|
هذا الحكيمُ الذي نحتاج إليه*
عندما أرسلَ ليَ الناشرُ مخطوطَ جان-ماري مولِّر طالبًا إليَّ نصًا بعدَ عشرة أيام كانت ردةُ فِعلي الأولى هي أنْ أرفعَ سماعةَ الهاتف [وأُكَلِّمَه]. فقد كنتُ غارقًا في إحدى الروايات، وأكره العجلةَ في الأمور. ولكنْ كنا عشيةَ عيد العَنْصَرة. وكان من المستحيل الاتِّصالُ بالناشر قبل يوم الثلاثاء. وبما أنَّ غاندي يستهويني وبما أنَّ هناك صداقةً عميقةً يجلِّلُها تقديرٌ رفيع تربطني بجان-ماري مولِّر، أجدُني دون أنْ أدريَ غارقًا في كتابه. ولستُ أدري إنْ كانت الريح العاصفةُ التي كانت تعزِف آنذاك في كروم بوردو Bordelais هي صدىً للعاصفة التي لامسَتْ التلاميذَ المجتمعين من أجل العنصرة، على أية حال فإنَّ قوة المهاتما تتملَّكُني منذ الصفحات الأولى فلا تُفلِتني حتى آخر صفحة. كذلك تكون قدرةُ ذلك اللاعنف الذي يحتاج إليه عصرُنا حاجةً أساسيةً جدًا في الوقت الذي يتخوَّفُ عصرُنا منه. لأنَّ أبناءَ عصرِنا، باستثناء بعض الأشخاص الذين هم من معدِن جان-ماري مولِّر، يبدو أنهم يخشَون مما يمكن أنْ ينقذَهم من الكراهية أكثرَ بكثير مما يخشون من نتائج هذه الكراهية. كما أننا لم نتطرَّقْ بتاتًا عن كثب إلى هذه الكارثة التي يمكن في لحظاتٍ أنْ تُغرِقَ البشريةَ في الدماء، لا بل أنْ تفنيَها. إلاَّ أنَّ هذا هو ما كان يُرعِبُ غاندي الذي كان يعلم أنَّ العنفَ هو مسنَّناتُ آلةٍ لا يمكن لشيء أنْ يسحبَ منها الأشخاصَ الذين تعلقُ فيها أطرافُ أصابعهم. هذه الآلية التي كان الحكيمُ الكبير يتخوَّفُ منها، بدلاً من أنْ تُقدِّمَ لنا راحةً أكثرَ وفرحًا أكبرَ، تُحرِّضُنا كلَّ يوم على صنْعِ أكبر عدد من آلات الحرب التي تزداد إتقانًا وفعاليةً يومًا عن يوم، أيْ تزداد تدميرًا. كلما أجد نفسي أمام الصور الفظيعة لهؤلاء الأطفال المشوَّهين، المُقعَدين، العُمْي، الذين هم ضحايا لِما نسمِّيه بالألغام المضادة للأفراد، أتوجَّه نحو غاندي أُسائلُه: "ماذا عساكَ تقول؟ ماذا كنتَ ستفعل؟" في هذه الساعات من الأزمة السياسية التي يتسايفُ فيها عناترُ جميعِ الأحزاب طيلةَ النهار بحديد الكلام السيِّئ وبناره على موجات جميع التلفزيونات وجميع الراديوَات، كيف لا يفكَّر بنقاء ذلك الذي كان يعرف ثمنَ الحقيقة ويعرف كم كان الفساد والكذب ضارَّينِ؟ للشعوب ذاكرةٌ قصيرة، أيًا كانت هذه الشعوب. وهذه حقيقة لا نفتأ نرددها باستمرار لكنَّ أثرَها على سلوك الجماهير ليس أكثرَ من أثر كأس في البحر المحيط. وسياسيُّونا يتغذَّون من الأكاذيب ويسقوننا منها. فجميع الخطابات مضلِّلة. فلو قرأنا الخطاباتِ التي ألقاها هتلرُ في السنوات التي تَلَتْ استلامَه للسلطة فسنلاحظ – كما لا حظَ أندريه-فرانسوا ﭙـونسيه André-François Poncet، الذي كان آنذاك سفيرًا لفرنسا في برلين – أنَّ كلمةَ "السلام" هي الكلمة الأكثر ورودًا في هذه الخطابات. كانت أوروبا آنذاك تعيش أوقاتًا كانت فيها ذكرى أهوال الحرب الكبرى ثقيلةً جدًا. غير أنَّ المحاربين القدامى الفخورين جدًا بأوسمتهم كانوا يقومون بعرض عسكري أمام النصب التذكارية لقتلى الحرب حيث كان يُقدِّم الجنودُ الشبَّانُ أسلحتَهم. فإذا كان تكريم الضحايا مشرِّفًا فإن تقديم ضحايا المستقبل بخُوَذِهم وأسلحتهم أقل شرفًا. إن المحاربين القدامى، بتواطئهم بمثل هذه المهزلة، يُخِلُّون بواجبهم. كان هناك مع ﺫلك أمثلة كثيرة على عبثية الحروب وشناعتها. أريد أن أَﺫْكُرَ لمجرد الإيضاح الدعوى التي رفعَتْها [شركة] كروﭖ Krupp الألمانية لتجارة المَدافع، على الشركة الإنكليزية ﭭيكرز Vickers التي نسخَتْ، في أوج مَجازر الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، طرازًا لرمانة. وطلبَ كروﭖ شِلِن واحد عن كل أداة تُصنع، أيْ أكثر من مئة وعشرين مليون شِلِن. لكن الوحوش نادرًا ما تأكل بعضَها، فهي تفضل الاتحادَ لمهاجمة القطعان. وقامت الشركتان بتصفية حساباتهما "وديًا": فدفعَتْ ﭭيكرز لكروﭖ من خلال تقديم حزمة من الأسهم لها من إحدى مصانعها الخاصة بالأسلحة. الأرض تمتص دماءَ الأموات بسرعة، أيًا كانت القوةُ التي اجتاحتها أو حررتْها. في الثلاثينيات، قال لنا الأبُ موريس لولون Maurice Lelong في كتابه الشهير Célébration de l’art militaire [الاحتفال بفن الحرب]: "رأى [جان] جيرودو [Jean] Giraudoux [شاعر فرنسي (1882-1944) جُرِحَ في الحرب العالمية الأولى] المرهَفُ الحسِّ وذو المكانة الرفيعة كلاً من ويلسُن Wilson ولُوْيد جورج Lloyd George وكليمَنصو Clemenceau على التوالي ككلب من نوع قَلَطي [ﭙـودل] caniche وككلب من نوع كولي [كلب رعاة اسكتلندي] colley وككلب من نوع درواس dogue. وكانت فترةُ ما بين الحربين في الحقيقة شيئًا مقرفًا." لم يعرفْ حكامُنا أبدًا كيف يستخدمون فترةَ السلام لتعزيز السلام. لأن الطريقة الوحيدة لتعزيزه فعلاً هي تعليمه. هي إدخال بذرته في قلوب أطفالنا ومنحهم وسائلَ زراعتها. وهذا ما سعى غاندي إلى فعلِه. ولأجل هذا كافحَ لُوِي لوكوان Louis Lecoin بأقصى قواه. ولأجل هذا يقوم اليومَ بالعطاء بدون حساب رجالٌ من أمثال جان-ماري مولر أو الرجال الذين أسسوا مَدْرسةَ السلام École de Paix في غرونوبل. لكن غاندي أو لوكوان أو مارتن لوثر كينغ لم يكونوا ليترددوا أبدًا في تعريض حياتهم للخطر. عن المهاتما كتبَ رومان رولاَّن Romain Rolland في رسالة إلى ستيفان زفيغ [زﭭيغ] Stefan Zweig: "أكثر رَجُل حقيقي هو أكثر رَجُل استقامةً." غير أن هذا الكائن النقي جدًا والقريب جدًا من القداسة قد رفضَ أنْ يقابلَه البابا ﭙـيوس الحادي عشر Pie XI. لأنَّ كثيرًا من النقاء يُرعِبُ بلا شكٍّ الأشخاصَ الذين يدركون أنهم لا يمتلكون ما يكفي من النقاء. وكثير من البياض يغيظ الذين تتلوث ثيابُهم بظل الخوف الذي يحملونه في أعماق أفئدتهم. ربما كان البابا يشعر إلى أية درجة كان غاندي يَعْلَم أكثرَ منه كيف يكون أهلاً لِعِظة الجبل [عِظة يسوع لتلاميذه على الجبل]. لأنَّ ذلك الوقتَ كان وقتَ إعدادِ العِدَّة لحربٍ ستجعل أنهارًا من الدم تجري وشلالاتٍ من الدمع تسيل. قرأتُ الكتابَ الرائعَ لجان-ماري مولِّر بارتياح فضلاً عن أنني رغبتُ مئةَ مرة أنْ أعكفَ على حياة غاندي وذلك منذ أكثر من نصف قرن وأنا أكتب وأُقَدِّر العبثيةَ والرعبَ لعمليات قتل لا طائلَ منها والتي استمدَّ منها كثيرٌ من الرجال مجدَهم، ومنذ سنوات كثيرة وخوف الحرب يلاحقني. وإذا تراجعتُ مئةَ مرة فذلك لأنني لم أجرؤْ حشيةَ ألاَّ أحسن صنعًا. خشيةَ ألاَّ أكون أهلاً لمثل هذه القدوة. يأتينا غاندي جان-ماري مولِّر في لحظةٍ ينبغي فيها على جميع العقول النيِّرة وعلى جميع الكائنات الواعية أنْ تنهضَ لتردِّدَ باستمرار هذه الكلمةَ للمهاتما الذي يُعَبِّر فيها عن المعنى الجوهري: "العنف انتحار." اليومَ، قام السحرةُ المبتدئون من بعض العلماء لحساب تجار السلاح ولحساب الحكام بتطوير طريقة لتدمير العالَم. وليس للبشرية من أمل في إنقاذها إلاَّ إذا قبِلَتْ في النهاية بأنَّ فرصتَها الوحيدة في البقاء تكمن في الرفض المطلق لأي عنف. يجب قراءة هذا الكتاب، وليس هذا فحسبُ، بل يجب تأمُّلُ تعاليمِه وتعليمُه في المدارس التي يتكوَّنُ فيها رجالُ الغد، هؤلاءِ الأطفالُ الذين يُبقونهم جاهلين للكارثة التي تتربَّص بهم، هؤلاء الأطفالُ الذين يعلِّمونهم أن الحربَ حتميةٌ وأنها تُـقدِّمُ لهم فرصةَ أنْ يكونوا كبارًا. ترجمة: محمد علي عبد الجليل *** *** *** * تقديم كتاب غاندي المتمرد: ملحمة مسيرة الملح، جان-ماري مولِّر، ترجمة محمد علي عبد الجليل، معابر للنشر، دمشق، 2011.
|
|
|