|
تاريخ الحب... تاريخ المرأة وتقلبات الدين والسياسة
تكمن جماليات كتاب تاريخ الحب للكاتب والباحث الفرنسي سيناك مونكو (1814 – 1871) إلى كونه يربط تاريخ الحب بعنصرين رئيسيين تتشكل في ضوء تقلباتهما سيرة الحياة الإنسانية: المرأة والسياسة. فهو يربط الحب بالمرأة حتى يكاد يكون تاريخ أحدهما هو تاريخ الآخر، ويربط المرأة بالسياسة حتى يكاد أن يكون تاريخ أحدهما تاريخ الآخر، ليصل بنا إلى أن تاريخ الحب هو ذلك التاريخ الذي نعيش أزمنته ووقائعه وأحداثه وحروبه ومنازعاته وتقلباته، حيث يرى أن صلة صميمة "تربط تحولات عاطفة الحب بالتغيرات السياسية وحتى الدينية"، وفي هذا الإطار نحن أمام تاريخ المرأة جارية ومحظية وعشيقة وملكة وسرية ومومسًا، وتاريخ أوروبا العام من العصر الغالي إلى القرن الثامن عشر "عصر النهضة". يتساءل مونكو: كيف لهذه العاطفة الأكثر ارتباطًا بالإنسان أن تساير الأحداث التي تكون غالبًا لامنطقية ومحكومة بالصدفة، والتي تشكل التاريخ بحصر المعنى؟ فهل هذا التوافق هو بسبب تأثير الثورات الاجتماعية والسياسية في الحب أم بسبب تأثير الحب فيها؟ إن الجواب في منظورنا لا يحتمل الالتباس. إن الحب ليس نتيجة، إنه سبب، فرفعة الشعوب تبدأ برفعة الحب مثلما أن انحطاطها يبدأ بذهاب أخلاقها. ويضيف مونكو في كتابه الصادر عن مشروع كلمة إحدى مشروعات هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث: إن الحب هو أول شعور قوي ينمو لدى الإنسان، بل إن من خصائصه أن فترة سطوته تتفق مع عنفوان شباب المرء الذي يشعر به، إننا نحب بشغف قبل أن نعير أدنى اهتمام بالسياسة وبالعلم وبالجدل الديني. لقد اعتمد مونكو في كتابه السرد القصصي مع بعض من التحليلات التي تجمع بين النفسي والاجتماعي، كاشفًا عن بحث دوؤب في أمر الحب، وقد قسَّم الكتاب إلى أربعة أقسام: الحب لدى الغاليين والمسيحيين، والحب في ظل غزو البرابرة، الحب في ظل الشعراء الجوالين "التروبادور والترفار"، والحب منذ عصر النهضة. يشيد مونكو بالمرأة الغالية والجرمانية ويعدد فضائلها وقوتها ووفائها، فالغالية تقف وراء زوجها في المعارك وتحرضه على القتال حتى النصر أو الموت، وهكذا تفعل المرأة الجرمانية تقاسم زوجها ضراءه، لا تكتفي مثلما هو حال المرأة الرومانية بمشاركته عزواته مشاركة معنوية، بل تصحبه فعلاً راجلة أو راكبة عربة مشدودة إلى ثيران ضخام وتشهد معه كل معاركه وتواسيه في ضيقه وشدته. ويضرب مونكو المثل بامرأتين يعتبرهما رمزين رائعين هما الكاهنتين إيبونين وفاليدا، الأولى أحبت سابينوس وكانا معًا يقاتلان سرًا الرومان، لكن سابينوس ينفضح أمره ويضطر للهرب وإشاعة موته، حتى انطلت هذه الشائعة على إيبونين فتمرغت في الأرض وانتحبت وقطعت شعرها حزنًا عليه، حتى أتاها من يخبرها سرًا أن سابينوس حي، ولا تقوى على كتمان لهيب مشاعرها فتلحق به في مخبئه، وتتعدد اللقاءات، وتقرر الذهاب إلى الإمبراطور وسبازيانوس بصحبة حبيبها طالبة عفوه، لكنها تتراجع وتعيش مع حبيبها لمدة تسع سنوات تنجب فيها طفلين وأخيرًا اكتشف أمرهما وحملا مقيدين إلى روما وهناك ارتمت إيبونين تحت أقدام وسبازيانوس، وقالت له وهي تشير إلى طفليها "أيها القيصر لقد أنجبتهما وأطعمتهما في الكهوف حتى أضاعف أعداد المتضرعين تحت أقدامك يطلبون عفوك"، فما كان من الحضور إلا أن أجهشوا بالبكاء، ولكنه ظل على قساوته فأمر بتعذيب سابينوس، لكن ألم التعذيب على شدته لم ينل منه، لقد بدا ضياع آخر فرصة أمل وكأنه يزيدها شجاعة، عندئذ صاحت في وجهه: "اجعلني على الأقل أموت مع سابينوس فوجهك وقوانينك الجائرة أكثر فظاعة ألف مرة من ظلمات القبر. أما فاليدا فهي، كما يقول مونكو، لسان حال الآلهة تشبه دبورة اليهودية وكاليبسو الإغريقية، نموذج للكاهنة القومية التي تصل الوطن الأرضي بالوطن السماوي، أحبت فاليدا سيفيلوس قائد المحاربين وقبل أن تنهار أمام هيجان الأحاسيس وخفقان القلب كان عليها أن تعيش فترة هذيان وجنون تنسى فيها الإله وأنه موجود وأنه هو الذي يرسل الصواعق وأن عباده المؤمنين مستعدون لقتل الكاهنات الكافرات، لقد كان يسري في داخلها ما يشبه قصف الزوابع والعواصف فيصيبها العمى والضلال فتضحي بحياتها في سبيل لذة عابرة وفي سبيل إشباع فضولي. ويتوقف مونكو عند الحب في الإنجيل مؤكدًا أن إعلان الزواج الأحادي وأبدية الزوجية كان أكثر من مجرد تقديس للزواج، لقد كان أجلى تعظيم للحب أوحى به الإله ثم مقاومة الحب الوثني للحب المسيحي، ليصل إلى الحب في ظل غزو البرابرة حيث كشف عن الدور الذي لعبته الأميرة المسيحية بأتهلير الذي كانت قد تزوجت حديثًا من الملك الوثني ملك الكانت وأعظم الأمراء الأنغلوسكسونيين، حيث وفرت على حذر للمبشرين بالتنصير، وعلى رأسهم الكاهن أوغسطينيوس، سلامتهم الشخصية والوسائل الكفيلة بأن ينصروا الذين قدروا على إقناعهم بالمسيحية من أهل بريطانيا، وكذا فعلت المسيحية أتهلبارغ بعد زواجها من الملك أدوين. يقول مونكو: لا تناقض إذن بين مصالح الحب ومصالح المسيحية في بداية غزو البرابرة عدا بعض الاستثناءات. ويصف الحب الإسكندنافي بالحب الصاخب مفسرًا ذلك كان للنبلاء الإسكندنافيين مبادىء تنظم هذه العاطفة، ولا يمكن الزعم بأنها مبادىء مبتذلة، لقد كانت المرأة عندهم شيئًا عظيمًا وقدرها رفيع فاستنكفوا من تملكها وفق شروط الزواج الجرماني المتبعة، فعوض خطفها من أبيها أو وليها وعوض دفع هدية الصباح، كان الرأي الصواب عندهم خطفها بعد قتال ضار وبعد هرج ومرج، لقد كانت الغارات والمعارك الحربية مقدمات ضرورية للأعراس الأرستقراطية، لا ينجز العاشق مآثره الحربية لأجل استرقاق زوجته، ولكن لتخليصها من أبيها وأخوتها الذين يقفون بالمرصاد لحبها، وهكذا يصبح خطفها سببًا لحريتها. وفي المقابل تغدق العذراء ذات الدرع المزهوة بنفسها على خاطفها أعذب المكافآت إعجابًا ووفاء بطوليًا، فكانت تصحبه في كل حملاته الحربية وتشاركه كل مخاطره. وعن الحب والدير يرى مونكو أنه إذا كانت المرأة الملتجئة إلى الدير تكتفي بالعناية بالحب القلبي فإن تطلعات لا تقاوم تدفعها نحو العالم الذي هجرته، إنها تروم استذكار كثير من الأهواء والأسرار الخطيرة ولو لأجل لعنها، يقول: إن الراهبة المحرومة من الحب لا تظل رازحة تحت عبء هذا الهم الذي يرهقها مثل مرض مزمن، بل هي تجد متنفسًا في ما تلاحظه في حياة الآخرين، وهي غير منزعجة من أن تعرض على مرآها مشاهد من تقلبات الدنيا وفوضاها. إن المرأة تحب بقلبها أكثر مما تحب بحواسها فالخيال يلبي في الغالب رغبتها في الحب إلى درجة أنها تنسى الحرمان المفروض على الجسد. ويضيف: كانت المرأة، تلك البائسة المبعدة عن المجتمع والتي تطاردها حسرات لا ترد، تبحث بالتأكيد وربما دون وعي منها عن التشبث بصور ومشاعر ذوابة، إنها تخدع عفتها الظامئة عبر تغذيتها بأوهام خيالها أو ببعض أخبار الفجور التي تأتيها من خارج الدير، تلك الحياة في الدير الطاهرة بطبعها، ولكن المتلهفة جدًا لمعرفة ما يدور في الخارج من حكايات وأحداث، وذاك الامتحان لعالم فاسد ثاو في أعماق المنعزلين، قد شخصا بفعالية في مؤلفات هروزفيتا الراهبة المشهورة في إحدى صوامع الساكس. ويحكي مونكو عن ملوك وأمراء ودوق ودوقات وكهنة وكاهنات فاسدين، يحكي حكاية الملك هيلبيرتك الذي خنق زوجته الملكة من أجل "سرية"، وخيانة الملك كلوتار لزوجته الملكة إنقوند مع أختها، وكذا أبناؤه الذين كانوا على شاكلة أبيهم حيث كانوا يتخذون الزوجات والسريات من كل فئات المجتمع، وإيديت زوجة إدوارد ملك إنجلترا التي كانت تنام إلى جواره دون أن تسمح له بمس جسدها، والكونتيسة الإنجليزية كوفنتري التي توسطت لدى زوجها لمصلحة الرعايا الذين انتفضوا في المقاطعات فعاقبها عقوبة امرأة زانية بأن أمر بأن تركب مطية بعد أن تجردت من كل ملابسها وأن يطاف بها في طرقات المدينة. ويتوقف مونكو ليقول: هذه الشهوانية الممزوجة بالشراسة ليست حكرًا على الملوك فقد أبدى أتباعهم استعدادًا ليكونوا نظراءهم في الأمر بل تفوقوا عليهم أحيانًا. ثم يحكي مونكو حكاية دوق روشينغ: كان أقوى أسياد أوسترازيا يتلهى بحرق أفخاذ جواريه المسكينات بواسطة شمعة يشعلها ويطفؤها بين أفخاذهن العارية، وكلما كن يتلوين من ألم الحروق البليغة كان يطرب لذلك، وبالإضافة إلى ذلك كان لدى هذا السيد الإقطاعي الكثير من الفطنة ليمارس اللعب بالكلمات فلما تجرأ شاب وشابة يعملان في مزرعته على أن يتزوجا دون إذنه استشاط غضبًا، ومع أنه قدم لأحد الكهنة ضمانًا بأن لا يفرق بينهما فقد زوجهما على طريقته الخاصة إذ دفنهما حيين في نفس القبر.
إن الكثير من الحكايات والنماذج التي يقدمها مونكو في كتابه تتميز بالتنوع والثراء على بساطتها، ليس لكونها تغطي عصورًا حديثة وتمتد لتطال شعوبًا كثيرة من غاليين وجرمانيين مسيحيين وبرابرة وعرب ومسلمين وأوروبيي عصر النهضة، ولكن لكونها دالة وتحتمل الكثير من التأويل، من هذه النماذج قصة ابنة الملك سيقور ملك اسكندنافيا التي تدعى ألفيلد: كانت ألفيلدا على قدر من الشجاعة والعفة، وكانت تظهر دائمًا للعامة متشحة بحجاب، وقد عهدت بحمايتها الشخصية إلى محاربين اثنين يتم اختيارهما من بين أشد محاربي المملكة، ثم إن والدها الملك أشاع في من حوله أن البطل الذي يروم حطبة ابنته أن يصرع أولاً حارسيها الاثنين، لم يقبل التحدي سوى القرصان الشاب آلف، وكان النجاح حليفه، وبعد إنجاز المهمة لم يبق له في ما زعم سوى أن يحضر إلى القصر لينال أرق المكافآت، ولكن العذراء ذات الدرع اشترطت اختبارات إضافية فجمعت وصيفاتها وأعطتهن لباسًا حربيًا واتخذت لنفسها مثلهن وجهزت مراكب واندفعت نحو خليج فلندا على عادة القرصان، لحق بها آلف وأدركها واندلعت بينهما معركة حربية فتصادمت مراكبهما وتشابكت. صعد آلف على سطح سفينتها فحاولت صده وتقاتلا وجهًا لوجه، فعاجلها أحد أصحابه بفأس على رأسها فطارت خوذتها ووقعت على قفاها، ولدى رؤيته وجهها الذي كان ممتقعًا، ومع ذلك لم تفارقها أنفتها، توقف عن مقاتلتها حبًا وإعجابًا. وأخيرًا رضيت أن تكون زوجة أشد المحبين مثابرة. ويحكي أن مدينة مرسيليا الشهير أخذت اسمها من قصة حب أخاذة وشاعرية غاية في النبل والصدق، ففي سنة ستمائة قبل ميلاد المسيح ألقى قارب فوسياني مراسيه قرب إقليم بوش دوي رون على أرض السيقوبريج فاستقبل الملك نان ملك البلاد أولئك الغرباء بكل لطافة الضيافة القديمة، فأقيمت حفلة كبيرة في قصره جمع فيها على مائدة الأكل عددًا كبيرًا من الراغبين في خطبة ابنته التي كان عليها أن تختار بنفسها عريسًا من بينهم. حث الملك نان الفوسيين على الجلوس إلى مائدة العائلة فسارعوا بالقبول. لم تحضر الشابة المسماة جيبتيس أو بيتا الحفل، فقد كانت العادات تحتم عليها ألا تظهر إلا في آخر المأدبة مشهرة بيدها كأس الزواج لتهديه للرجل الذي اختارته زوجًا لها. ولما استحال وجود امرأة بلا فضول وبلا حب اطلاع، علينا أن نفترض أن بيتا قد اختلست النظر إلى المأدبة حتى تقرر في النهاية اختيار الرجل الأجدر بحبها والأكثر وسامة من بين المدعوين ومن ثم الأجدر بأن يكون زوجها. إن الطريقة التي انتهى بها الحفل تؤكد هذه الفرضية فعندما بانت "بيتا" لم تهد الكأس التي كانت تشهرها إلى شاب سيكوبريجي من أبناء جلدتها وإنما أهدته إلى زعيم الغرباء، إلى أوكسان الفوساياني الذي كان في زيارة لتلك البلاد لأول مرة في حياته، ولم يلبث أن أثار ذلك الاختيار غير المنتظر أقاويل غليظة تهامس بها المرشحون السابقون، ولكن الشابة الغالية تمسكت بحقها الذي تحميه الآلهة، رغم أن القوانين تعاقب عليه. احترم الأب قرار ابنته فما كان من المرشحين الخاسرين إلا أن امتثلوا له، وهكذا تزوجت بيتا أوكسان فسماها ارستوكسان ومعناها في الإغريقية "أكثر الضيفات رشاقة"، ثم استقر بصورة نهائية في أفضل ولايات والده، وهكذا أسست مدينة ماسالي نزولاً عند رغبة شابة كانت متعجلة نوعًا ما في اتخاذ قرارها. ومن قصص الطريفة ما يحكيه عن تجرأ أرسطو على إنكار حب الكسندرا "الحسناء الهندية" فأقسمت أن تنتقم منه لتنكره لحبها: نزلت إلى الحديقة في زي شفاف وخفيف، كان المناخ الحار قد سوغ لباسه. شاهدها أرسطو وهي تقطف الزهور وسمعها تنشد أغانٍ غاية في الإغراء. فتن بها واختلجت جميع حواسه، فاهتاج ونزل إلى الحديقة يبحث وينظر ثم أطلق زفرة، وبعد أن أنكر على ملكه جنونه حسده على نعيمه. اقتربت الهندية وسمعت تنهداته، وما باح به ولكنها لم توافق على الإصغاء إليه إلا بشرط أن ينحني على قوائمه الأربع وأن يوضع على ظهره سرج وحول رأسه لجام وأن يجعلها تركبه كما لو كان دابة ذلولا. لقد أضاع الفيلسوف فلسفته وانصاع. وهكذا سعد الحسناء بأن عرضت على الملك وأعوانه المشدودين إلى فرادة المشهد، الفليسوف عدو المرأة ساعيًا إلى اللذة الحسية وقد مُسخ دابة، وحتم المثل الفلسفي بالقول: حقًا إن الحب يولد سريعًا وينتصر سريعًا على مدى الوجود. *** *** *** إيلاف، الخميس 2 ديسمبر 2010 |
|
|