قراءة وتأويل لقصائد أسعد الجبوري الأيروسية
الجسد في معصرة الوعي

 

رياض عبد الواحد

 

تأصيل نظري

الكتابة الأيروسية مأخوذة من الإله الإغريقي "أيروس"، وهو إله الرغبة والحب والخصوبة. أما اللفظة الانكليزية المشتقة  من "أيروس" فهي إيروتك، وتعني المثير للشهوة. ثمة فارق بين كلمتي أيروسية وإيروتيكية؛ فالأيروسية هي التعمق في إظهار المشاعر من دون التطرق إلى العملية الجنسية، أما حين يتطرق الكاتب إلى العملية الجنسية فإنَّ كتابته تعد كتابة إيروتيكية. وحين يندفع الكاتب إلى أبعد من ذلك، أي إلى المستوى الإباحي فتعد كتابته كتابة بورنوغرافية. وكلمة "بورنوغرافيا" متكونة من شقين هما: بورن، ومعناها البغي، وغرافيا، ومعناها الكتابة. ولعل الأدباء العرب لم يخوضوا هذا الميدان بسبب من العادات والتقاليد التي تحكمهم وتمنعهم من التصدي لهكذا موضوعات، إلا إن البعض قد خاض غمار التجربة دون الالتفات إلى حسابات الربح أو الخسارة ومنهم على سبيل المثال لا الحصر الروائية السورية سلوى النعيمي في روايتها برهان العسل، والشاعرة اللبنانية جمانة حداد التي أصدرت مجلة جسد، والشاعر العراقي حسين مردان. إذًا، الاشتغال على ثيمة الجسد الأنثوي ليست جديدة على الأدب العربي بوجه خاص والعالمي بوجه عام إلا أن الجدة هي في مسلك التناول وطريقة التعامل مع جسد المرأة.

الدخول إلى القصائد

في قصائده العشر استطاع أسعد الجبوري أن يحشر جسد المرأة داخل معصرة الوعي لتكون منتجاته مرتدية حلة جديدة في مضامينها. ولم يمنع هذا كله الشاعر من معانقة ذلك الجسد بنحو جمالي؛ إذ إنه لم يدع ذاته تتمركز تمركزًا لا مفر منه بل حاول أن يستنطق ذلك الجسد بتوصيفات لا تخلو من الدلالة الجسدية، بمعنى أنه يجتهد في دفع الجسد للكلام نيابة عنه، أي أن يكون الكاشف أو على حد قول جيل دولوز الجسد هو "الكاشف الذي يختفي فيما يكتشفه"، هذا البعد التركيبي المتداخل يستفز الآخر لهذا يحاول الآخر الذكوري أن يدخل من بوابة الجسد، وحين تستقر به الأمور يلعب لعبته لكي يستفز تضاريس ذلك الجسد بواسطة مجساته وما تراكم لديه من الخبرة. إذًا، عملية تعرية الجسد في داخل النص ما هي "إلا تعرية الآخر" بكل محمولاته. يقدم لنا المقطع الأول بعدًا غريزيًا بيد أنه مقموع ومنفصل عن الجسد، إنه يبحث عن فريسته وهو على دارية أن هذه الفريسة ليست سهلة المنال، لهذا يقدم مجموعة من القرابين إمامها قبل أن يصل غاياته لترويض جسد الذات قبل جسد الآخر. إن هذه الرؤية الباطنية لما يعتلج في الذات من تراكمات عاطفية أدى إلى طاقة تراكمية لا يمكن حبسها فهي كالنار في الهشيم. الذات الناطقة، هنا، محروقة لأن الاشتهاء متحقق قبل حصوله بمعنى أن الجسد غائب هنا والعاطفة الشهوانية تلعب على الجسد بالغواية:

حيواني يا غرامي
ستأكل نارا قبل جسدي.

إن زمن الجسد مضمحل في ذلك الوله الحارق الذي يحاول الانفلات من سلطة الشعور إلى سلطة اللاشعور المملوء بغواية الرغبة الجائعة التي تحاول التهام كل شيء.

في القصيدة الثانية يصور الشاعر ذلك الاستيحاش الحاصل بسبب البعد ما بين الجسدين: جسد الأنا الهائجة والجسد المشتهى عبر مجموعة من الأشياء الحسية التي تؤطر مشهد الالتحام، إذ إن الجسد يمثل الحاضنة المادية للذات. ونلاحظ أيضًا تسخير الشاعر للبعد السينمي بواسطة كاميرته (العين) المستندة في إخراج المشهد عبر تقنية متكونة من: كاميرا-العين + ذكريات-فلاش باك، إنه يداخل الشعر مع الفنون الأخرى التي تصور الجسد وتجسد كل طوية فيه. فعملية البعد عن الآخر هي القشة التي تقصم ظهر البعير لأنها تؤجج تلك النيران الزرقاء المستعرة في الداخل.

في القصيدة الثالثة يكون الجسد في حالة مشهدية-طقسية ينفضح فيها المستور، إنها لحظة الانفلات بواسطة التعري الكاشف عما هو مستور، ولعل كشف ذلك المستور يشيع في الآخر اطمأنًا وهجوعًا فـ "الوضع الأكثر أيروسية في جسد ما هو حيث ينفرج اللباس" بحسب بارث. هنا نلاحظ أن كشف المستور هو الوسيلة الوحيدة للتحكم في ردود الأفعال، وكأن الجسد العاري هو الفردوس المشتهى لتحقق الوحي الضائع من دونه لا يحصل شيء:

ما دمنا من العراة
أيها الثمل
سأتلو عليك قصائدي حتى تذوب لبومة
أو يمحي كتابي.

إذًا، الجسد هنا ليس مشروعًا فيزياويًا بل هو الملهم الوحيد وهو الذي يمنح الآخر-المغاير إيحاءات ناضجة وطرية.

في القصيدة الرابعة يمارس الجسد لعبة التفكيك، إنه يترك أمكنته الأثيرة ليحلق بعيدًا خارج رؤيته ورؤاه حيال جسد الآخر الذي يمنحه فردوسًا حسيًا بواسطة اللذة المتحققة في مكتنزاته:

الليلة قنص بين طبقات اللحم
العاصفة.

إنه يكور كونه الشعري بما يتخيله من اللحم المكتنز، يضع زمنه داخل زمن جسد الأنثى، وهذا الزمن لا يتحقق إلا بواسطة الغواية المرعية من مجموعة من الاكتظاظات الهائجة القوية-الحراس-الموانع غير المصرح بها والمقموعة بوعي إلا أنها متحركة بإرادة محرضة:

أنا على ظهرك يا حبي
بأجنتي وأجنحتي وطاقم
الحراس.

هذه هي الجهات الساندة في عملية الهجوم التي يسخرها السارد في تحصيل مبتغاه. يلعب التشفير الدلالي لعبة ذكية إذ إنه يمحو المسافات بين المتخيل والمحسوس، بمعنى أن الدلالات ذات إزاحة أفقية فهي تتبعثر لتلتحم ثانية في البؤرة الرئيسة. النصوص العشرة مروية عن طريق راو عليم يعلم ما يقول ويفعل، وإن بدت الأشياء محلقة في عالم الخيال بيد أنها متاخمة للحدث ومخالفة آلية الزمن، فهي تحاول تجسيد أو استنطاق الجسد ومكوناته عبر عملية إضمار الطقس ليتشكل الحلم من الوجود الواعي الذي تعكسه مآلات الآخر كحالة عامة وليست خاصة، بمعنى أن العملية عملية معالجة وردم هوة واستحقاق إنساني. إن هذا القرار تمرد على الموروث – صندوق العادات اليومية – الذي يكبل فعل المرأة باتجاه التمدد على مساحة أوسع من الفعل الإنساني، لهذا يتخذ السارد من الفضاءات المفتوحة مكانا له "الطير، السماوات". ويلعب الفضاء الدلالي دوره في هذه القصائد بواسطة الجملتين الأخيرتين "حضن الزئير، مع السيف نلعب" وهما منتجان حسيان، فالزئير يمثل القوة والعنف وما يوازيه هو عملية اللعب مع السيف الذي بحدوده قد تنتهي الحياة. هذه القسوة متأتية من عملية الخلاص التي تمارسها الأنثى في أحضان الرجل الذي ينظر إليها بمنظار الوجود الأصعب الذي لا يمكن السيطرة عليه بالوسائل الاعتيادية لجسد الأنثى المشتهى، لا يتحصل بالطقوس المستهلكة، فهي في حاجة إلى مفترس قادر على تحطيم الجسد قبل تحطيم التابوات. إنه نوع خاص من الإخصاب الروحي الذي يتجاوز احتمالاتها المتداولة إلى مناف سحيقة زاخرة بما هو حيوي لكنها متهالكة في صياغة عالمها بنحو غرائبي بواسطة مجموعة من الاستحواذات المستوعبة لرغبات الرجل عندما تذوب المسافات ويتحول الجسدان إلى مجموعة تشكلات آدمية تبحث عما يطفئ ظمأها الأبدي.

في القصيدة السابعة يتصاعد الفعل الأنثوي باتجاه موازنة المعادلة، فالسارد يخرج من دائرة المد الذكوري ليضفي على الأنوثة شراستها وبحثها عن شبق يطفئ تلك النيران الزرقاء المشتعلة في شرايينها:

تريده من الضواري
لا من سلالة القناع.

إنها ماسوشية المكبوت الذي يبحث عن اللذة على نحو غير سوي، إنه كشف لجوانية الشعور المكبوت الباحث عمن يمزقه، هذا البحث الشره هو – في حقيقته – محاولة إسكات الشعور الداخلي الذي يطاول عنان السماء، والذي يحرق كل ما هو أخضر من أجل أن يستكين، وهذا لا يتحقق إلا من خلال قوة ضارية تمزق كل ما هو أمامها. هذه اللغة الانفعالية ترفض، في الوقت نفسه، أن تبقى الأنثى في المكان الدوني أو المقام الثاني، إنها تبحث عن منازلة شريفة تملؤها الرفعة في مقارعة الآخر، بمعنى بحثها عن المنازلة أكثر مما تبحث عن الممارسة. في المقطع الثامن تتغير اللغة باتجاه إحلال البدائل والدخول إلى منطقة الطراوة والرقة الأنثوية:

كأنها الريم في تيه
وخلفها شمس لملامسة
أثير يتشكل من مرايا اللحوم.

إن الطاقة التصويرية المبنية على البعد التشكيلي عالية جدًا، فالسطور آنفًا عبارة عن لوحة مرسومة بريشة فنان مبدع، هي لغة أخرى داخل اللغة. فتوصيف الأنثى بالريم يشير إلى الاحتراس الشديد لهذا الحيوان في كل سكناته وحركاته، والشمس أية الكشف عن المخبوء والمستور، وإن تشكل من تلك القطع المتراصة التي تكوِّن ذلك الجسد المكتنز الذي يثير حفيظة الآخر المتلهف للوقوع في الخطيئة من أجل اكتشاف المعرفة، معرفة ما يخبئ الجسد بين طياته.

في المقطوعة الأخيرة يشرأب سؤال المريد عن جوهر القضية المتوزع بين العرش الذي يمثل السلطة والتسلط وبين السفينة-الحاضنة المبحرة في عباب بحر متلاطم من العادات والتقاليد. إن هذين العنصرين بينهما طقوس متخالفة لكنهما يكرسان الوقت والأسلحة المستعملة من أجل سلطة متحركة وغير متوقفة عند حدود، إنها، هنا، السلطة التي تتكسر عند بوابتها كل خداعات الرجل وهي أيضًا المنقذ من الأوحال العالقة في مياه الآخر، والتي تعيق أو تحاول أن توقف هذا الإبحار الروحي الذي تتكسر عنده موجات الانتظار في داخل الرجل من أجل الوصول إلى المبتغى.

لقد استطاع الجبوري أسعد أن يحفر مجراه بخطاب ينكشف على جوانيات الطقوس السرية وأوهام النفس في صحوها وأحلامها بلغة تشكيلية وفائض رؤية حيال أخطر وأعقد مشكلة تواجهها البشرية منذ الخطيئة الأولى التي ما زال ناقوسها يرن في النفوس من أجل احتياج إنساني أو اجتياح شهواني.

*** *** ***

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود