كتاب الفتاة ذات الفستان المرقط للبريطانية بيريل بانبريدج
كتابة عن الحياة تتنكر في زيِّ الرواية

رلى راشد

 

لا ينبغي لأحدهم التقليل من شأن رأسمال السيرة الذاتية، لأنه متشعب ومتضخم ولا ينضب. اقتنعت الكاتبة البريطانية بيريل بانبريدج بأن تجعل المعيش منصة كتابية، وذريعة إلى نصوص زلقة كالزئبق، لا تستسيغ الصيغ السطحية أو الجمل الجاهزة.

تخال روايات بانبريدج بسيطة عند النظر إلى سطحها، في حين يختمر الكثير في العمق، لتخرج قشرة النص زبدًا على غموض. استلهمت الكاتبة الموجودات الذاتية، إلى تسعينات القرن المنصرم خصوصًا، فوقَّعت عناوين أعلنت انحيازها إلى إيجاد معنى لنشأتها. ليفصح رحيلها قبل أكثر من عام عن رواية الفتاة ذات الفستان المرقط غير المكتملة، التي تأتي، للمفارقة، بما يقصر عنه أي مؤلف ختم من دون زغل.

في نيسان كانت الكاتبة البريطانية في عين الاحتفاء. ذلك أن منظمي جائزة "مان بوكر" الأدبية التأموا على فكرة غير مسبوقة لاطلاق امتياز يكرمها. وصلت خمس روايات من رصيد بانبريدج على مر العقود إلى نهائيات الامتياز الرفيع، وفي المرات الخمس حرمت الكاتبة من الفوز فتكرَّس موقعها خاسرة لائقة ووصيفة أولى أبدية. لكن نيسان حمل إلى ذكرى الكاتبة الراحلة خبرًا سعيدًا ردم الإجحاف اللاحق بها عبر إطلاق جائزة "أفضل أعمال بيريل". أخضعت العناوين الخمسة التي بلغت نهائيات "بوكر" لتصويت القراء فاستبقوا رواية المعلم جورجي التي تعود إلى 1998.

الحال أن الاهتمام بأثر بانبريدج التأليفي تخطى هذا العنوان في الآونة الأخيرة، بعدما خرج إلى العلن مخطوط الفتاة ذات الفستان المرقط بالإنكليزية وغير المنتهي. أعدَّ ناشر بانبريدج القديم العهد براندون كينغ روايتها للصدور. لم يزد عليها أي مواد، لكنه سعى إلى لصق المسوَّدات الأولى وحذف التكرار والدفع باستعادة عملية اغتيال السيناتور الأميركي روبرت كينيدي إلى النهاية، طمعًا بأن يؤمِّن معنى لخاتمة العمل. يتصل دفق بانبريدج الروائي الختامي بمطلعه، ذلك أن ثمة توازيًا بينهما، لما في الفتاة ذات الفستان المرقط من إحياء لأسلوب البدايات.

في كتابها تقول هارييت (1972)، تناولت بانبريدج العلاقة الملتبسة بين راوية شابة ورجل مسن فظ، وها إنها تعيد تناول الثنائية عينها وإنما على نحو أقل ضجة وأكثر إبهامًا. تلتحق الشابة روز بقافلة مديدة من البطلات اللواتي سبقنها إلى ملكوت بانبريدج، في موازاة بدء رحلتها عبر الولايات المتحدة الأميركية تاركة خلفها مقعدًا وسخًا في كينتيش تاون في لندن. إنه صيف 1968 ولا تحوي حقيبتها سوى بطاقة سفر بوجهة واحدة وفستان مرقط.

يرافق روز في الانتقال الجغرافي على متن قاطرة من ميريلاند إلى كاليفورنيا، الكهل الأميركي هارولد غراس الملقب بـ"هارولد ابن واشنطن". تعرفت روز إلى هارولد في لندن من طريق أصدقاء مشتركين، وها هما يحاولان تحديد مكان الدكتور فريد ويلر. يتقدم ويلر المسافرين خطوة أو أكثر. يتناهى إليهما أنه يمكث في لوس انجليس ذلك أنه منخرط في حملة بوب كينيدي الرئاسية. تتسع بين المسافرين فسحة من المشاعر الباطنية، تعتبر روز أن ويلر مخلِّص وشبه نبي ومرشد لأنه ساندها في سن الرشد للقفز على تربية بائسة في كنف والدين صارمين. عندما تستعيده، نراه محاطًا بهالة من نور. في حين يكتم هارولد مشاعر حقد إزاء الدكتور ويخفي مسدسًا.

يتنافى ميل هارولد إلى التخطيط المتأني للمسار الذي يسلكانه وتأمين المعلومات التاريخية في خصوص الأماكن التي يجتازانها، مع أفكار روز الواضحة. عندما يسألها إذا كانت تجد الرحلة ممتعة تقول إن المناظر والبلدات تثير فضولها، غير أنها لم تلاحظ إلى أين وصلا لأنها تهتم بما يجري في رأسها فحسب.

لا تفارق روز الكنائس. في وسعها، مثلاً، أن تحضر مأتم شخص لا تعرفه. تقول روز إنه لمثير للضحك أن تكون اعتنقت الإيمان الكاثوليكي بهذه العجالة لتنأى عنه بالسرعة عينها. تظن إيمانها جفَّ "بسبب فريق "بيتلز" والقنبلة الهيدروجينية وإدمان الناس المخدرات، وهو أمر لم يستهوها يومًا. بانبريدج هي الأخرى، اعتنقت الكاثوليكية في يفاعها لتنفذ هذه التجربة إلى تخييلها. غير أن من التسرع الاستنتاج أنها أصدرت روايات كاثوليكية كغراهام غرين. ثمة أمر مكَّار في شأن إيمانها، لأنها لم تصل معه إلى اتفاق تام في وجهات النظر. ليست روز باينبريدج بلا ريب، بينما ثمة احتمال أن يترك القارئ على الرغم من هذا التوكيد، في حيرة في شأن هذه الإشكالية.

نسير إلى متعة قراءة بانبريدج من دون أن يعني ذلك التوصل إلى فهم رواياتها مثلما يجب. يمكن الإطلاع على الفتاة ذات الفستان المرقط وهي الثامنة عشرة في رصيدها التخييلي كموجز لحرفة أدبية متمكنة. تتبع هيكلة متأنية على جري العادة، مع فرق بسيط يكمن في رجوع الكاتبة إلى الجذور في ليفربول، المسقط والمثوى الأخير، تستخدم مواد حياتها المبكرة في المدينة تحت عباءة الحرب العالمية الثانية، لتأتي بتأثير غامر. هل تكرر غوايةُ الجغرافيا وصمَ نصها، مثلما فعلت في عناوين عدة من بينها الخياط، حكاية الحب والجريمة.

تنطلق الفتاة ذات الفستان المرقط (دار "ليتل براون اند كومباني") في زمن قريب من اغتيال مارتن لوثر كينغ جونيور، وعندما تبلغ روز بالتيمور، ثمة أعمال شغب امتدت إلى جميع أنحاء الولايات المتحدة الأميركية. في الطريق تتعرف إلى رجل في إحدى المزارع، تتبادل معه أطراف الحديث. يتراءى لها لطيفًا لتدرك أنه يتحدر من أصول عربية ويدعى سرحان، باسم قاتل روبرت كينيدي. في الطريق أيضًا، تقرر ارتداء فستانها المرقط للقاء الدكتور ويلر. لاحقًا، في أعقاب اغتيال السيناتور كينيدي، تشير بعض التقارير إلى وجود سيدة غامضة ذات فستان مرقط في الفندق حيث اغتيل السيناتور، لم تلبث أن غادرت المكان على نحو مباغت بعد إطلاق النار. لكن تلك القرينة لا تعني شيئًا في منطق القرارات الاتهامية.

تقرن بيريل بانبريدج في مطلع روايتها كل رجل يهتم بنفسه بين طرفين على تناقض: الدراما والممل. في هذا النص البديع يوشك الراوي مورغن على القفز من سطح سفينة "تايتانيك" فيما تؤول إلى الغرق، عندما يتنبه إلى أن حذاءه اليمين لا يزال "مشمعًا على نحو يعجز عن تفسيره". يقف إلى جانبه عند السياج مسافر آخر ينهمك في فرك زجاج نظارته. تكتب بانبريدج: "كانت الليلة هادئة جدًا، والبحر ساكنًا للغاية، وتلك لحظة غير مؤاتية البتة لتقدم الكارثة. حرَّكتُ أصابع يدي المرفوعة كما لو كنا ضيفين في مناسبة اجتماعية". كانا كذلك على نحو غير متوقع. لا تنحصر طقوس الموت بالسفن فحسب وإنما تصير أسلوب حياة كاملاً.

الموت والحياة وجهان لعملة واحدة صرفتها الكاتبة الانكليزية بانبريدج من طريق الرواية وأدب الرحلات والمسرحيات. تحضر فكرة الانطفاء المادي كمسألة اهتمام دائم في نصها، في حين تعتبر التمييز بين السيرة الذاتية والرواية التاريخية، مبادرة خاطئة. تقول: "عندما أنجز رواية أكتب عن حياتي، أكتب سيرة تقريبًا بل ودائمًا. غير أني أحرص على جعلها تبدو كالروايات، فأقحم جريمة قتل أو حادثة موت صوب النهاية".

صارعت بيريل بانبريدج طواحين الداء لانجاز روايتها الوداعية، ولم يسعها قبل وفاتها سوى أن تملي على المحيطين بها، ما يشبه الخلاصة. لحسن طالعنا لم تتم دعوة أحدهم إلى طاولة استنباط الخواتم. ظلَّ النص على سجيته، يقدم إحساسًا مبهمًا على نحو جلي، بقي تمرينًا على صعوبة بالغة، يستحق أن يجد لنفسه مكانًا رحبًا إلى جانب أجمل ما أنجزته الكاتبة.

*** *** ***

النهار

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود