثله لأنها كارما ترتد إلينا:
عجبي لمن يداوي أجل هي أعمالنا مردودة إلينا، و لحظة نظن أنفسنا انتصرنا، يدوي صوت الكارما صارخًا بأننا سنحصد ثمن ما زرعناه بأيدينا، ألا وهو الموت، إذ لا حياة لقاتل الورود:
من السهل الاستقواء على وردة آه أيتها الصبيَّة... الحرَّة المُحبَّة، لو أن العالم يمشي على أثر خطاك، أو يأخذ من كلماتك الدرر منهاجًا. لو أنه يصغي، لما يتفوه به قلبك الذي آثر أن يرى بعينه لا بعيون الآخرين، وتخطُّه أناملك الغضَّة، التي تتلمس دربها باستشعار واستشفاف عجيبين. لو أنه يخرج لحظة من سعار الدم والدمار، أو من نار الرغبات والشهوات، ليقف بجرأة أمام ذاته متسائلاً: وماذا بعد، إلى أين أمضي، وما حصادي؟؟!! لو يلقي السمع وهو شهيد، إلى الأصوات التي تجود بها الحياة من حين إلى حين. أصوات حكيمة قويَّة وسط ضجيج هذا العالم المنهار، تقول كلمتها وتمضي، علَّ أذن تعيها وتتلقفها بحنوٍّ وشوق ليكون فيها الولادة والخلاص. لكن العالم في شغل شاغل عن تلك الإرادة الحرَّة فيك التي ترفض أن تسلم مركبها لرياح اليأس طويلاً:
وكما أن الطفل لن يملَّ وكطائر النار المنبعث من الرماد، تنهضين من جديد كلَّ مرَّة متحدية:
أيتها اللحظات الخائبة
من عينيَّ وكيف يكبو جوادك، ولا يقوم من جديد، ما دمت آمنت أن بين الأمس واليوم فرق، وبين الحلم والحلم توق، وما من لحظة كأختها في فهرس الوجود، بل هي الحياة في تجدُّد دائم وخلق.
فكلُّ ما في الوجود أو كيف تنكسين رايتك، وأنيسك أدونيس الذي:
في صقيع الوحدة أو كيف يربكك الخطأ، مادام هو كما ترين:
معلم قدير صارم أميّ قلتُ: علميني يا صغيرتي الحبيبة، كيف أقرأ كفَّ الحياة. لقد تشابكت خطوطها، وتمازجت ألوانها، وتقاطعت طرقها. جئتك أميَّة، أتهجى معناها الحقَّ عندك، وأشتمُّ عبق أنفاسك طيبًا وصلاة. لأنك تحاولين التفرُّد في دنيا الاستنساخ، وتجرِّبين التحليق، من بين من هم كالأنعام بل أضلُّ سبيلا. قالت: أمي الوحدة وأبي الصمت، أرضعاني الحكمة ونوَّرا دربي، علماني كيف يذوب الصخر الصلب، بالإرادة والحب، والنجم يُطال، وإذا بالحياة عندي رقعة شطرنج تحيل الألم أمل، وإذا بالنور يشرق من بين سجف العتمة:
عندما يزداد السواد، وكيف لمن لم يتألم أن يصل إلى معنى الحياة:
فقيمة يسوع الناصري ما كانت وكيف لمن لم يتعبد في محراب الجمال أن يدرك الأسرار، أو كيف لمن تجرد من الإحساس أن يأتيه الجمال، فهو حين يأتي:
لا يطرق بابًا وقالت: هل أصغيت أماه يومًا للريح، هل رأيت الفنَّ نشوة روحيَّة، أو كان وقتك عبادة، هل شممت عبير زهرة غاردينيا:
التي مذ حدثتني هل كنت يومًا خيالاً يطير ويطيِّر الدنيا فوق أجنحة اللامعقول، أو أحلامًا تبتدع من الحصاة رفوف أساطير. هل كنت نفسًا تعلو وتخبو، تضحك وتبكي، لتبعث فينا كلَّ يوم إنسانًا جديدًا. هل كنت فكرًا أقلامه من محابر الملائكة، لتدركي كيف بعث الإنسان:
جميلاً، عجيبًا، رائعًا أجل صغيرتي... أيتها القابضة على سرِّ المرأة في وهم التضاد. قد فعلتُ كلَّ ذاك حتى قادتك الصدفة المقصودة إليَّ، فوجدتك مرآتي، تعكسين الكثير مما رأيته بعين قلبي، وتجسدين ببوحك ما أتوق إليه. فدمعتك التي نضجت كحبات الثمر، وانهمرت كالبلور فوق الوجنة، لطالما حاكتها في الصمت دمعتي تفضح غربتي. والوطن الذي عجزتِ عن إيجاد وصف له، وجدتُه في اللازمان واللامكان. وذاك الأخضر الذي افتقدتِه في الغياض، وسألتِ التراب ودروب النهر وخطوات الرجال عنه، دخلتُ باطني لأحياه. والأثر الذي سنتركه سينهض يومًا في ذاكرة كونية حرَّة، تحيا تألق اللحظة دون التفات. وحينها سيعلن على الملأ أننا لم نمت... أننا خالدون، لأننا كنا في الحضارة الحضور. كنت أتمنى أن أفي ديوانك الأول حقَّه، فوجدتني عاجزة عن ذلك، لأن كل قصيدة فيه عالم بحدِّ ذاته، فعلَّ ذلك يجد لي عذرًا عندك. سأبقى صغيرتي... في انتظار نقلة روحية جديدة لك، تتمثل في إبداع أو وحي قلبي آخر. ولك خالص الود وطيب الورد. *** *** *** |
|
|