بيولوجيا العقل: دراسة في طبيعة الظاهرة العقلية بالنسبة لعلمي الحياة والاستعراف

 

إقبال مرشان*

 

لقد أصبحت مشكلة العقل والجسد تحتل موقعًا مركزيًا بالنسبة للنقاشات التي تتناول تموضع الدماغ في هذه العلاقة. وعليه فإن أية محاولة منا لتحديد أطر تلك العلاقة لن تكون واضحة المعالم، إن لم ندرك التاريخ البنائي للدماغ، وجملة الوظائف الحادثة في ظواهر الوعي. وإن كانت تلك المشكلة تضعنا في مأزق نظري، لأن طبيعة ذلك الإشكال فلسفي (وجودي) في ظاهره. فكيف يمكن لنا أن نصوغ تلك التساؤلات الفلسفية دون أن نخل بمعناها وجوهرها، هذا من جهة، ومن الجهة الأخرى نجد أن بحوث الظواهر العقلية أصبح لها اليوم تاريخ من السجلات والكشوف السريرية، والبحوث النظرية.

ويبدو أن كلا الحقلين المعرفيين كان يسعى في درب مختلف، ورغم أن محاولات شتى قد بُذلت من أجل إما: مماهاة الظاهرة العقلية بخواص فيزيولوجية محددة، أو إبدالية كلاً منهما بالأخرى، واعتبار أن كل ما يخص مفهوم العقل مرتبط على نحو وثيق بمضامين وموضوعات ليس لها أساس مادي (فيزيولوجي) بل هي كيانات غير مادية، مبررين ذلك بأننا لا نستطيع تفسير القصدية والحكمة والأمل والإرادة والذات من زاوية النظر المادية. والنظر إلى العمليات الحادثة في الدماغ في بعض الحالات على أنها مرافقة للظاهرة وليست سببًا لها. وهذا يستتبع أن لكل من المشكلتين منهج مختلف في دراستهما.

أما الاختزالية فقد رأت أن إرجاع العمليات العقلية إلى مجموعة من الميكانزمات بين الخلايا العصبية يمثِّل حجر الأساس في جوهر الظاهرة العقلية، وأن فيزيولوجيا المخ هي المنوطة بكثير من حالاتنا الواعية وأحكامنا إضافة إلى مشاعرنا. ويؤخذ على وجهة النظر تلك إشكالان أساسيان:

-        أولهما أن الأحداث العقلية لا ترافقها على الدوام ميكانزمات عصبية محددة، فالكثير من الاضطرابات في الجهاز العصبي المركزي يتم معاوضتها بآليات مختلفة عن الحالة الطبيعية، وذلك لأن الدماغ يمتلك تلك القدرة من الفائض البيولوجي فيه والذي تفعِّله البيئة الخارجية إضافة إلى التكوين النفسي الداخلي.

-       وثانيهما أن تمحور علاقة الذات بالعالم لا يمكن بحال من الأحوال موضعتها بوظيفة فيزيولوجية محددة. فالإنسان بهذا المعنى يتجاوز بما يملك من إرث بيولوجي متطور وثقافي واجتماعي كثيرًا من هذه التحديدات الضيقة.

إن السبب في كثير من هذه السجالات هو محاولة النفاذ إلى سر العقل، السر الذي يبُّز فيه الإنسان سائر المخلوقات الأخرى، والذي به استطاع تجاوز شرطه الحيواني، والذي مكَّنه من البقاء وإنجاز قفزة مميزة على سائر الأنواع البشرية الأخرى، ونقصد هنا (الإنسان العاقل الحديث). وليس الأمر هنا متعلق فقط بما يملكه من حجم الدماغ الكبير، فحجم دماغ إنسان نياندرتال يبلغ حوالي 1300 - 1600 سم3 بينما حجم دماغ الإنسان الحديث لا يتجاوز 1500 سم3. إن الكثير من الدلائل الأنثروبولوجية تشير إلى أن الإنسان العاقل الحديث الذي ظهر قبل نحو 120000 عام، قد احتل الكثير من المناطق التي كان يسكنها إنسان نياندرتال قبله بنحو مئة ألف عام وحتى 30 ألف عام الأخيرة، وتمكَّن بفضل تجهيزه البيولوجي والمورفولوجي (الشكلي)، إضافة إلى امتلاكه القدرة على إنتاج اللغة، والقدرة على التفكير الرمزي، وصناعة أدوات الصيد، ونقل خبرات الأجداد إلى الأحفاد، وظهور ملكات التعلم والابتكار، إضافة إلى كثير من العوامل الأخرى قد شكل تهديدًا اصطفائيًا للنوع نياندرتال.

وإذا كنا اليوم نتساءل عن جوهر هذه المادة الدماغية اليوم، فإننا نحاول سبر السؤال القديم الذي شكل مفرقًا هامًا في تاريخ الفكر البشري.

هل العقل نتاج تفاعل الأجزاء المكونة له؟ أم أن العقل مجموعة من المضامين والموضوعات ذات الصلة بعالم مفارق لوجوده المادي؟ وهو بهذا المعنى يكسب وجودًا خاصًا به، لا نستطيع دراسته هو وتاريخه، إلا من خلال هذا الوجود العقلي.

كيف لنا أن نصوغ علمًا للعقل؟ ما هي المصطلحات والأدوات والنظريات التي تمنحنا فرصة الكشف عن نتاجات العقل كظاهرة الوعي واللغة والحلم والإبداع الجمالي والفكري؟ هل بمقدورنا إنشاء منهج نظري يتمتع بإمكانية اختراق الحدود الفاصلة بين العقل بمفهومه الأونطولوجي (الوجودي) والعقل من حيث أنه عمليات وأحداث وحالات يمكن سبرها بطرائق علمية اختبارية ونظرية...؟

وإذا كانت المعارف العلمية في مجالات شتى تتقارب من أجل الكشف عن سر العقل، فإنها في الوقت ذاته تتدافع حتى يوطد كل نموذج نظري أو اختباري طريقته قي دراسة المسألة. فما يسود اليوم بين البيولوجيين هو نوع من حسد الفيزياء التي أصبحت تنبؤاتها تطال البيولوجيا. إن الكثير من الفيزيائيين اليوم يتنبؤن في تنظيراتهم عن ميكانيكا الكم أن بمقدورها حل لغز العقل. وإذا كان المنهج العلمي قد تجذرت أسسه بفضل نتاجات الفيزياء من عصر النهضة وحتى اليوم، فإن البيولوجيا بفروعها العلمية المختلفة من علم التشريح والفيزيولوجيا (علم وظائف الأعضاء) وحتى هندسة الجينات تشهد تقدمًا مهولاً، يضع الأطروحات الداروينية الأولى في محك الاختبار. فالتطور والاصطفاء نظريتان تم توسيعهما بشكل هائل ليتجاوزا البيولوجيا إلى علم الاجتماع، وحتى الابستمولوجيا (علم المعرفة) وفقًا لتعبير أحد كبار العلماء التطوريين – إرنست ماير – الذي يرى أن نموذج المعرفة التطورية الدارويني أكثر ملاءمة لاستيعاب التغير في النظريات البيولوجية من نموذج الثورات العلمية لدى توماس كون: فالتغير في مجال البيولوجيا يتضمن تنافسًا بين النظريات المختلفة، يتمخض عن انتخاب أكثرها نجاحًا في استيعاب القضايا البيولوجية لتحل محل النظريات غير الناجحة وفقًا لمبدأ البقاء للأصلح.

ما الذي يميز أدمغتنا؟

إن أول ما يلفت انتباهنا لدى دراسة الظاهرة العقلية هو ارتباطها بالدماغ عند الإنسان، فهل هذا التعقيد العصبي الكبير هو المسؤول عن نتاجنا الفكري والعقلي؟ وإذا كان العقل يملك وجودًا خاصًا به، فهل لهذا الوجود صلة بالبنية الدماغية؟ ثم هل يمكننا محاكاة عمل الدماغ لإنتاج آلات ذكية؟ وفي هذا فإن روجر بنروز يقول:

إنه يمكنك محاكاة عمل الدماغ، ولكن المحاكاة لن يكون لها صفات فكرية، فهناك شيء أكثر من الحوسبة في عمليات التفكير، ولا يمكنك محاكاة التفكير الواعي (أو حتى غير الواعي) بواسطة الحاسوب[1].

أما فرانشيسكو فاريلا فيعتقد أن الجهاز العصبي ليس جهاز معالجة معلومات، لأن جهاز معالجة المعلومات يحتاج إلى مدخلات واضحة، بينما للجهاز العصبي إغلاق داخلي، أو عملياتي. إن السؤال المفتاحي هو: كيف، واعتمادًا على الديناميك الداخلي المذكور، يشكِّل الدماغ، أو يكوِّن، الأفكار المناسبة من تفاعلات لا معنى لها؟[2]

لذلك فإن يونغ يقول:

نحن مسوقون إلى التسليم أن الدماغ، نظرًا إلى بنيته، لا يدين بطبيعته الخاصة إلى مجرد التأثير الذي يمارسه العالم المحيط، بل يدين بها أيضًا إلى الصفات الخاصة والمستقلة، صفات المادة الحية، أي إلى قانون يلازم الحياة ذاتها، وينجم عن ذلك أن التكوين الممنوح للعضوية، حصيلة الشروط الخارجية، تحدده بالإضافة لذلك تلك الشروط الداخلية للمادة الحية[3].

إن الدماغ هو كيان حي يعمل على أساس من التفاعلات الكيميائية، حيث إن الإشارات الكهربية تنتقل من خلية عصبية إلى أخرى مجاورة بموصلات عصبية خاصة، ومستقبلات معينة لكل منها. إن الدماغ قائم في وسط سيل من المواد الكيميائية دائمة التغير، سواءً تلك التي تنشأ في داخله، أو تلك المصنَّعة في مكان آخر من الجسم. ويبدو أن السيل الكيميائي يلعب دورًا رئيسًا في تحديد ما إذا كانت خلية عصبية ستطلق إشارة أم لا. وقد تطلق تلك الإشارة عندما يكون للسيل الكيميائي تركيبة ما. ويقول داماسيو:

إن الإشارات العصبية تؤدي إلى نشوء إشارات كيميائية تستطيع أن تغيِّر كيفية قيام العديد من الخلايا والأنسجة بوظائفها (كما بالدماغ) وتغيِّر الدوائر المتحكمة ذاتها التي بدأت الدورة[4].

لكن، كيف يعوِّض الدماغ بطء آلية النبضة العصبية؟ من المعلوم أن (الترانزسيتور) يشغل ويطفأ أسرع بمليون مرة من النبضة العصبية، إلا أن الدماغ يتألف من مجموعات منفصلة من الخلايا العصبية شديدة التخصص، ويعمل الدماغ بـآلية الطرق الكثيفة التوازي massively parallel way، إي أن هناك العديد من القطع المختلفة للصورة تجمع بعضها مع بعض في الوقت نفسه، بحيث أنه على الرغم من أن كل عملية تتم ببطء نسبي، إلا أن ذلك لا يؤثر في سرعة المحصلة النهائية[5].

يرى دانييل دينيت أن الدماغ يشكِّل تدريجيًا صورة تفصيلية للعالم الخارجي مع استمراره في معالجة المعلومات المتواترة. والفكرة هي أن الدماغ يقوم بتحليل أشعث وسريع للمجال البصري مثلاً، ثم بسلسلة من تحاليل أكثر تعقيدًا، منتهيًا بالتحليل النهائي الكامل[6].

ويمكننا أن نميز في الدماغ ثلاثة مستويات عمل على الأقل:

-       أولاً: المستوى الأكثر بدائية – رغم تعقيده البالغ – هو مستوى العصبونات التي يمكن وصف سلوكها على شكل ردود فعل ثنائية (تنشيط-لا تنشيط، نعم-لا... إلخ).

-       ثانيًا: المستوى الأوسط، هو مستوى الفكر المنظم في وحدات جزئية تخصصية تتم فيها عمليات منطقية أكثر تعقيدًا (استكشافات) حول رموز مجردة، ذاك هو المستوى الحوسبي.

-       ثالثًا: المستوى الأعلى، هو مستوى التصورات، وسيرورات القصد الواعي، ككتابة رسالة، أو التأليف الموسيقي، وهما يتطلبان حشد تصورات متطورة[7].

ومن ناحية أخرى يمكننا فهم الدماغ على أنه عضو يوحِّد إمكانات معينة من ردود الفعل نشأت مستقلة عن بعضها البعض، وأصبحت متوفرة في جملة سلوكية فردية مستقلة كاملة، وذلك يشبه الطريقة التي اكتسبت فيها قبل مليارات السنين من هذه الخطوة التطورية – الخلايا البدئية التي كانت عديمة النواة، الوظائف الحاسمة بأن ضمت إليها خلايا متخصصة بصورة مناسبة كعُضيات[8].

وإذا كان الدماغ هو مكون بيولوجي، وإنجاز تطوري، فإنه وثيق الصلة بالتآثرات مع البيئة، فحشده المعلوماتي هو نتيجة تفاعل دائم بين نظامه ونظم العالم المحيط من حوله.

ويجب أن نتذكر أيضًا أن أدمغتنا تُقاس من قبل البيئة. فعندما نرقب زهر النرد، توضع العصبونات لحظيًا في تراكب بين كل التجاورات الممكنة. ولكن أدمغتنا ليست أنظمة مغلقة، فالدم يأتي بالغذاء وينقل الفضلات، وتقوم شبكات العصبونات بإرسال الإشارات إلى بعضها بعضًا. وهكذا يتفكك التحام الحالات الدماغية المتراكبة قبل أن ندركها بوقت طويل. إن انفكاك الالتحام يمنع دماغنا من إدراك هذه التراكبات الطريفة، حيث هناك فقط اختيار واحد أرى فيه الكأس هنا، وهو يكون هنا، وهكذا نكون في حالة واحدة للعقل في فترة واحدة، وحالة العقل تلك ترتبط بحالة واحدة للكون. إنه نوع من عكس المراقب الذي يخلق واقعًا. ويعمل الكون من خلال حواسنا على تعديل السجل في دماغنا. ويمكن أن نقول عن شيء ما إنه موجود فقط عندما نستطيع وضع سجلات مستقرة لذلك الشيء في ذواكر. وهناك شيئان يجب أن يتركا بصمات على بعضهما بعضًا لكي يكونا حقيقيين بالتبادل – نقصد في الكون نفسه. إن انفكاك الالتحام يجعل تبادل المعلومات ممكنًا، ومن خلال المعلومات فقط نستطيع أن نعرف العالم[9].

البنية الشبكية والخلايا العصبية

إن النفاذ إلى لبِّ الظاهرة العقلية سيقودنا إلى أمرٍ لا مناص منه، وهو تشريح الجملة العصبية المركزية، وبنيتها الوظائفية، وهو ما دفع مجموعة كبيرة من علماء الفيزيولوجيا والنفس إلى استقصاء سر الوجود العقلي في المادة السنجابية (الرمادية) للمخ. فهل هناك ما يميز هذه البنية الحية عن غيرها من الأجهزة؟ وهل لتركيبها خصوصية بيولوجية للسيرورات العقلية؟

كما نعلم فإن كرتا المخ تشكلان الجزء الأعظم، وهما المسئولتان عن كثير من الوظائف، ابتداءً من الإحساس والاستجابة اللمسية، وانتهاءً بالذاكرة العاملة والخيال. وتتجعد هاتان الكرتان على شكل أثلام وتلافيف ندعوها القشرة المخية، وهي الأكثر تطورًا لدى الإنسان، حيث أن قشرة المخ لدى الإنسان أكبر بحوالى 3400 مرة مما لدى الفأر، ولكن السماكة لا تختلف إلا قليلاً، ويتراوح سمكها من ميليمتر واحد إلى ميليمترين عند قشرة الفأر، وبين ثلاثة إلى ستة مليمترات في القشرة المخية لدى الإنسان. وتبلغ مساحتها تقريبًا 1400 سنتيمترًا مربعًا.

إن النموذج البنيوي المعقد للقشرة المخية يعد عاملاً أساسيًا في الدراسة الاستعرافية للظاهرة العقلية، وإذا شئنا السير بعيدًا عن أدبيات الفلسفة التي تناولت هذه الظاهرة لردح طويل من الزمن، فإن ذلك يجب ألا يوقعنا في شَرك الوهم بأن لكل سيرورة أو ظاهرة عقلية مجموعة من الآليات أو الميكانزمات العصبية المحددة. وأننا لسنا بصدد تحديد أوالية عصبية محددة لأي من ظاهرات العقل. ويجب أن نتذكر بأن منهجنا هنا هو المنهج الحيوي والاستعرافي لهذه البنية الدماغية.

ونسأل: هل هناك تنظيم ما يحكم هذه البنية من حيث الشكل والوظيفة؟ لقد لاحظ المتخصصون بتشريح الأعصاب أن العصبونات "الخلايا العصبية" في القشرة المخية منظمة في عواميد، وإذا ما وضِعت تحت المجهر فإنها تبدو كسلاسل عمودية من أجسام الخلايا تمر من المادة البيضاء white matter إلى السطح القشري للمخ. وقد رُجحت احتمالية أن تعمل هذه العواميد بوصفها بنى نسقية للقشرة المخية، ورأى بعض من يبنون نماذج من الشبكات المعتمدة على التصور من الأسفل للأعلى أن العمود القشري هو حقًا وحدة نسقية لمعالجة المعلومات[10].

تُرتب طبقات القشرة المخية من 1-6 من السطح الخارجي للقشرة المخية باتجاه الداخل، أي تلتصق المادة البيضاء بالطبقة السادسة. وتتمتع الطبقات بتوزيع مختلف نسبيًا لأنواع مختلفة من العصبونات، ولتلك الواقعة في طبقات مختلفة أنواع مختلفة من نقاط الاتصال من وإلى الأجزاء الأخرى من الدماغ.

إن أكثر أنماط العصبونات القشرية أهمية هو العصبون الهرمي، واسمه مشتق من شكل جسم خليته، فقاعدته العريضة تتجه نحو الأسفل، وقمته في الأعلى. وتمتد تشعبات القمة من معظم الخلايا الهرمية إلى الطبقتين الأولى والثانية، أما التشعبات العصبية القاعدية تمتد نحو الخارج من قاعدة الهرم، والمحور الأساسي للخلية الهرمية يدخل عادة المادة البيضاء، وقد يبلغ طوله عدة سنتيمترات، وقد يمتد إلى منطقة قشرية أخرى، أو إلى المهاد Thalamus، أو إلى مناطق تحت قشرية أخرى. وتساوي نسبة الخلايا الهرمية في معظم أجزاء القشرة حوالى 70% أو أكثر من مجمل العصبونات المتوفرة، ويليها أهمية وفق شروط عددها في القشرة – الخلايا النجمية الشوكية والخلايا النجمية الناعمة.

إن الخلايا الهرمية هي تلك التي تزودنا بنقاط اتصال قشرية-قشرية، في حين أن الخلايا النجمية والشوكية تختلف بنمط نقاط الاتصال التي تشكلها مع العصبونات الأخرى، أما الخلايا الشوكية فهي كمثل الخلايا الهرمية لديها نقاط اتصال مثيرة مع العصبونات الأخرى[11].

يصل الدخل إلى القشرة من المهاد Thalamus بشكل رئيسي في الطبقة الرابعة، والجزء السفلي من الطبقة الثالثة. ويتم استقبال هذا الدخل أساسًا من خلال الخلايا النجمية الشوكية المتمركزة هنا والتي تبث إثارات إلى المناطق الأخرى.

والأماكن التي يتم فيها غالبًا انتقال النبضات العصبية، أو الوصل الكيميائي العصبي بين العصبونات على المشابك العصبونية، يعتبر هامًا وموضحًا لكيفية عمل هذه العصبونات لحظة استثارتها أو تثبيطها، وذلك من أجل بناء خرائط المعلومات في الدماغ وتوفر هذه الإمكانية التطورية في طريقة عمل العصبونات. وهذا العدد الهائل من نقاط الاتصال (المشابك العصبونية) يوفر مجالاً لعمل الدماغ بشكل تكاملي، وتعددًا في طرق معالجة المعلومات إضافة إلى الدور الاقتصادي في استهلاك الطاقة، ونضوج مراحل بنائية في التفكير تختلف عن سابقاتها بتوسع مدى خبرة الدماغ بالتجارب الجديدة، وربما هذا يساعد في تمتع الدماغ المتواجد في وسط معلوماتي دائم التغير على ابتكار استراتيجيات البقاء، ونشوء اتصالات بين عصبوناته، تبرر أن الدماغ والقشرة الدماغية بالخاصة يتمتعان بمرونة كبيرة وانفتاح على العالم الواقعي.

ومن المفيد أن نفكر بالبصر، وأعضاء الحس الأخرى، على أن لها بنية هرمية كتلك التي للغة، ولدينا عدد كبير من الصور البصرية المعقدة (المستوى الأعلى للمعالجة) للأشياء المختلفة التي يمكننا تمييزها بصريًا، كل منها دمجته أنظمتنا الإدراكية من عدد أقل من المكونات البصرية التي تضم الألوان، والأشكال، والحواف، وتلتقط العينان (المستوى الأدنى) السمات البصرية الأساسية[12].

وكما هو معلوم تعالج القشرتان الإبصاريتان الأولى والثانية المعلومات الأولية من أجل خلق الصورة في الدماغ، والتي لن نستطيع من تحديد موضع لها (الصورة) إلا من خلال الشبكات العلائقية بين عصبونات القشرة الإبصارية.

ومن الطبيعي توقع ارتباط تسلسل المعالجة بالبنية الهرمية، وإذا كان الأمر كذلك، فسيكون الاستيعاب عملية من الأسفل إلى الأعلى، من خلال المستويات العديدة. في حين سيكون النشاط–الإثارة عملية من الأعلى إلى الأسفل مرورًا بالمستويات الوسطى إلى أدنى مستوى، حيث يتم نقل التعليمات المفَّصلة إلى العضلات كل بنفسها. إضافة لذلك فإن عملية الكلام، مثلاً، لا تبدأ فقط من المستوى الإشاري، وتتقدم هبوطًا من خلال المستويات حتى الوصول إلى النطق، بل إن هناك تفاعلاً بين المستويات المتجاورة. وعلينا أن نأخذ في الحسبان المعالجة الموازية، فقد وجد علماء الإدراك أن في الإدراك البصري قدرًا كبيرًا من المعالجة الموازية، والحقيقة أن المعالجة موازية هنا، وليست تتابعية – كما هو الحال حقًا في اللغة[13].

وإذا كنا نسعى إلى بناء نموذج لنظامنا العقلي، فإنه لابد من الإجابة عن السؤال التالي: ما هي العوالم التي تتفاعل مع عقولنا؟

دعونا نفرق بداية بين ثلاثة عوالم: أولاً: العالم الحقيقي؛ ثانيًا: النظام العقلي الذي يحاول نمذجة العالم الحقيقي؛ ثالثًا: العالم المُسقط – المُلقى أو المتَصور. إن نظامنا العقلي يزودنا بتمثيل داخلي عن العالم، بعالم أصغر، ولكنه ليس صورة مصغرة عن العالم الحقيقي بالتأكيد، فوظيفته هي جعل العالم المُسقط، حسب وجهة النظر هذه، ليس عالمًا بنفسه. ويمكننا السؤال: هل نملك الحق في اعتبار أن العالم المُسقط مختلف عن العالم العقلي؟

ويمكننا القول إن النظام العقلي باعتباره جزءًا من النظام البيولوجي الذي يحتويه العالم، يتضمنه العالم الحقيقي، إضافة إلى العالم المُسقط (المتصَور). إن دخل النظام العقلي من العالم الحقيقي يأتي على هيئة شكلين مختلفين:

-       التجربة الحسية المباشرة، كما تفسرها الأنظمة الحسية الإدراكية.

-       الكلام غير المباشر، أي الدخل اللغوي.

إن ما نطلق عليه تجربة مباشرة قد يكون مباشرًا فقط وفقًا لشروط أعضاء الحس الخارجية، وفي النظام العقلي تُعالج المعلومة عبر بُنى عقلية – مفاهيمية وإدراكية حسية – تم بناؤها اعتمادًا على التجربة السابقة. إن ما يصل إدراكنا عادة هو نتيجة عدة خطوات من اختيار ودمج ما تم استقباله عن طريق أعضاء الحس. وينتج مما تقدم أن الشيء الوحيد الذي نجربه مباشرة هو نشاطنا العقلي الخاص بنا فقط[14].

وتنطوي استراتيجيات النمذجة الأساسية لعقولنا على أربعة أنواع من التصورات عن العالم، وهذا يعني أن النظام العقلي يفترض وفقًا لمقتضيات طبيعته ما يلي:

1.    وجود الحدود، وهو ما يمكننا من فهم أجزاء من الواقع والتعامل معها على أنها وحدات منفصلة، أو يمكن فصلها.

2.    وجود ديمومة للأشياء.

3.    هنالك فرق أساسي بين الأشياء والعمليات.

4.    وجود أصناف تمثل الأشياء والعمليات والعلاقات.

لذلك فإنه لا يمكن للنظام العقلي أن يعمل بدون مثل هذه التصورات. إنها نتائج صفات الأنظمة المفاهيمية والإدراكية الحسية المزروعة فينا، لذا تكون في كل محاولاتنا الهادفة لفهم أي شيء.

وعليه فإن النظر إلى الدماغ وفق نموذج الشبكة يفرض ما يلي:

هناك ثلاث من طبقات البناء، منها طبقة مخفية (تتوسط الدخل والخرج) على هيئة عدة طبقات في القشرة المخية، ولها القدرة على المعالجة المتعددة المستويات، في كل من قوالبها المتعددة وهناك أمر شائع مطروح في نموذج الشبكة العصبية هو المعالجة من الأسفل إلى الأعلى، والتي تتمثل بوصل كل عقدة في طبقة بكل عقدة في الطبقة الأعلى مباشرة، ولكن ذلك لا يمثل صفة في الشبكات العصبية الحقيقية. ولدى منطقة نموذجية في القشرة المخية ملايين العصبونات، بل وأكثر من ذلك، فإن لكل عصبون عدة آلاف من نقاط الاتصال مع العصبونات الأخرى، ولا يمثل ذلك سوى واحد في المئة من عدد الخلايا في الجوار المباشر، وأقل من ذلك بكثير في تلك المناطق التي تقع في الجوار التالي، والتي تمثل المستويات المجاورة الكامنة في الخلايا الهرمية الوظيفية. وفي هذا السياق يقول جيمس أندرسن:

إن التصور العام عن الشبكة العصبية، والذي يقول بالاتصال الكامل لهو خطأ كبير، يلقي هذا الفرق الأساسي بظلال الشك في محاولات تطبيق أفكار الشبكات العصبية الاصطناعية على النظام العصبي البشري، ولا يمكن لها أن تكون نموذجًا مُرضيًا يعكس صفات النظام العصبي البيولوجي[15].

علاوة على ما سبق فإنه يمكن إيراد بعض الملاحظات حول أنظمتنا العقلية:

أولاً: عقل الإنسان بنَّاء نموذج، يقوم ببناء نموذج عن العالم لنفسه.

ثانيًا: لا تتألف نماذجنا العقلية عن العالم من تمثيلات دقيقة، ولكن من مقاربات ضبابية.

ثالثًا: إن كل أنواع التراكيب التي نفرضها على النماذج العقلية لا تتم إلا على حساب تجاهل وجود بعض صفات الظواهر التي نحاول نمذجتها.

رابعًا: ليس لدى النظام الإدراكي أمكنة كي يخزن الرموز، كتلك المستخدمة في اللغويات التحليلية، أو نماذج الذكاء الصنعي المعتمدة على قواعد، وليس هو بحاجة إليها، لأن معلوماته موجودة في نقاط اتصال الشبكة، ولا يحتاج إلى مكان تخزين سوى الشبكة نفسها.

خامسًا: النظام الإدراكي لا يحتاج إلى قزم صغير لتفسير القواعد، أو التمثيلات الرمزية الأخرى، إنه في جوهره ليس نظامًا رمزيًا، ولكنه نظام يقوم بتفسير وإصدار رموز يستقبلها من العالم الخارجي ويبثها إليه.

سادسًا: لا يحتاج النظام الإدراكي إلى أدوات لتنفيذ مقارنة بين أنواع الدخل التي يستعملها، والتمثيلات الداخلية كي يتمكن من تمييز الأشياء، بل إن تمييز الشيء هو إثارة للعقدة التي تستجيب إليه نتيجة إثارة العُقد التي تستجيب لسماته[16].

ويجب ألا يفوتنا هنا أن النظام العقلي هو نظام حيٌّ، وباعتبار أن الدماغ يشكل منظومة حياتية معرفية بامتياز، فليس من المستغرب أن عالمنا المتَصور-المُسقط يشابه ربما عالمنا الحقيقي، وإذا كان الأمر كذلك فإن البحث في نظامنا العقلي يعني بوجه من الوجوه البحث في الحياة نفسها. والعالم المتصَور-المُسقط هو ذلك النسيج الشبكي الذي نبدعه عندما يتداخل المادي من العالم الحقيقي مع الحياتي لمنظوماتنا البيولوجية، وفي هذه اللوحة عن العالم المتَصور تتقاطع ركائز نظامنا البيولوجي مع ركائز الحياة نفسها، وما نتخيله عن الواقع ليس هو الواقع نفسه، بل مضافًا إليه انطباع العالم الخارجي على شبكة الحياة لأدمغتنا.

شبكات الحياة والمنظومات الحية

ومن هذا فهل العقل هو وجود علائقي في شبكات الحياة؟ إن الإجابة على هكذا تساؤل تفرض علينا البحث عن نموذج الحياة لشبكات خلايانا العصبية، أو أي من الخلايا في النظام الحيوي.

تُرى ما الذي يميز المنظومات الحية، وأولها الخلية؟ إن الخلية تتميز عمومًا بوجود حدود لها (أغشية الخلية)، والتي تفصل الجملة أصلاً عن الوسط المحيط بها. وإن وجود الأغشية هو شرطٌ ضروري لحياة الخلية. فالأغشية ليست هي سمة عامة لما هو حيٌّ، بل تبدي ثباتًا للنموذج التنظيمي في كل العالم الحيِّ. ويضبط الغشاء التركيب الجزيئي للخلية بفضل نشاطه المعقد الجوانب، وبالتالي فهو يحافظ على كيان الخلية. ويبقى فعَّالاً دومًا، فهو باستمرار يفتح ويغلق، مُمرًا بعض المواد إلى الداخل، وتاركًا البعض الآخر يعبر إلى الخارج[17].

إن فهم الشبكة باعتبارها نموذج في التنظيم ملازم لكل ما هو حي أمرٌ تؤكده أن في أي مكان تُلحظ فيه الحياة تكون الشبكات قائمة. ومن طبيعة خلايا الشبكات تشكيل الاستقلاب، أي أنها تتمتع بديناميك خاص بها تمامًا يختلف عن الوسط الخارجي غير الحي (الميت)، وتكمن وظيفة كل مركب من مركبات الشبكة في تشكيل أو استبدال ذاته بمركبات أخرى، بحيث أن الشبكة كوحدة قائمة بذاتها تجدد نفسها باستمرار. وهنا مفتاح التعريف المنهجي للحياة، فالشبكات الحية تخلق نفسها (أو تجدد نفسها) وبالتالي فالشبكات بتعرضها لتغيرات بنيوية دائمة تحافظ على النموذج الشبكي لتنظيمها. وحسب تعبير بيير لويدجي لويزي pier Luigi Luisi "لا يجوز تسمية الحي كمركبة جزيئية منفصلة مهما كانت (بما فيها DNA وَRNA) وإنما كشبكة استقلاب محدودة بالكامل". وبالتالي يعد الصنع أو الخلق الذاتي معيارًا حقيقيًا ودقيقًا للفروقات بين المنظومتين الحية وغير الحية[18].

وبما أن جميع مكونات شبكة الصنع الذاتي يتم إنتاجها من قِبل مكونات أخرى في الشبكة، فهذا يعني أن المنظومة الكلية مغلقة تنظيميًا على الرغم من أنها مفتوحة، إذا ما اعتبرنا دفق المادة والطاقة. يقتضي ذلك أن المنظومة الحية ذاتية الانتظام، بمعنى أن نظامها وسلوكها لا تفرضهما البيئة، بل يتأسسان من قبل المنظومة نفسها، وبالتالي فالمنظومات الحية مستقلة ذاتيًا. لكن هذا لا يعني أنها معزولة عن بيئاتها، بل تتفاعل مع البيئة عبر التبادل المستمر للمادة والطاقة، لكن هذا التفاعل لا يقرر تنظيمها – فهي ذاتية الانتظام. لذلك ينظر إلى الصنع الذاتي على أنه النموذج التحتي لظاهرة التنظيم الذاتي، أو الاستقلالية الذاتية. وهذا هو الفارق الأساسي بين المنظومات البيولوجية والفيزيائية[19].

كذلك فإن البنية والسيرورة مرتبطان على نحو لا فكاك منه في المنظومات الحية إضافة للنموذج على الرغم من اختلافها.

إن المعايير الأساسية للمنظومات الحية كما اقترحت من قبل (فاريلا) وَ(ماتورانا) قد تم تعريفها كما يلي:

-       أولاً: نموذج التنظيم، وهو تشكيل العلاقات التي تحدد الخصائص الأساسية للمنظومة.

-       ثانيًا: البنية، وهي التجسيد الفيزيائي لنموذج تنظيم المنظومة.

-       ثالثًا: سيرورة الحياة، وهي الفعالية المتضمنة في التجسيد المتواصل لنموذج تنظيم المنظومة[20].

لقد نشأ مفهوم التنظيم الذاتي في الأعوام المبكرة للسبرانية، عندما بدأ العلماء بناء نماذج رياضية تمثل المنطق الملازم للشبكات العصبية، حيث قدم كل من عالم الأعصاب (ماكلوش) والرياضي (والتر بيتز) عصبونات تخيلية مثلوها بواسطة عناصر ثنائية مبدلة – أي عناصر تستطيع التبديل بين وضعيتي الفتح ON وَالغلق OFF. وقد نمذجا المنظومة العصبية كشبكات معقدة من هذه العناصر الثنائية. وقد اكتشفوا بعد وقت قصير من الومض العشوائي انبثاق بعض النماذج المرتبة في أغلب الشبكات، على الرغم من أن الحالة الابتدائية للشبكة كانت تُنتقى عشوائيًا، وهذا الانبثاق دُعي حينها التنظيم الذاتي[21] self-organization.

لكن ما علاقة كل ذلك بمسألة الإدراك للنظام العقلي؟ كيف يمكننا موضَعة قضايا كالتنظيم الذاتي، ومفهوم الشبكة بالنسبة للإدراك؟

تقوم نظرية سنتياغو على المطابقة بين عملية الإدراك وعملية الحياة. فالإدراك حسب ماتورانا وَفاريلا هو: النشاط الذي يعد جزءًا من التجدد والحفاظ الذاتي للشبكات الحية بمعنى أن الإدراك هو في الحقيقة عملية الحياة. والنشاط الذهني هو نشاط منظم للمنظومات الحية على مستويات الحياة كافة. ويبدو العقل نشاط ذهني فطري المادة في جميع مراحل الكائن الحي. ويشمل الإدراك كل عملية الحياة بما فيها الإدراك بالحواس والنشاط الانفعالي والسلوك.

ويبدو هنا أن المعرفة وثيقة الارتباط بالصنع الذاتي، وبما أن منظومة الصنع الذاتي تعاني من تغيرات بنيوية متواصلة إلا أنها تحافظ على النموذج التنظيمي ذي الشكل النسيجي، ويتم ذلك بطريقتين:

-       الأولى: يجدد كل كائن حي ذاته باستمرار بقدر ما تنقسم خلاياه، لتنشأ بنيات جديدة، وتجدد الأنسجة والأعضاء دومًا ودوريًا تكونها الخلوي.

-       الثانية: التغيرات البنيوية للمنظومة الحية، تحيط بتلك التي توجِد بنى جديدة، وتقيم صلات جديدة في شبكة الصنع الذاتي، هذه التبدلات لا تحمل طابعًا دوريًا، بل طابعًا تقدميًا. وترتبط المنظومة الحية مع الوسط المحيط بنيويًا، أي تحت تأثير أفعال دورية يُحدث كل منها تغيرات بنيوية في المنظومة. والجملة العصبية تغير من طابع صلاتها نتيجة كل فعل من أفعال الإدراك الحسي، مع أن المنظومات الحية مستقلة ذاتيًا. فالوسط يحرض فقط على التغيرات البنيوية، وهو لا يحدد نوعها ولا يتحكم بها[22].

الإدراك والوعي في المنظومة العصبية

إن مناقشة هذه المسألة تطرح السؤال التالي: ما الذي يحدد عمل المنظومات العصبية؟ تعمل المنظومة العصبية كشبكة مغلقة من التفاعلات، بحيث أن أي تغير في العلاقات التفاعلية بين عناصر محددة ينتج دومًا تغيرًا في العلاقات التفاعلية للعناصر ذاتها، أو في غيرها. ولقد استنتج (ماتورانا) أن التنظيم الدائري للمنظومة العصبية يحدث في كل المنظومات الحية وفق سيرورة سببية مغلقة تسمح بالتغير التطوري للحفاظ على هذه الخاصية، وليس في اتجاه فقدانها. ولقد افترض أيضًا أن المنظومة العصبية ليست منتظمة ذاتيًا وحسب، بل ذاتية الإحالة أيضًا، بحيث أن الإدراك لا يمكن النظر إليه كتمثيل لواقع خارجي، بل يجب فهمه كخلق مستمر لعلاقات جديدة ضمن الشبكة العصبية، ونقول "إن نشاطات العصبونات لا تعكس بيئة مستقلة عن المتعضي الحي، لذلك فهي لا تتيح إنشاء عالم خارجي موجود بشكل مطلق"[23]. ووفقًا لماتورانا، إن الإدراك والاستعراف عمومًا لا يقوم بتمثيل واقع خارجي، بل يواصِف specify واقعًا من خلال سيرورة التنظيم الذاتي في المنظومة العصبية. ووفقًا لذلك أفترض أن سيرورة التنظيم الدائري ذاتها – بوجود منظومة عصبية، أو بدونها – تتطابق مع سيرورة الاستعراف. لذلك فإن المنظومات الحية هي منظومات استعرافية. تسري هذه العبارة على جميع المتعضيات سواءً كانت تمتلك منظومة عصبية أم لا[24].

إذا ما عدنا إلى سؤال حساس عن العلاقة بين العقل والجسد، فإن العقل على الأرجح ليس شيئًا، وإنما عملية (نظرية سنتياغو)، هو عملية إدراك متطابقة مع عملية النشاط الحيوي. أما الدماغ فهو بنية أو تركيبة خاصة، تجري عبرها هذه العملية. وهكذا فالرابطة بين العقل والجسد هي رابطة بين عملية وبنية، وأكثر من ذلك فالدماغ ليس الوحيد من بين هذه البُنى، ففي عملية الإدراك تشارك كل بنية الجسم أو الكائن، بغض النظر عن كونه يمتلك دماغًا، أو جملة عصبية مركزية أم لا. ويمكن اعتبار العقل والمادة ممثلين لمنحيين مكملين لبعضهما البعض، من مناحي ظواهر الحياة، ألا وهما العملية والبنية[25].

ونسأل هل صور تفكيرنا مُجَسدة؟! إننا نميل إلى إقامة الفرق بين "داخل" و"خارج" من خلال العلاقة الفراغية على شكل سعة لها حجم داخلي واحد، وما هو خارج نطاقها. مثل هذه الصورة الذهنية القائمة على الإدراك الحسي لجسمنا بمثابة سعة تبدو الأساس المحدد لنوع المنطق. لنقل أنه بوضع فنجان في جفنة، وإلقاء حبة كرز في الفنجان، هنا نفهم على نحو واضح أنه أصبح لدينا أن حبة الكرز بوجودها داخل الفنجان هي موجودة أيضًا داخل الجفنة. وفي القياس المنطقي في منطق أرسطو التقليدي "كل إنسان فان، سقراط إنسان، سقراط فان"، ويبدو كما في حالة حبة الكرز،يقع سقراط داخل "السعة" (صنف) الناس، والناس – داخل "السعة" (صنف) الفناة. أولاً نقوم بإسقاط الصورة الذهنية للسعات على المعايير المجردة، ومن ثَم نلجأ إلى تجربتنا الجسمية عن السعة لمناقشة هذه السعات. وبعبارة أخرى يبدو القياس المنطقي التقليدي لأرسطو ليس شكلاً للمنطق اللاجسدي (البدني)، ولكنه شيء متأصل في تجربتنا الجسمية. ثم إن بنية جسمنا ودماغنا هي التي تحدد المفاهيم التي نمتلك القدرة على صياغتها، وطرائق المحاججة التي نستطيع اللجوء إليها[26].

كذلك ووفقًا لمقولة الشبكة العلائقية، وعلى المستوى العصبي، فإن الأشياء البصرية تحتاج إلى نقاط اتصال بعُقد في المنطقة البصرية، وتحتاج تلك الخاصة بالأشياء السمعية إلى عُقد من وإلى المنطقة السمعية، وهكذا دواليك. فلمفهوم القطة (مثلاً) نقاط اتصال بصرية، وسمعية وموضعية، ونقاط اتصال بمفاهيم أخرى، تمثل المعلومات حول القطط. وهكذا يتم تمثيل معرفة المرء بالقطط في نظامه المعلوماتي من خلال شبكة صغيرة تتألف في الواقع من مئات أو آلاف العُقد، بما في ذلك شبكة بصرية فرعية للسمات البصرية، وشبكة سمعية، وهلم جرا، مؤسسة بذلك تمثيلاً توزيعيًا متعدد المستويات يتم تماسكه بعُقدة تنسيقية مركزية، وهي تمثيل موضعي نطلق عليه مسمى مفهوم "القطة"، وذلك التمثيل التوزيعي متعدد المستويات، لأن كل عنصر من عناصره يمثل صفة مفاهيمية، أو إدراكية حسية حقيقية. لذلك فإن الانطباع الحالي الذي نمتلكه في إدراكنا الواعي عن مشهد، أو حالة، أو شخص، أو قطة، ناتج عن تمثيل توزيعي واسع لعدة عُقد، عادة من أنظمة فرعية متعددة، واستشارة عُقد المستوى الأدنى هي التي تعطينا تجربتنا الواعية، أما وظيفة عقد المستوى الأعلى، فهي توفير التنسيق بين عُقد المستويات الأدنى، وبالتالي الحفاظ عليها نشطة متناغمة خلال العملية برمتها[27].

إن القدرة على التجريد هي الخاصية الرئيسية للوعي الإنساني، وبسبب هذه القدرة نستطيع، بل ونستعمل، التمثيلات العقلية والرموز والمعلومات. وعلى الرغم من أن البشر يستعملون التمثيلات العقلية والمعلومات، إلا أن سيرورتنا الاستعرافية لا تتأسس عليهما. إن المعلومة شيء موجود هناك يتم التقاطها من قبل الدماغ، لكن هذه المعلومة تكون كمية، فقد تكون اسمًا، أو عبارة صغيرة نجردها من شبكة علاقات كلية، أي من سياق مبطونة فيه ويمنحها المعنى. ونحن نستعمل التجريدات كثيرًا حتى أننا نميل للاعتقاد بأن المعنى يقيم في المعلومة، وليس في السياق الذي نجردها منه[28].

إن ظاهرة الوعي لا يمكن أن تقتصر فقط على تأثيرات آليات الخلايا العصبية لوحدها فقط، بل إنها تنشأ من الديناميك اللاخطي المعقد لشبكات الخلايا العصبية، ولتوضيح هذه الظاهرة يلزمنا توحيد فهمنا لكل من البيولوجيا العصبية وهذا الديناميك معًا[29].

وسنقدم وصفين موجزين لظاهرة الوعي، وأولهما نموذج تونوني وإديلمان، وفيه أن التجربة الواعية تنشأ عندما توحد عملية الإدخال المتكرر، ووفق فواصل زمنية قصيرة نشاط الأقسام المختلفة من الدماغ، ويتولد عن ذلك معقد وظائفي للخلايا العصبية، التي تشكل مجتمعة عملية عصبية موحدة أو "نواة دينامية"، وأن هذه النواة الدينامية ليست شيئًا ولا مكانًا، بل هي عملية تفاعل عصبي متغير، ويمكن لتركيب النواة الدينامية أن يتغير مع الزمن، بحيث يمكن لهذه المجموعة من العصبونات أو تلك في لحظات ما أن تدخل في النواة الدينامية، وبالتالي تساهم في التجربة الواعية، وفي لحظات أخرى لا تدخل فيها، لتشارك بذلك في العمليات اللاواعية، ومن الممكن أن يتغير التركيب الدقيق للنواة الدينامية، المسئول عن تجربة واعية محددة، من فرد إلى فرد، أو من شخصية إلى أخرى[30].

أما النموذج الثاني لظاهرة الوعي يقترحه فرانشيسكو فاريلا، والذي يرى فيه أن الحالات الأولية من الوعي تنشأ بواسطة ظاهرة تجاوبية تُعرف بـالتشبيك المرحلي phase locking أو ضبط الطور، تترابط فيه باحات دماغية مختلفة بطريقة تؤدي إلى قدح جميع عصبوناتها بشكل متزامن، ومن خلال هذا التزامن في النشاط العصبي تشكل تجمعات خلايا مؤقتة، قد تتألف من دارات عصبية مبعثرة على نطاق واسع. ووفقًا لنظرية فاريلا تقوم كل خبرة استعرافية على تجمع خلايا خاص تتحد أثنائه نشاطات عصبية مختلفة كثيرة، وتشكل طاقمًا مؤقتًا، إنما متماسكًا من العصبونات المهتزة – تترافق النشاطات العصبية بإدراكات حسية وانفعالات وذاكرة وحركات جسمية، وهذه الاهتزازات ليست محصورة بالقشرة المخية، بل تحدث على مستويات متنوعة في المنظومة العصبية. ووفقًا لفاريلا، فالخبرة الواعية الأولية والمشتركة لدى جميع الفقاريات العليا لا تتوضع في جزء خاص من الدماغ، كما لا يمكن تعريفها بواسطة بُنى عصبية خاصة، بل هي تجل لسيرورة استعرافية خاصة، أي التزامن المؤقت بين دارات عصبية متنوعة مهتزة على نحو متناغم[31].

على الرغم من أن علماء المعرفة والفلاسفة قد اقترحوا مجموعة طرائق مختلفة لدراسة الوعي، إلا أنه يجب الاعتراف بأن الوعي هو عملية معرفية مولِّدة لفعالية عصبية معقدة، وثانيًا التفريق بين نوعين من الوعي متجليان مع مرحلتين مختلفتين من التنظيم العصبي.

-       أولاً: الوعي الأولي ويكون موجودًا عندما تترافق العملية المعرفية مع تجربة أولية عن الإدراك الحسي والحساسية والانفعالية، وهو خاص بمعظم الثدييات والفقاريات الأخرى.

-       ثانيًا: الوعي من المرتبة الأعلى "الوعي الذاتي"، وهو مفهوم عن ذاته بذاته، ويخص الذات المفكرة والمرتكسة. نشأت هذه التجربة من الوعي نتيجة للتطور، إلى جانب اللغة والتفكير المفهومي، وغيرها من المميزات التي تتحول بكل كمالها إلى وعي إنساني. ويفترض هذا النوع من الوعي الارتكاسي ذلك المستوى من التجريد المعرفي، الذي يتضمن في ذاته القدرة على إيجاد صور خيالية وحفظها، وهو ما يتيح التحديد، وصياغة القيم والقناعات، ورسم الأهداف والاستراتيجيات وبلوغها[32].

والجدير بالذكر أن تطور مجموعات الأحداث عالية التنظيم هو فقط الذي يسمح للعقلية البدائية protomentality أن تصبح على درجة من الوعي المكثف والمتكامل والمترابط. يقول وايتهيد:

تبقى وظائف المادة غير العضوية كما هي بين وظائف المادة الحية، ويبدو أنه في الأجسام الحية يتحقق تنسيق يبرز بعض الوظائف الراسخة في الأحداث النهائية[33].

*** *** ***

الأوان، الثلاثاء 18 تشرين الأول (أكتوبر) 2011


 

horizontal rule

*  طبيب وباحث سوري.

[1]  جون بروكمان، الثقافة الثالثة، ما بعد الثورة العلمية، ترجمة: طاهر شاهين، ديمة شاهين، منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب، وزارة الثقافة، دمشق، ط1، 2009، ص 197.

[2]  المرجع السابق، ص 221.

[3]  إيلي هومبيرت، كارل غوستاف يونغ، الأساسيات في النظرية والممارسة، ترجمة: وجيه أسعد، منشورات وزارة الثقافة. دمشق، بلا رقم، 1991، ص 148.

[4]  جيمس تريفل، هل نحن بلا نظير، ترجمة: ليلى الموسوي، سلسلة عالم المعرفة، العدد 323، يناير، 2006، ص 153، 154، 155، 156.

[5]  المرجع السابق، ص 151.

[6]  المرجع السابق، ص 177.

[7]  فرانسوا دورتييه، الدماغ والفكر، ثورة علوم الاستعراف، ترجمة: محمد الدنيا، منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب، وزارة الثقافة، دمشق، ط 1، 2007، ص 37.

[8]  هويمارفون ديتفورت، تاريخ النشوء، في البدء كان الهيدروجين، ترجمة: محمد كبيبو، دار الحوار للنشر والتوزيع، اللاذقية، ط3، 2008، ص 227.

[9]  جورج جونسون، بحث في نظام الكون، استكشاف للطبيعة البشرية ورؤيتنا للعالم ومكاننا فيه، ترجمة: أحمد رمو، مراجعة: عبد الحميد رمو، منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب، وزارة الثقافة، دمشق،

بلا رقم طبعة، 2010، ص 231، 232.

[10]  م.لامب، أ.د.سدني، الشبكات الدماغية، ترجمة: أ.د. محي الدين حميدي، المراجعة اللغوية: د. محمد فلفل، منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب، وزارة الثقافة، دمشق، ط1، 2009، ص 404.

[11]  المرجع السابق، ص 389، 390.

[12]  المرجع السابق، ص 433.

[13]  المرجع السابق، ص 434، 435.

[14]  المصدر السابق، ص 142، 143.

[15]  المرجع السابق، ص 144، 159.

[16]  المرجع السابق، ص 161، 162.

[17]  فريتيوف كابرا، الصلات المتبادلة الخفية، رؤية جديدة إلى الحياة، ترجمة: د. شريف الحواط، منشورات دار علاء الدين، دمشق، ط1، 2009، ص 20، 21.

[18]  المرجع السابق، ص 22، 23.

[19]  فريتيوف كابرا، شبكة الحياة، فهم علمي جديد للمنظومات الحية، ترجمة: معين رومية، منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب، وزارة الثقافة، دمشق، ط1، 2008، ص223، 224.

[20]  المرجع السابق، ص 215.

[21]  المرجع السابق، ص 116، 117.

[22]  فريتيوف كابرا، الصلات المتبادلة الخفية، رؤية جديدة إلى الحياة، مرجع سابق، ص 26، 27.

[23]  المرجع السابق، ص 50، 51.

[24]  فريتيوف كابرا، شبكة الحياة، فهم علمي جديد للمنظومات الحية، مرجع سابق، ص 133.

[25]  فريتيوف كابرا، الصلات المتبادلة الخفية، رؤية جديدة إلى الحياة، مرجع سابق، ص 53، 54.

[26]  المرجع السابق، ص 82.

[27]  م.لامب، أ.د. سدني، الشبكات الدماغية، مرجع سابق، ص 417.

[28]  فريتيوف كابرا، شبكة الحياة، فهم علمي جديد للمنظومات الحية، مرجع سابق، ص 366، 367.

[29]  فريتيوف كابرا، الصلات المتبادلة الخفية، رؤية جديدة إلى الحياة، مرجع سابق، ص 57.

[30]  المرجع السابق، ص 68، 69.

[31]  فريتيوف كابرا، شبكة الحياة، فهم علمي جديد للمنظومات الحية، مرجع سابق، ص 393.

[32]  فريتيوف كابرا، الصلات المتبادلة الخفية، مرجع سابق، ص 55، 56.

[33]  روجر بنروز، بالتعاون مع أبنر شيموني ونانسي كارترايت وستيفن هوكنج، تحرير: مالكوم لونجير، ترجمة: عنان علي الشهاوي، مراجعة: إيمان عبد الغني عبد الصمد، منشورات كلمة عربية للترجمة والنشر،

الإمارات العربية المتحدة، أبو ظبي، ط1، 2009، ص 170.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود