|
الدواسية [التاوية]٭
لقد كانت الكونفوشيوسيَّة هي الديانة الرَّئيسة، النِّظام الاجتماعي الأساسي في الصين. بيد أنَّها لم تكن النظام الوحيد فيها. فتعاليم كونفوشيوس لم تتطرَّق إلى الأسئلة التي أقلقت الإنسان على مرِّ العصور في كل مكان من الدنيا: هل الروح خالدة، وهل ثمَّة حياة أخرى، وما الذي يحدث للإنسان بعد الموت، و...، وكان كونفوشيوس قد قال في هذا الصَّدد: "نحن لا نعرف كنه الحياة، فأنَّى لنا أن نعرف كنه الموت". ومع ذلك كانت شائعة في أوساط الشعَّب دومًا تصوُّرات محدَّدة عن الأرواح، والحياة الأخرى. بيد أنَّ العقلانيَّة الصينية أوقفت امتداد مثل هذه الرؤى، فلم تتحوَّل إلى رؤى رائدة في المجتمع. ويعدُّ الفيلسوف لاو-تسزي [لاو-تسه] أبَ الدَّواسية. وكان هذا معاصرًا لكونفوشيوس. وعلى امتداد تاريخ الصين كله، حتى يومنا هذا، كانت الدوَّاسية تتطوَّر في موازاة الكونفوشيوسية. ولكن هذه الأخيرة كانت دائمًا تشغل المكانة الأولى في الدولة. أمَّا الدَّواسية فلم تسعَ إلى هذا في أيِّ يوم من الأيام. ومع ذلك أثبت أنَّها قادرة أنْ تستمر على قيد الحياة. لقد كان للتعاليم الفلسفية–الدينية الدَّواسية تأثير كبير جدًا على الثقافة الصينية كلها، ثمَّ تجاوزت حدود الصِّين إلى ثقافة بلدان آسيا الأخرى: فيتنام، وكوريا، واليابان. فمدرسة إيزين [الزن] اليابانية مثلاً تكوَّنت من مركَّب تعاليم الدَّاوسيين والتعاليم البوذية الآتية من الهند. وتقوم أفكار الدَّاوسية في أساس الفنون القتالية المعروفة في الشرق الأقصى، مثل الكونفو، والتيتسيزي- شيوان و... على هذه الأفكار نفسها تأسَّست أفكار مدِّ أمد العمر، بل قام عليها أيضًا الطِّبُّ التقليدي الصيني على وجه العموم. وترتبط الدَّاوسية بكثير من العلوم الباطنية: علم التَّنجيم، والسيَّمياء، وعلم الفراسة، والسِّحر. وعرضت أسس تعاليم الدَّواسية في كتاب لاو-تسزي كتاب الطريق والغبطة (داو دي تسزين). ويشغل هذا الكتاب في الدَّواسية المكانة نفسها التي يشغلها كتاب العهد الجديد في المسيحية والقرآن في الإسلام. لقد عاش لاو-تسزي وأبدع في القرن 6 ق.م.. وقد كان ذلك العصر عصرًا مميزًا في تاريخ البشريَّة. ففي العام الي ترك فيه لاو-تسزي الصِّين وتوجَّه غربًا نحو الهند، ولد بوذا. وفي هذا الوقت نفسه كان فيثاغورس يبدع في دول المدن الإغريقية في إيطاليا. وقبل ذلك بقليل ظهرت إبداعات زرادشت العظيم، في المكان الذي تقاطعت فيه دروب حضارات الصيِّن، والهند، والبحر المتوسِّط. وفي العصر نفسه شاعت مواعظ أنبياء التوراة، وحكمة حكماء الكلدانيين. وبعد قليل ظهرت إبداعات سقراط في الغرب، ومو-تسزي في الشَّرق. وقد بشَّر هذا الأخير بالحبِّ الكلي الشامل الذي دخل الدِّيانات والتعاليم الحقَّة كلها. ضف إلى هؤلاء كلهم كونفوشيوس معاصر لاو-تسزي. لقد كانت تلك لحظة ساطعة في تاريخ الجنس البشري، تعرَّض فيها هذا الأخير "لصدمة باسيِّونارية" (= روحانية) تلقَّاها من العقل الكوني (حسب قول ل.ن. غومليوف). ففي وقت تاريخي قصير خرجت إلى الوجود الأفكار الأساسية القادرة على جرِّ البشرية وراءها. وقد حدَّدت تلك الأفكار عمليًّا كل سير العملية التاريخية اللاحقة، وقامت في صلب مختلف الدِّيانات التي نشأت بعد ذلك. ونحن لا نعرف عن مؤسِّس الدَّواسية إلا النذر اليسير. وكلمة لاو-تسزي تعني "الفيلسوف القديم". كما يمكن ترجمتها بمعنى "الطفل القديم". كلنا يعرف عن الأطفال الجدِّيين الذن يدعونهم لذكائهم الشَّديد "بالعجائز". ويبدو أنَّ لاو-تسزي كان طفلاً من هذا النمط أمَّا اللَّقب الحقيقي لهذا الفيلسوف فهو "لي"، واسمه "زي". واستخدم إضافة إلى هذا اسمًا مستعارًا، هو "هاكويان". ويفترضون أن لاو-تسزي ولد في حوالي العام 604 ق.م. وقد عاش والداه في قرية كيكو-زين من دائرة ليي في مقاطعة كوك التَّابعة لمملكة سو التي كانت تقع غير بعيد عن موقع مدينة بكين الآن. وليس معروفًا عمل والدي لاو-تسزي. فالرجل حمل لقب لي انتسابًا لأمه، واختار لقب والده هاكويان اسمًا مستعارًا له. ومما لا ريب فيه أنَّ لاو-تسزي نال قسطًا جيِّدًا من التعليم. وهذا ما يشهد عليه واقع وجوده موظَّفًا في جهاز الدولة (كان ناظر المكتبة الحكومية: الأرشيف). وكتب لاو-تسزي عن نفسه قائلاً: "كثير من الناس يملك ثروات، وأنا لا أملك شيئًا، كأنِّي أضعت كل شيء"، وقال أيضًا: "أنا أوزِّع الحسنات في خوف عظيم". لقد كانت الوظيفة التي يشغلها توفِّر له الموارد الضرورية للعيش. كان لاو-تسزي متزوجًا، وكان ابنه سو يعمل في القوَّات المسلحة، وهي المهنة التي كان الوالد يرفضها على طول الخط. وبعمله ناظر المكتبة الإمبراطورية توفَّرت للاو-تسزي فرصة لا تقدَّر بثمن ليتمِّم معارفه، فالمكتبة كانت أكبر مخزن للكتب في الصيِّن كلها. ويتَّضح من كتابه كتاب الطريق والغبطة أنَّ لاو-تسزي لم يكن راضيًا عن الحكمة العملية لشعبه، لا سيما وقد توفَّرت له إمكانية دراستها بالكامل. وفتحت الخدمة لدى الإمبراطور عيني هذا الفيلسوف على أنَّ السِّياسة عمل قذر. وكانت هذه الحقيقة منصفة في تلك الأزمنة أيضًا، بل في الأزمنة كلها. لقد ترك لاو-تسزي العمل الحكومي وهو في سنِّ النُّضج. وقد برَّر قراره بعدم رضاه عن سير الشؤون الاجتماعية والسِّياسية. فاعتزل وحيدًا في كهف؛ الأمر الذي كان غريبًا بالنِّسبة للصيِّن. وعلى وجه العموم لم يكن لاو-تسزي صينيًّا في أشياء كثيرة. وفي معتزله كرَّس لاو-تسزي حياته للتأمل والتفكير. وخلال السنوات التي صرفها في الكهف فكَّر في أُسُس الدَّواسية وصاغها في كتابه الذي أشرنا إليه أعلاه: كتاب الطريق والغبطة. لقد كتب لاو-تسزي في الكتاب يقول: عندما تتكلل الأعمال بنجاح باهر، ويغدو اكتساب اسم طيِّب حقيقة واقعة، فإن الاعتزال يغدو أفضل تصرُّف. وهذا هو الدَّاو السماوي بعينه. وفي آخر المطاف عزم لاو-تسزي على أنْ يغادر الصِّين، ويترك بلاد البرابرة عبر الحدود الغربية إلى (الهند). ويرى بعض المستشرقين في هذا رمزًا يدلُّ على صلة كتاب لاو-تسزي بالغرب. وترد أكثر المعلومات يقينًا عن لاو-تسزي في كتاب مذكرات تاريخية الذي وضعه المؤرَّخ الصيني الأكبر صيم-تسيان (145-86 ق.م) وجاء فيه: "يظنُّ بعضهم أنَّ لاو-تسزي عاش 160 عامًا، ويظنُّ آخرون أنه عاش 200 عامًا، بفضل حياة البرِّ التي عاشها وفق الدَّاو". وعن المظهر الخارجي للاو-تسزي كتب صيم-تسيان هكذا: "كان لاو-تسزي طويل القامة، وجهه أصفر اللون، حاجباه جميلان، أذناه طويلتان، جبينه عريض، وأسنانه متباعدة وجميلة، فمه مربَّع الشَّكل وشفتاه غليظتان وقبيحتان". وتختلف تعاليم لاو-تسزي (= الدَّاوسيَّة) اختلافًا مبدئيًّا عن تعاليم كونفوشيوس. والواقع أنَّه كان ينبغي أن تختلفا، لأنَّ كلاً منهما عالج موضوعات مختلفة، وميادين مختلفة. فموضوع تعاليم كونفوشيوس، هو الآلام الدُّنيوية أما الموضوع الأساس عند لاو-تسزي، فهو أمداء الروح المشرقة. وبينما توجَّهت تعاليم كونفوشيوس نحو جعل حياة الجماعة، حياة المجتمع أفضل، فإنَّ تعاليم لاو-تسزي، كما تعاليم سقراط، قلبت بمعاكساتها الدَّائمة المدلول البدئي السَّليم، وهزَّت ثوابت التفكير المعتاد المبتذل. لقد سعى لاو-تسزي إلى إخراج الفكر البشري خارج حدود المدلول المعتاد، وفتح المدى الكوني أمامه. ولذلك لا ينبغي أن نعاكس هذا بذاك، إنَّما علينا أنْ نعي أنَّ كلاً منهما يكمِّل الآخر. ومع ذلك فإنَّه لا ضير من أنْ نتوقف قليلاً عند معاكسة لاو-تسزي وكونفوشيوس؛ لا لأنَّ معاصريهما فعلوا هذا منذ آلاف السنين، بل لأنَّ هذه الوقفة تقدِّم لنا فرصة لفهم جوهر تعاليم لاو-تسزي فهمًا أفضل. ثمَّة قصَّة–مثل في الكتاب الصيني القديم ربيع السيَّد ليوي وخريفه، تقول: فقد أحد سكَّان مملكة تسزين قوسه، لكنَّه لم يبحث عنها، وعلل سلوكه هذا هكذا: امرء من تسزين أضاع، وامرء من تسزين وجد، فما الفرق؟! وإذ سمع كونفوشيوس هذا قال: فقط يجب حذف كلمة "من تسزين"، وعندئذ يستقيم الأمر! ولكنْ عندما سمع لاو-تسزي هذا عينه قال: يجب أنْ تحذف أيضًا كلمة امرء، وعندئذٍ يستقيم الأمر! "يبقى كونفوشيوس دائمًا على المستوى البشري العام، فهذا بالنِّسبة إليه هو المستوى الأعلى الممكن، حيث حتى أكثر مفاهيم الجين تجريدًا وسموًّا تنعكس بهيروغليف رمزه المفتاحي الإنسان" (كلمة جين معناها الرحمة). ولكنَّ لاو-تسزي يذهب في المسألة إلى الأعمق، فيرتفع إلى الفكرة النقية، إلى المستوى الذي تجاوز الإنساني نحو الكوني. وفي هذه الحال فإنَّ كل شيء نسبي من الوجهة العملية، فيندغم الاكتساب بالفقدان. ولذلك قال لاو-تسزي: أيتها البليَّة! عليك تستقرُّ السَّعادة. أيتها السَّعادة! أنت تقفين على البليَّة. وقد نقل إلينا مختلف المصادر الصينية القديمة معلومات عن لقاء جرى بين كونفوشيوس ولاو-تسزي. فيروي لنا غي هون مثلاً أنَّ كونفوشيوس أحسَّ بالخزي وكان مشتتًا بعد لقائه مع لاو-تسزي، لأنَّه قابل فكرًا على مستوى أعلى (ويجب أنْ نأخذ بالحسبان أنَّ غي هون كان داوسيًّا). ولكن كونفوشيوس اعترف لأحد تلامذته قائلاً: لقد أدركت أنَّ فكره كالطير يحلِّق في الأعالي. فصنعت من بلاغتي سهمًا لأرمي الطير به، ولكنِّي لم أدركه، فضاعفت بذلك مجده. إنَّ فكره كالأيل تمامًا، كأنَّه الوعل في الأدغال. فأرسلت بلاغتي كلاب مطاردة لتطارد الأيل والوعل، لكنَّها فشلت في أدراكه، ولم تصب سوى العرج. إنَّ فكره كالسمكة في نهر عميق. فصنعت من بلاغتي صنَّارة لأصطاد هذه السمكة، لكني لم أصطد شيئًا، وتداخلت الصنارة في بعضها عقدًا. إنِّي لا أستطيع مطاردة تنين يحلِّق وراء الغيم ويتجوَّل في الصفاء الأعظم. لقد أدركت أنَّ لاو-تسزي هو كهذا التنين! ففغرت فمي دهشة، ولم أستطع إطباق شفتيِّ، وفجأة سقط لساني، وتعكَّرت روحي، ولم أعرف أين يمكث... أمَّا في كتاب صيم-تيسان مذكرات تاريخية، فقد جاء عن اللِّقاء ما يلي: عندما مرَّ كونفوشيوس في سيو، زار لاو-تسزي لكي يسمع رأيه بصدد الطُّقوس. فقال لاو-تسزي له: لاحظ أنَّ الذين علَّموا الشَّعب قد ماتوا وبلت عظامهم، لكنَّ كلامهم لا يزال على قيد الحياة حتى الآن. فعندما تساعد الظروف الحكيم، فإنَّه سيركب مركبة، أما عندما تعاكسه فإنَّه سيمشي على قدميه حاملاً أثقاله على رأسه ممسكًا أطرافها بيديه. وقد سمعت أنَّ التاجر الخبير يخفي بضاعته كأنَّه لا يتوفر على شيء منها. والأمر عينه تمامًا، عندما يتحلَّى الحكيم بأخلاق سامية، فإنَّ خارجه لا يوحي بذلك. ارمِ حكمتك ومعها كل ضرب من ضروب الأهواء، وابقِ على حبِّك لكل ما هو جميل مع ميل نحو الحساسية المرهفة، لأنَّه لا نفع من هذا كله بالنسبة إليك. وهذا ما أقوله لك، وأكثر من هذا لن أقول. وبعد اللِّقاء قال كونفوشيوس لتلميذه حسب ما ورد عند تشجو-تسزي: ... في إدراك الطَّريق كنت كالدودة داخل إبريق مليء بالخلِّ: لو لم يرفع المعلَّم الغطاء لما أدركت الوحدة العظمى للسِّماء والأرض. وغنيٌّ عن البيان أنَّ تشجو-تسزي قد كثَّف الألوان كثيرًا، لأنَّ كونفوشيوس لا يستحقُّ مثل هذا الهوان. ومع ذلك فإنَّ الصورة التي رسمت لكل من الفيلسوفين في هذا اللِّقاء، هي واحدة تقريبًا في كل مصدر: يستوي لاو-تسزي المجلل ببياض الشيب، على القمَّة، وأمامه يقف كونفوشيوس الأكثر شبابًا. وليس هذا مجرَّد عُمْرٍ، أو مشهد من مشاهد الحياة اليومية، إنَّما هذا رمز: سيِّد أكبر، وسيِّد أصغر وضيف. وكان على هذا الرَّمز أنْ يعكس هرم القيم الفلسفية. لقد كان كونفوشيوس يعمل للمجتمع، أمَّا لاو-تسزي فقد وصف هذا المجتمع بأنَّه جمع من "البقر المقدس". ورأى الدولة والرحمة من زاوية مغايرة تمامًا. إنَّ أُسِّ الأُسُس، حسب لاو-تسزي، هو الروح، الأُمُّ الأولى للوجود. فلاو-تسزي يتجوَّل في رحاب خارجية. ووجوده كله ساع نحو ما هو غير معتاد. وقد تأمَّل في الموت عبر صلته التي لا تنفصم عراها مع الحياة. ووضع العدم فوق كل وجود. وبينما يسعى كونفوشيوس إلى تغيير حياة المجتمع نحو الأحسن، في تعاليمه، فإنَّ لاو-تسزي كان بعيدًا تمامًا عن إلقاء أيِّ مواعظ، فلم يكن عنده سوى ثلاثة تلاميذ، ولكنَّ واحدًا منهم فقط كان فالحًا وأخذ عن معلِّمه المعرفة التي تتجاوز الشعور. وقد قامت هذه المعرفة في أنَّ الإنسان كان قادرًا على أنْ يرى ويسمع كل ما في هذا العالم "بغير عينين وأذنين"، وأنَّه "غرق روحيًا في اللاشيء". ونحن كنَّا قد بيَّنا في كتابنا الإله، والروح، والخلود إنَّه تحدث في أثناء ذلك مراجعة مباشرة للمعلومات عبر مقارنتها مع حقل الإعلام الكوني. فتعاليم لاو-تسزي لم تكن معدَّة للنخبة فقط، بل لنخبة النخبة، أي لأولئك الذين كانوا مؤهَّلين لإدراك الغبطة واكتساب نفاذ البصيرة، وبلوغ الحكمة الأبدية، وليس الدُّنيوية. إنَّ لاو-تسزي يرى الأشياء بمقاييس مضاعفة. وهو يرى أنَّنا لا نرى هنا على الأرض سوى الظِّلال، أمَّا الموضوعات نفسها فنحن لا نراها. ونشير في السياق إلى أنَّ سقراط حلَّل مفهوم الظِّلِّ في السياق نفسه. فقد عدَّ أنَّه يمكن مقارنة الإنسان بالجالس في كهف قرب نار بحيث لا أنْ يرى سوى ظلال المارَّة فقط. وليس هذا في الواقع الأمر سوى تقليص لأبعاد المكان الثلاثة إلى بعدين. وعلى هذا المنوال يتَّهم لاو-تسزي كونفوشيوس بأنَّه يحاول أنْ يحكم على الحذاء عندما لا يرى أمامه سوى أثره على الأرض. فتعاليم لاو-تسزي (الداوسيَّة)، هي تعاليم فلسفية عميقة تلامس جوهر العقيدة، وبناء العالم، ومكان الإنسان فيه. لقد رأى هذا الفيلسوف في العالم المحيط به وحدة لا تتجزَّأ، تسير وفق قوانين ثابتة. وكان على يقين راسخ بأنَّ كل ما في هذا الكون الموحَّد العظيم مترابط بعضه مع بعض ومتماثل بعضه مع بعض. وعلى المنوال نفسه جاء بناء المعمورة، والدَّولة، وجسم الإنسان. فجوهر الأشياء كلها واحد، لأنَّ قوانين الكون قطعية، باتَّة في أيِّ نقطة منه. وعليه فليس ثمَّة أهمِّية للزمان، أو لمكان معيَّن في المكان الكوني. ولذلك يجب على المرء الحكيم الذي أدرك هذه القوانين لو إدراكًا جزئيًّا، أنْ يسلك سلوكًا متماثلاً في كل مكان وزمان. ولهذا السبب فإنَّ تعاليم الحكيم لاو-تسزي لا تشيخ، إنَّما معاصرة، بل تقدُّمية أيضًا. واحكموا بأنفسكم: منذ ألفين وخمس مائة عام خلت أدرك لاو-تسزي أنَّ تراكم البشر في المدن عمل مهلك بالنِّسبة للجنس البشري. ورأى أنَّه يجب تقسيم التَّجمُّعات البشرية المهولة (المدن) إلى خلايا صغيرة، ويجب ألاَّ تستعمل في أماكن سكنى الناس أي حيل تقنية. فالإنسان لا يمكن أنْ يعيش سعيدًا إلاَّ في شروط طبيعية بكر نقية، إذ في مثل هذه الشروط فقط يمكن أنْ تسير حياته منسجمة مع الطبيعة، وعندئذٍ سيعود طعام الإنسان حلوًا، وحياته هادئة، وملابسه بديعة بحقٍّ. وتتطهَّر أخلاق الناس وعاداتهم من الكره والعنف. ويغدون سعداء مشرقين كما في الزمن القديم. ولن يكون للأسلحة دور في مثل هذه القرى سوى إبعاد الغواية لاستعمالها. ونحن لن نقول إلى أيِّ حدٍّ يبدو هذا واقعيًا بالنسبة للمجتمع المعاصر، فالإجابة واضحة. وما يبعث في النفس الأسى أنَّه إذا ما عبرت البشرية إلى حضارة جديدة تتوافق قوانينها مع قوانين الطبيعة، فإنَّ ذلك لن يكون إلاَّ عبر هزَّات وكوارث عالمية عميقة. وبعضها واقف الآن على عتبة الباب: تهديم طبقة الأوزون، والعوز المناعي المكتسب (الإيدز). لقد أدرك لاو-تسزي أنَّ ارتقاء الجنس البشري لن يفضي إلى تقدُّم حقيقي، بل على الضِّدِّ من ذلك، سيدفع الإنسان بعيدًا عن التَّواؤم مع الطبيعة. وقد عرف أنَّ فرع التَّطوُّر هذا، فرع مسدود أمام تقدُّم البشرية. فنحن ملأنا الفخر إذ شطرنا الذَّرَّة، وأوغلنا عميقًا في علم الوراثة، لكنَّنا نقف الآن حائرين لا نعرف كيف ننجو من اكتشافاتنا. وكان لاو- تسزي قد رأى أنَّ الأفق مسدود أمام مثل هذا الارتقاء. ودعا إلى العيش في معاشر مغلقة، لأنَّ التَّقدُّم يقتلع انسان من الجنَّة ويقذف به إلى دوَّامة الزمن التي تسلبه السعادة الحقيقية. إنَّ السلاح الذي صنعه الإنسان لا يحمل سوى الموت والمعاناة. وهذا بدوره يجعل الإنسان بلا روح. فتغدو نجاحاته في نتيجة الحساب وهمًا ثمنه باهظ. وفي حالة العداء التي أحطنا وجودنا فيها هذه، نحن عاجزون عن تربية أطفالنا بروح حبِّ القريب، أي عاجزون عن جعلهم سعداء. وإذ نقتل في الحروب الكبيرة والصغيرة أعدادًا كبيرة من الناس الأبرياء، فإنَّنا نعجز عن اكتساب السكينة الروحية. كما تقتل المدن الكبرى مواطنينا وهم أحياء، إذ تجعل منهم مدمني مخدرات، ومدمني كحول، ولصوصًا. نحن نبشِّر "بالخير بالقبضات"، ونتناسى أنَّ هذا مجرد هراء نخدع أنفسنا به. وفي هذا الخداع تجري حياة أجيال بكاملها. فمن أجل كنوز الأرض نهدم جبالها، ومن أجل درر البحار نعكر صفوها، ومن أجل نزاع وثرثرة نهلك أجسادنا. أمَّا السلوك المستقيم فإنَّه يقوم في أن لا يكون الحكيم طمَّاعًا: كلما أعطى الآخرين أكثر، كلما نال أكثر، وكلما بذل للآخرين أكثر، كلما اكتسب أكثر. (لاو-تسزي. "داو دي تسزين" كتاب الطريق والغبطة). إذن فيما تقوم طريق الإنسان القويمة؟ إنها الطريق القانون، الداو. دعاها كونفوشيوس بالطريق البدئية، البدء، بينما دعاها يان سيون بالمكنونة. وليس الداو وحيدًا واحدًا في الكون اللامتناهي وحسب، وإنما هو أوحد في نوعه كذلك. ويبدأ بالداو "انتشار" العالم، أي ارتقاؤه في الزمان والمكان. فحسب لاو-تسزي إن الداو أحدث، في بدء الزمان، الحدود في الفراغ، وبدورها حدود الفراغ أحدثت الزمان والمكان. ثم أحدث الزمان والمكان الأثير البدئي (يوان تسي)، الذي انقسم فيما بعد إلى مبدأين كونيين اثنين (عنصرين): إين ويان. وأنجب هذان العنصران السَّماء، والأرض والإنسان. وبعدئذٍ أنجب هذا الثالوث حشد الأشياء، والكائنات، والظاهرات. وقد قال لاو-تسزي: واحد أنجب اثنين، واثنان أنجبا ثلاثة، والثلاثة أنجبوا عشرة آلاف شيء. ويرى لاو-تسزي إن وجود الداو "سابق على وجود الرب الأعلى"، إنه "يعيش منذ الأزل، ولا علَّة لوجوده". لقد قلنا في كتاب الإله، والروح، والخلود، إن مبدأ كل شيء في الكون هو الحقل الإعلامي البيولوجي، ففيه تكمن خطة بناء الكون وتطويره. وكان لاو-تسزي قد رأى إنه في البدء عندما لم يكن ثمَّة مكان ولا زمان بعد، كان هناك الداو اللامتناهي وحده. وقد كان ذلك فراغًا خاليًا من كل شكل. ونحن نستطيع أن نقول، إن الداو هو هذا الحقل الإعلامي عينه، الذي يخترق الكون كله ويخلق الوجود من العدم. وينقسم البناء الكوني في الفلسفة الداوسية إلى خمسة أطوار. في الطور الأول أُطلقت الخطة التي كانت كأنها رابضة "على تخوم العدم والأشكال". ويدعى الطور الأول طور "الانقلاب العظيم"، لحظة الدافع الأول الذي تلاه طور "البداية العظمى". ففي تلك اللحظة ظهرت سحابة الأثير الكوني المتماثلة تمام التماثل (سحابة برانا تسي). وتتوافق تصوُّرات لاو- تسزي هذه تمام التوافق مع تصوُّرات فيزياء الكون المعاصرة عن ارتقاء الكون بعد الانفجار الأكبر. وجاء في مذكرات عن أجيال الأرباب والملوك، إن "البداية العظمى تبدأ عند أول ظهور التسي البدئي"، وفي "الكاوس (= الخراب الكوني. م) المتماثل الظاهر لتوه، تتحرَّك مع الداو آلاف مؤلفة من الأشياء والكائنات المندغمة في كل واحد". وتجري في الأطوار الأخرى التالية عملية تشكيل الكون. ولكن كل شيء يجري فيها وفق الخطة المرساة في الحقل الإعلامي للداو. فيبدأ الكون يتجسَّم رويدًا رويدًا، خارجًا من الكاوس، فيكتسب أشكاله ومكانه، ووظائفه. ويتلقى الأثير الكوني في أثناء ذلك توجهًا متباينًا. ويقع في هذا الطور انشطار الموجب والسالب، والإيجابي والسلبي، والخير والشر. وعن هذا كتب فيلسوف معاصر يقول: كما العمليات التي تجري في حوض مائي عكر، حيث يترسَّب ويتباعد شيئًا فشيئًا الماء والطين المتخالطان في كتلة متماثلة واحدة، كذلك عمليات نشوء الكون ترفع إلى مجالات الكون العليا كل نوراني، ودقيق، ونقي؛ وترسِّب إلى تحت كل قاتم، وثقيل، وفظ، وقذر. فتولد السَّماء والأرض، ومع ظهورهما ينشطر الأثير الكوني كله إلى اثنين مكتسبًا علاقة مختلفة: الإيجابي والسلبي، والنور والظلام، والمذكر والمؤنث، واللين والصلب، وما إلى ذلك. وينبغي ألا نظن أن هذا العدد هو مجرد تقسيم ذهني، أو ثمرة إنشاءات فكرية تجريدية، أو رمزية جدلية. فـ "إين ويان" ليسا مجرد تناقض: تدفق الأثير النوراني والقاتم عبر قنوات الجسم الإنساني؛ وتخالطا في معايير مختلفة فخلقا الرجل والمرأة؛ وفي مختلف فصول السنة، وفي لحظات شتى من حركة النظام الكوني الدائبة، ساد الأثير في الكون باتجاهات مختلفة. إن ظهور الكوسموس (=النظام الكوني) يعني "تشييء" الداو، تجسيمه. وهكذا ظهر الحد الأعظم للكون، الذي ينبض في داخله نبضًا متواصلاً، متمددًا أحيانًا، ومنكمشًا أحيانًا أخرى، نوعان من الأثير: إين ويان. ولذلك لم يعد الداو خطَّة، إمكانية كامنة، إنما تحوَّل إلى واقع مجسَّم. إن الداو هو القانون الكوني. لقد عدَّ لاو- تسزي إنه ليس ثمَّة مكان في الكون لا وجود للداو فيه. ونحن نضيف أن هذا ممكن بفضل البناء المتماثل للكون. أما عن حقل الإعلام (الداو)، فقد كتب لاو- تسزي يقول: وأنت تنظر إليه لا تلحظه، وأنت تستمع إليه لا تسمعه، وتلمسه فلا تحس به. ولذلك فإننا لا نرتاب في وجود الحقل الإعلامي، أي العقل الكوني. وعنه كتب صيما تصين يقول: يجري الينبوع العظيم للدرب من السَّماء، والسَّماء لا تتغيَّر، وكذلك الدرب لا تتغير أيضًا. وعن هذا نفسه كتب أوغسطين المغبوط يقول: أفي مكان آخر يجري الينبوع الذي منه يتدفق إلينا الوجود والحياة؟ كلا، فأنت تصنعنا يا رب! ويقول أُو- تسزي: إن الداو هو الذي بفضله يجري التوجُّه إلى الجذر، والعودة إلى البداية. وكتب الفيلسوف خان فييه- تسزي يقول: يتفرس الحكيم في فراغاته المكنونة ويستخدم دورانه الدائري. فعندما يدوي الداو مع العالم، فإنه يصنع حيوات طويلة الأمد، ويوآزر النجاحات المديدة. لقد ماثلوا الدوران بالشمس، التي عدَّها الداو سيون بمثابة مركز كوني يستشعر الداو وينقل نبضه إلى العالم الأرضي. وتحت تأثير هذا النبض تحدث على الأرض التبدُّلات، وتظهر الفصول. وحسب الداوسية، إن انشطار النور والظلام، و"الإين واليان"، والموجب والسالب كان أمرًا ضروريًا لكي تتحقق الحركة (إين أحيانًا، ويان أحيانًا أخرى). وبعد حين ظهرت مسألة بلوغ الكمال. ولتحقيق الكمال ظهر الإنسان في العالم. ولذلك فهو يمتلك استشعار اللامرئي، واللامسموع، وما لا يقاس، وما لا يلمس. فكيف يؤدي الإنسان مهمته إذن؟ وكيف يتلقى المعلومات من حقل الإعلام الداوي؟ لقد جاء في الكتاب القديم غوان- تسزي: في السَّماء، الداو في الشمس، وفي الإنسان هو في القلب. وتساءل فيلسوف 3 ق.م سيون- تسزي قائلاً: "بأيِّ صورة يعي الناس الداو؟". ويجيب: "بمساعدة القلب!". ويقول سيون-تسزي في مكان آخر: "لا يمكن للقلب إلا يعرف الداو". وعن هذا عينه يتحدَّث العلم الحديث، لكنه يدقق مؤكدًا على أن صلة الإنسان الإعلامية مع حقل الإعلام الكوني، أي مع العقل الكوني، تتحقق عبر اللاوعي، عبر لاوعي الإنسان. وحسب تعاليم الداو إن قلب الإنسان يجمع بين الحركة والسكون، بين الامتلاء بالإحساس والتطهُّر الذاتي منه حتى درجة "الخلو" التام. والقلب قادر على أن "يشطر" إلى مبدأين متناقضين. وللداو الخاصيات نفسها، وهو ثابت لا يتغير. ويثوي الداو في الفراغ محيطًا بالوجود كله. والداو واحد وحيد، لكنه يلد الكثرة. ففي قصة للزاهد تساو غو-تسزي وصف لزيارة قام بها الساحران الخالدان خان تشجون- لي، وليوي دون- بين للزاهد. لقد سألا الفيلسوف الداوسي عمَّا يفعله في الجبال؟ فأجاب الداوسي قائلاً: "إن الغاية الوحيدة لإقامتي هنا، هي أن أُربي الداو في ذاتي". - فسأل الضيفان: "وأين يقع هذا الداو؟". - "الداو هناك!" وأشار تساو إلى السَّماء. - "وأين السَّماء؟" سأله ضيفاه مرة أخرى، فأشار تساو إلى قلبه دون أن يجيب. - فابتسم له تشجولي وقال: "القلب هو السَّماء، والسَّماء هي الداو. لقد نفذت إلى جوهر الأشياء". ويستفاد من تعاليم الداوسيين، إن تواصل الإنسان مع الداو لا يجري عبر قوة الإرادة أو الإدراك الفكري، بل على الضد من هذا، إذ يحدث الاستغراق في عمق الوجود الآخر في لحظة الانعتاق من رؤية العالم المادي، في لحظة تجاوز قلق الأهواء والتركيز على الوحيد. وهذا هو التأمل بعينه. إن تحقيق تبادل المعلومات مع الداو بالعقل أمر مستحيل، لأن عملية التبادل هذه لا تنتمي إلى التجربة الحسية. فأيُّ قسر للحالة الطبيعية يعطي هنا نتائج عكسية. وقد أسفر الاستشفاء الروحي عن إمكانات لا متناهية لإبراء الناس. ووفق المعنى الحصري للكلمة، لم يكن اللجوء إلى التأمل إلزاميًا هنا؛ إذ كان الأمر المهم، هو أن تذهل عن الهموم والمخاوف الصحية التي تضنيك، وتترك قاربك للأمواج. وهذا هو في حقيقة الأمر جوهر التأمل. فأشكال التأمل شتى. ولكنه في الأحوال كلها طريق التنوُّر الداخلي، وتواصل مع المبهم العظيم الذي يقيم خارج إمكانات أجهزة الحسِّ البشري، أي خارج حدود العالم المادي. وغني عن البيان أن الداوسيين، بمن فيهم لاو-تسزي، قد مارسوا تمارين الاستغراق في التأمل. فالتأمل لا يحرر من العالم المادي وحسب، بل في أثنائه تستغرق الأشكال، أي هولوغرامات الإنسان في أبعاد مغايرة، في حقل الإعلام الكوني. وفي القرن 5 ق.م وصف الحبر الداوسي لي- تسزي بداية تمسكه ونهايته على الشكل التالي: ها قد مرَّت ثلاث سنوات منذ أن أقمت على خدمة معلِّمي وصديقي، وقد طردت فيها من قلبي التفكير بالحق والباطل، وحرَّمت على شفتيَّ التحدُّث بالنافع والضارِّ. وحينئذٍ فقط استحقيت نظرة معلِّمي. وانصرمت خمس سنوات، فولدت في قلبي أفكار أخرى جديدة عن الحقِّ والباطل، وبتُّ أتحدَّث بطريقة جديدة عن النافع والضارِّ. وحينئذٍ فقد استحقيت ابتسامة معلِّمي. ثمَّ انصرمت سبع سنوات، فأطلقت لقلبي حريته ولم أعد أفكر بالحق والباطل، وأطلقت لشفتي الحرية ولم أعد أتحدَّث عن النافع والضارِّ. وحينئذٍ فقد دعاني المعلِّم وأجلسني إلى جانبه على الحصير. ومرَّت تسع سنوات، فبتُّ مهما أكرهت قلبي على التفكير، ومهما أكرهت شفتي على الحديث، لم أعد أرى ما هو حقٌّ بالنسبة لي وما هو باطل، ما هو نافع وما هو ضار، كما لم أر ما هو حقٌّ بالنسبة للآخر وما هو باطل، ما هو نافع له وما هو ضارٌّ، ولم أعد أرى أن المعلِّم هو مرشدي، وإن ذلك الشخص هو صديقي. لم أعد أُفرِّق الداخلي عن الخارجي. وعندئذٍ بدا لي كأن أحاسيسي اندغمت في كلٍّ واحد: تماثلت الرؤية مع السمع، والسمع مع الشمِّ، والشمُّ مع الطعم. تفكيري تراجع، وجسدي تحرر، واتحدت عظامي مع عضلاتي في كتلة واحدة. ففقدت الإحساس بما يتركز جسدي عليه، وما تطؤه قدماي، وتبعًا للريح أخذت أتحرَّك شرقًا وغربًا. ومثلي مثل ورقة شجر أو قشرة يابسة. وأخيرًا لم أعد أعي ما إذا كانت الريح هي التي أسرجتني أم أنا أسرجت الريح. لقد كان الداوسيون على يقين من أن القلب البشري كان قد أحسَّ إحساسًا مباشرًا بحركة الداو عند فجر البشرية. فعندئذٍ أعلن الداو عن نفسه بصورة غير مباشرة، عبر رتل طويل الأحداث، والظاهرات، والآيات. لقد كان ذلك العصر من الزمن الماضي مثلاً أعلى للخير، والحكمة، والطبيعية. وقد قامت هذه الأخيرة في أن سلوك الإنسان سار وفق قانون الداو، بما يتوافق وقوانين الطبيعة، والعقل الكوني. وهذا ما لا يمكن قوله عن سلوك الإنسان في العصور التالية، فما بالك بعصرنا نحن. إن فلاسفة الصين القدماء تحدَّثوا عن "الزمن الذي كان الداو فيه في العالم". وقالوا عن الأزمنة الرديئة: "عندما حل زمن اندحار الداو (الدرب)". وليس المقصود هنا الداو نفسه بالتأكيد، إنما تأثيره على الإنسان. فالداو نفسه، الدرب نفسه بالمغزى الصارم لهذا المفهوم، حاضر في كل مكان وفي كل زمان. إلا أننا لا نحسه دائمًا. وكان فيلسوف معاصر قال في هذا الصدد: لقد بات من النادر أكثر فأكثر أن يغسل الإنسان قلبه في تياره، وتبعًا لهذا يغدو الخير في العالم أقل فأقل، والطباع تتصلَّب أكثر فأكثر. وعلى هذه الصورة تعدُّ تعاليم الداو، الحقيقة الأكثر باطنية والتي لا يمكن إدراكها. ولكن الفلاسفة الداوسيون، وأولهم لاو-تسزي نفسه، يعالجون المسائل العملية في جوهر الداو، وتحديدًا مسألة: كيف يُظهر الداو نفسه في العالم المرئي. وبكلمات أخرى: كيف يُظهر المطلق نفسه في ظاهرات العالم المحيط بنا. وتجلِّي الداو هذا يعني باللغة الصينية: دي. وعلى هذه الصورة يكون الداو هو المعطى أولاً، والدِّي هو المعطى ثانيًا. ولكن الأول والثاني ينتميان معًا إلى درجات مختلفة في مستويات تجلِّي المطلق. وإذا ما سقنا مقارنة مع الفلسفة الإغريقية القديمة فإن الداو هو اللوغوس، والـ"دِّي" هو الإيدوس (= الصورة، المظهر الخارجي، م). وبالطبع فإن الدي، كما الداو، ينتمي إلى العالم الروحي، لكن هذه الروحانية هبطت الآن إلى العالم المادي، إلى عالم الأشياء. وإذا ما عبَّرنا بطريقة أكثر أرضية، فإننا نقول: إن الدِّي هي بدرجة معينة "شيء لنا". وكان شارحوا لاو-تسزي القدماء قد وضعوا هذا المغزى عينه في مفهوم الدِّي. ونحن يمكننا أن نقول تبعًا للمغزى الحقيقي لتعاليم لاو-تسزي عن دي هو معلومات وطاقة الخطة الكامنة في حقل الإعلام الكوني، إنه تمدد الكون، "الحركة الحتمية" لعالم، وفي الوقت نفسه، ليس الدِّي حالة مادية، إلا أنه الكامن الذي يمنح إمكانية كل تجسيم مادي. وما يدل على أن الحديث يجري في الدِّي عن الكمون، عن الإمكانية الكامنة، هو كتابة كلمة دي في صورة هيروغليف. فالهيروغليف دي يعكس هذا المفهوم في صورة ينمو فيها من عين المرسوم فرخ نبات ما. ومعنى هذا أن الدي رمز للنماء، والارتقاء، والانتقال من حالة كمون "الشيء لذاته" إلى حالة "الشيء للعالم". وهذا هو رمز الخروج من الظلام إلى عالم المرئيات. ولو أُتيحت الفرصة للهنود القدماء لقالوا إن الكلام يجري عن عالم المايا، عالم الأوهام. وليست فكرة النماء هذه من سمات المدارس الفلسفية الصينية القديمة وحدها. ففي واحد من أقدم الكتب الهندية يدعى العالم الذي نعيش فيه: "الزرع العظيم". وكان المسيح قد ردد مرارًا مثاله عن الزرع والحصاد، قاصدًا بذلك انتشار أفكار تعاليمه. وكما شاعت في الديانات الهندية القديمة فكرة الروح الكوني، كذلك تحدَّثت التعاليم الفلسفية الدينية الصينية القديمة عن البذرة الروحية الكونية. وإذا كانت روحانية الداو هي البذرة، فإن الدِّي هي النبتة التي ستنمو عليها مع الوقت بذور جديدة. فالداو والدّي هما بمثابة شحنة النماء المقبل وكمونه. وقد جاء في كتاب التحولات القديم إن "أعظم دي السَّماء والأرض يدعى حياة". كما نرصد حضور هذه الفكرة في مقولات الدواسيين المتأخرة أيضًا. ولكن التشابه بين التعاليم الصينية والداو والتعاليم الهندية لا ينتهي عند هذا الحد. فنحن نقف عند الداوسيين على ما يشبه الكارما. ويتحدَّث هؤلاء عن إمكانية تراكم طاقة الدي. وفي غضون ذلك ينتقل الإنسان إلى مستوى نوعي جديد. وقد جاء عن الفرق بين الدِّي والكارما ما يلي: إن نتائج الدِّي تظهر أساسًا هنا والآن، بينما ترتبط الكارما بنظرية النزوح الكوني، ونتائجها لا تظهر في هذه الحياة عادة، بل في ولادات لاحقة. والآن آن الآوان لكي نتحول إلى المسألة الأهم، إلى المسألة الأكثر مبدئية في الديانات كلها، والنظم الفلسفية كلها، وهي: من أين يأتي المبدأ السلبي؟ من أي قوى ظلام في العالم الذي خلقه ويديره إله واحد أوحد؟ من الواضح أن الإله في الداوسية هو الداو. ويستفاد من دراسة تعاليم الداوسيين أن الداو يمكن أن يعلن عن نفسه في قوى النور وفي قوى الظلام التي تصدر عن أصل واحد هو الواحد العظيم. وهي التسمية الأصح للإله. ويجب ألا يثير هذا استغراب أحد. فهذه حاضرة في التوراة، وفي الإنجيل. فلنتذكر معًا موعظة الجبل التي قال المسيح فيها: تشرق الشمس على الأبرار والأشرار على حدٍّ سواء. وحسب التوراة أنهم كانوا يقدمون القرابين للإله الواحد، ولإله الشر (جدي الخلاص). وهذه الفكرة، التي نرصد حضورها في التعاليم الفلسفية وديانات شتى القارات، هي فكرة عميقة جدًا وتتوافق وبناء العالم: الموجب والسالب "يعملان" معًا، في الآن عينه، يكمِّل أحدهما الآخر، وهما محرِّك تطوُّر البشرية، والكون كله. ومن الواضح أنه من الصعب جدًا قبول هذا كله، إذ يبدو كأنه تبرير للشرِّ. ولذلك يبدو أن أكثر المؤلفين القدامى أدغم طاقة الدِّي كلها بقوى النور، بحركة الأثير المشرق يان. ورأوا أن "الحياة هي ضياء الدِّي" (تشجوان-تسزي). وقال لاو-تسزي نفسه عن التاو إنه مصدر الحير للوجود كله. في ترجمته إلى اللغة الروسية حمل كتاب لاو-تسزي العنوان: كتاب الطريق والغبطة. والطريق، هي الداو. أمَّا الغبطة فهي الدِّي. والمطلق هو الذي يمنح الغبطة، الخير للعالم. وقد اعتقد القدماء أن بعض الأشخاص وخططهم، وقراهم، وحتى دولهم، تنال طاقة الدِّي الروحية الخيِّرة. ويخلق وجود الدِّي داخل الإنسان شتى الميزات الأخلاقية. ولذلك يمكن القول إن الدِّي هو الفضيلة. ولكن معاكسة الخير والشر هي حسب تعاليم لاو-تسزي أمر ليس له مغزى. فكل من هذين المفهومين ينطوي على نقيضه، أي أن الخير يحمل في داخله جنين الشر والعكس صحيح. وقد ورد في الإنجيل: "لا يمكن فصل الخير عن الشرِّ، كما لا يمكن فصل النهار عن الليل". فالعالم يتكوَّن من الإيجابي والسلبي، ولكن وجود الإيجابي من غير السلبي أمر غير ممكن. وفي تخطيط "التقسيم العظيم"، أي عالمنا الذي نعيش فيه، يحتوي العنصر المشرق يان، عند حدِّه الأكمل، على جزيئة من العنصر المظلم إين؛ ويحتوي هذا الأخير لحظة نضوجه الأقصى على نواة يان. فالأشياء تبلغ حدَّها ثم تنقلب إلى ضدها. وإذا ما بات الجمال بمتناول الكل، فإنه يفقد جاذبيته، ويبدو مبتذلاً، والخير الذي يقر جميعهم به، ويُرفع إلى منصة الشرف، يولِّد شرًّا مقابلاً. وتترتب على هذا نتائج عملية بعيدة المدى. فلا تحاول أن تثبِّت الخير على منصة الشرف، ولا تسعى من فورك إلى جعل الناس سعداء كلهم، لأن "خيوط السعادة والمآسي داخل الكبَّة، متداخلة بعضها مع بعض، والفصل بينها ليس ممكنًا". إن استئصال الشر مستحيل، لأنه يشق طريقه بإهاب آخر، عبر عملية إنشاء الخير. ونحن لا نرى ضرورة لسوق أي مثل لهذا، لأن نظرية البشرية كلها تمثِّل هذا المثل. فتعاليم المسيح رائعة، ولكن عندما رفعها آباء الكنيسة إلى منصَّة الشرف، كم من الآلام ظهر، وكم من الدماء سال. فباسم المسيح خدعوا، وقتلوا، ونهبوا، وابتزوا المؤمنين إيمانًا صادقًا. وهذا ما حصل للتعاليم الأخرى أيضًا. وقد قال لاو-تسزي: "كيفما يكون النداء، يكون الصدى". فبقدر ما يكون نداء الخير قويًا، بقدر ما تزداد ضراوة الشر. ولذلك لا تقسم العالم إلى خير وشر، إلى صالح وطالح، لأن فرض الأحكام على الآخرين أمر محفوف بالمخاطر. "لا تدينوا كي لا تدانوا" (الإنجيل). وهذا ما قاله لاو-تسزي أيضًا، ولكن بكلمات أخرى. فقد رأى أن الإنسان الحكيم يجب ألا يشارك في مثل هذا اللهو: تعظيم أحدهم وتحقير آخر. لأنه لهو خطر من حيث جوهره. وحياة الحكيم كامنة في داخله هو. فهو يعلِّم بصمت، "من القلب إلى القلب". وقد كان المسيح حكيمًا من هذا الطراز. فلم يدع إلى حرب مع الشر، إنما بطريقة عيشه، بوجوده نفسه جعل العالم أكثر إشراقًا، وأكثر طيبة. ليس الحكيم هو المستغرق في تفكيره متبطلاً لا يفعل شيئًا. فالفكر يتصف بالمادية. ولذلك فإن الحكيم الماكث في تفكير، الماكث خارج الفعل، يصنع الخير. ولكنه يصنعه بطريقة أكثر فاعلية من أولئك الذين يحاولون أن يغيروا العالم علانية، ويجعلون الناس سعداء بالعنف. "فمن القلب إلى القلب" تواصل بوذا مع تلاميذه. ولحظة تحول بوذا إلى النيرڤانا فهمه تلميذه كاسيانا بغير كلام، وقبل الزهرة وابتسم. ويفترضون أن تعاليم بوذية جديدة قد ولدت في تلك اللحظة، هي تعاليم إيزين (تشان). لقد تحدَّثنا قبل قليل عن صلة الإنسان بالحقل الإعلامي، الداو. وبقدر ما تكون أخلاق الشخص المعني سامية، بقدر ما تكون هذه الصلة أفضل. لأن الرؤية الداخلية لمثل هذا الشخص ليست معكرة بآثام الرغبات والأهواء. وقلبه صاف كمرآة المياه التي لا تهزُّها الرياح. ولذلك فإن المرآة تعكس كل شيء بدقة وصدق ودون تحريف. إن لمثل هذا الإنسان السامي الأخلاق قدرة على أن يمتلك ما لا يستطيع أحد امتلاكه، وأن يدرك ما لا يدرك. فليس بينه وبين حقل الإعلام الكوني، الداو، حجاب. إنه قادر على أن ينزل سلَّم الزمن إلى العالم البدئي حينما لم يكن الاسم الأزلي قد نطق به بعد. والاسم الأزلي، هو اسم الطريق الأبدي، اسم الإله. إننا نتحدَّث دومًا عن المعلومات، ومن الضروري جدًا لنقل هذه الأخيرة، امتلاك كلمة مفتاحية، اسمًا. ومن المعروف أن أسماء الآلهة، في الديانات كلها، كانت أسماء سرِّية مكنونة. فالمسيحيون يصلُّون قائلين: "ليتقدَّس اسمك". ويقول الصوفيون، إن الإنسان إذا عرف الاسم يحظى بالسلطان حتى في المجال الخارق. أما الداو فإنه يتلقى اسمًا عندما يتحوَّل من الحالة البدئية الأولى، حالة العدم والخراب، إلى حالة الكوسموس (النظام). وابتداء من تلك اللحظة ينتقل إلى "التقسيم العظيم". ومنذ تلك اللحظة بات اسم الداو راسخًا رسوخًا أبديًا. وقد قال لاو-تسزي: "الذي لم يكن له اسم، غدا مبدأ السموات والأرض، وباكتسابه اسمًا صار أم الأشياء كلها". ثم يقول: "الرصين أبدًا يبصر الحيز الصعب المنال". أما "عبد الأهواء، فلا يرى سوى المحدود المتناهي". ومعنى هذا أن ما يتلقاه هذا الأخير من حقل الإعلام من المعرفة محدودة جدًا. فلا تمتد في مرآة قلبه الكدرة سوى خطوط المكنون الممهوكة. ومعارفه مقتصرة على ما هو موجود في الواقع الذي أخرجه الاسم إلى الحياة، أي على أشياء العالم المحيط وظاهراته. إن المعرفة السامية لا تمنح لأيٍّ كان. ولا تدرك إلا بالولوج إلى عمق سرٍّ من الأسرار. فقد قال المعلِّق على تعاليم لاو-تسزي (القرن 3 ق.م)، "شيخ من ضفاف النهر الأصفر": إنَّ عبارة: سرٌّ من الأسرار معناها أنَّه ثمَّة سماء في السماء. ولا يعطي المعرفة الحقيقية سوى النَّفاذ إلى خارج المجالات القصوى. فالكلمات غير مؤهَّلة لنقل التجربة اللاشعورية. أمَّا هذه الأخيرة نفسها، فهي الوسيلة الوحيدة لمقاربة جوهر الأشياء. وليست الكلمات والمفاهيم مؤهَّلة لنقل المعرفة، لأنَّ هذه الأخيرة خارج ما هو عقلي. ولا يمكن للإنسان أنْ يأمل بأنْ يعي ما هو موجود، وما هو غير موجود، إلا إذا نفذ إلى السماء الثانية، إلى المجالات الخفية. إنَّ بلوغ السِّرِّ من الأسرار يقتضي بذل جهد معين. وعن هذا قيل: "لقد مات بريقك، فاختلط مع الرَّماد". وهي دعوة لتدمير الذات والخضوع. إنَّ الدَّاو كالماء، يسعى لكي يشغل أدنى مكان في هذا العالم. ولكي يندغم الإنسان بالدَّاو، عليه أنْ يحذو حذوه. وكان المسيح قد دعا إلى الخضوع أيضًا، إذ قال: "مَنْ يريد منكم أنْ يرتفع عليه أنْ يصير خادمًا لكم". ويحدث الاستغراق في أمداء الدَّاو "عندما تتبدل حالة الوعي"، وهو ما كتبنا عنه في كتابنا الإله، والروح، والخلود. والحديث يجري عن حالة التأمُّل وسواها من الحالات النفسية "المختارة" الأخرى. ففي مثل هذه الحالة يحدث الدخول إلى المجال الواقع خارج المجال الأقصى. وترفع هذه الحالة كل التناقضات التي يتميَّز الواقع بها. في غضون ذلك يتحوَّل الإنسان إلى مقام أسمى وبكيفية مغايرة. ولا بأس بالقول، إنَّه ينقلب إلى مستويات أعلى لذلك الإشعاع السمعي الدقيق، الذي يراه الجوَّابون الخارقون، بمن فيهم الدَّاوسيون الصينيون واليوغيون الهنود. وكان تشوي يان (عصر مين)، شارح تعاليم لاو-تسزي، قد وصف الاستغراق في التأمُّل، الذي بات كتاب لاو-تسزي رائده. لقد فلَّت نصال المسواة بنفسها، فبتُّ لا أشعر بالمسواة، ولا أحسُّ فكرة اندثارها. والسياط من الخارج لا يمكنها أنْ تنفذ إلى الداخل، وبما أنَّها لا تنفذ، فلا حاجة لجدْلها أصلاً؛ لقد اندثرت تلقائيًّا، ولا تخرج إلى الخارج بل تبقى صامتة. وفي اللحظة التي استغرق فيها في سكوني، تغدو هذه الأعباء عاجزة عن إسخاط روحي، أو إقلاق نفسي، أو تمزيق قلبي، أو تشتيت سيي، أو تبذير بذوري. وما أنْ يتوقف الإسخاط، والإقلاق، والتمزيق، والتشتيت، والتبذير، حتى ينبلج نور طبيعتي. وعندما ولد النور في داخل سكينتي، عندها فقط تمكنت من أنْ أدرك ما وراء حدوده، وأتنوَّر بقوانينه المكنونة، وأنفذ إلى عمق لجَّته، وأفيد من وعائه. فقط عندما تغوص إلى قاع الماعون، يمكن أنْ تدعو ذلك تحقيق الانسجام. وعندما يصل المرء إلى تلك الدرجة من تدريب الجسم، بحيث يغدو هذا ساكنًا كالأرض لا يتزحزح، حينئذ فقط يمكن القول إنَّه جمع حبيبات غباره. ثمَّ يصف تشون يان بعد ذلك عملية الاستغراق على مستويات جديدة. ويقول، إنَّه في أثناء ذلك تولد في الظلمة نماذج مشرقة بالكاد يمكن تمييزها؛ ويظهر إحساس مشوَّش بتيار الداو؛ وتنشأ رؤية الوليد الذي لا يرى. إنَّ ما يحصل إذن هو تجسيم مادي لكلمات لاو-تسزي حين قال: "أنا لا أدري ابن مَنْ هو". ثمَّ يختفي شعور "الأنا". وأخيرًا يقع الذوبان التام في الداو. لقد رأى الداوسيون أنَّ الرحمة وحدها القادرة على قطع سلسلة الشَّرِّ اللا متناهية. ولا يمكن لأي شيء آخر أنْ يفعل هذا. ونحن كنَّا قد أشرنا إلى أنَّ كونفوشيوس عدَّ الرحمة أسمى صفات الرجل النبيل. وقال، إنَّ الرحمة هي "حبُّ الآخرين". إنَّها الاجتهاد في أنْ "لا تصنع للآخرين ما لا تريده لنفسك". ويدرس الداوسيون رحمة السماء والأرض، ولو كنَّا مكانهم لقلنا، رحمة القوانين الطبيعية المحيطة بنا. فعد الصينين أنَّ السماء هي الإله، وهي قلب. كما عدَّ الصينيون القدماء الأرض حيَّة أيضًا: إنَّها شرايين الدماء. ومُنحت السماء والأرض إدراكًا وإرادة. ولكنَّ رحمة السماء والأرض (الإله) رحمة فريدة. تعلوان فوق الكل، وتسكبان نعمتهما بالتساوي لا على الإنسان وحده، مع أنه الأغلى، إنما على الوجود كله، على العظيم والضئيل، لصاقًا حتى الشجر والعشب، والزواحف والحشرات. كأنَّهما على الجانب الآخر للخير والشَّرِّ، ولكن "كأنَّهما" وحسب، لأنَّ الداو إلى جانب الصالحين دومًا. ففي بعض الأحيان تبدو رحمتها السامية لا إنسانية، بيد أنَّ هذا مجرَّد ظاهر فقط. وهكذا ينبغي على الإنسان أنْ يكون، فإذا ما أدرك أسمى درجات الكمال الروحي، يغدو رصينًا، بعيدًا عن الأهواء، ويفسح للعدالة العليا أنْ تتحقَّق. ويجب على الإنسان أن يحاول أن يسلك مثل هذا السلوك كذلك. فالمسيح لم يرفض أحدًا، وحاول أن يساعد كل مَنْ أتى إليه. وقال، لا يأتي الطبيب على المعافى، بل إلى المريض. وداوى أرواح الناس. والداوسيون أيضًا يدعون الإنسان إلى الاقتداء بالسماء والأرض في منح رحمتهما، أي يدعونه لكي يصير خالدًا. ولكنهم يختلفون هنا مع المسيح اختلافًا مبدئيًّا. فهم يرون أنَّه ينبغي على المرء أن يكون رصينًا، بعيدًا عن الأهواء في علاقاته مع الأقارب (الطيِّبين والأشرار). فلا يجب عليه أن يرحم، بل أن يترك الفرصة للإله الأعلى كي يتجلَّى، كي يظهر الرحمة العليا. وقد كتب تشون يان عن هذا ما يلي: السماء والأرض عاليتان علوًا متناهيًا وواسعتان اتساعًا متناهيًا... وتتوزَّع بركتهما وعطفهما على الوجود كله، ويظهر هذا في أنَّهما تلدان، وتربَّيان، وتكبِّران إلى حدِّ الكمال آلافًا مؤلَّفة من مخلوقاتهما، وفي هذا تقوم رحمتهما. إنَّ السماء والأرض تحتويان الوجود كله، وكل ما هو موجود يحسُّ بركتهما. وبما أنَّها لا أشكال لها ولا آثار، فإنَّ هذه البركة تنتمي إلى الغبطة العليا، التي لا تبارك الرحمة العليا، التي ليست رحيمة. وهذه هي بالضبط الرحمة المتناهية؟ فبفضل "لا رحمتهما" بقيت السماء والأرض موجودتين هذا الأمد الطويل كله... إنَّ المرء الكامل الحكمة الذي يعمل الذي يعمل على تحسين كماله، محاكيًا السماء "اللارحيمة"، لا يفعل شيئًا سوى أنَّه يغيِّر نفسه وحده، ولكنْ عندما يتحدَّثون عن "مائة عشيرة"، فإنَّ هذا ليس سوى جسد واحد، إنَّه هو عينه، وليس الآخرون. إنه قلب البلاد، فكر الملك، قلب الشَّعب. فبتبطُّله يحوِّل الجسد، وبتبطُّله يحافظ على القانون. وهذه هي الرحمة بعينها، ففي السكون، والاحتجاج، وعدم إظهار الرأفة يحذو الكامل الحكمة حذو الرحمة العليا للسماء والأرض، هذه الرحمة التي "لا ترأف"؛ وهكذا يسعى لكمال نفسه. تعدُّ مشكلة الرحمة مسألة مبدئية في تبيان الاختلافات بين ديانات الشرق والغرب، ولذلك نرى من الضروري أن نعالجها بالتفصيل. ولنعد مرَّة أخرى إلى تشون يان: كيف يمكن للمرء الساعي إلى كمال نفسه ألا يحاكي الأرض والسماء؟! فالذي يطوِّر نفسه بمساعدة الفراغ، يكتسب جماله وغموضه: ليست به حاجة لأن يطمع بالمجد، أو بالطريق. فما أن يبلغ الخواء حدَّه حتى تحدث حركة ما. وعندما تبدأ هذه الحركة تريق الجمال، يبدأ إحساسك بمكنون ما يجري يتزايد. وهذا ما لا يمكن التعبير عنه! ولذلك فأنَّ روعة أن تدرك ذاتك، ومكنون اللقاء مع ذاتك، وسر التركيز في داخل ذاتك إلى درجة النسيان الكلي، وعزل ذاتك في أقصى وسط الطريق الأقصى، وبراناك الواحدة الحقيقية الأزلية، هذه كلها التي بفضلها تسعد بحقيقة السماء، لهي أفضل من الخسائر التي لا حصر لها. أو ليست هذه هي تلك اللاإنسانية التي يغدو فيها الحكيم الكامل الساعي إلى تحسين كماله، شبيهًا بالسماء والأرض، أوليس هذا، هو قانون الفراغ الخفي المكنون؟ إنَّ رحمة السماء والأض تكمن في لا رحمتهما. كم هو مكنون في عظمته اللا متناهية هذا السرُّ، كم هو مكنون رسوخه اللا محدود. وعن هذا نفسه يقول شيخ ضفاف النهر الأصفر (القرن 3 ق.م): كثيرة هي الهموم التي تؤذي الروح، وكثير هو الكلام الذي يؤذي الجسد. فعندما تنفرج الشفتان وينطلق اللسان على هواه، فإنَّ البلية والرزية واقعتان لا محالة، أليس من الأفضل أنْ تستغرق في التركيز على الفضيلة الدَّاخلية، وتهتم بإنبات بذرة الروح وتعشق البرانا- تسي وتقلل من الكلام؟ وهذا كما نرى يميِّز الفلسفة الشرقية عن الفلسفة الغربية، وديانات الشرق عن ديانات الغرب. فالمسيحية والإسلام يهتمان بالمجتمع كله، بأفراد الطائفة كلهم دون استثناء. فالشاة الضالة بالنسبة إليهما أغلى من تلك التي تسير على الطريق الصحيح. ويستحقُّ الابن الضال استقبالاً حافلاً من قبل والده: لقد عاد أخيرًا إلى الحقِّ. فللإنسان أهميته في هاتين الديانتين لأنَّه يُعدُّ جزءًا من المجتمع، من الطائفة، من الجماعة. ولا يجوز أنْ يترك جائعًا، وعاريًا، وبلا رجاء، لقد قال المسيح إنَّ قبوله، قبول تعاليمه، يعني إطعام الجائع، وإكساء العاري، ومواساة المريض و... وفي هذا يقوم جوهر تعاليمه. وإذا أرادت المسيحية المعاصرة أنْ يكون لها مستقبل، فإنه ينبغي عليها أن تدرك هذا، لا أن تهتم بدخلها المالي فقط. ولكن كيف تتعامل الديانات الشرقية مع هذه المشكلة؟ لقد أجبنا على هذا السؤال قبل قليل؟ ولكنَّنا نكرِّر: لا يغيِّر المرء الكامل الحكمة الساعي إلى تحسين نفسه، سوى نفسه وحدها فقط. أليس من الأفضل التركيز على الغبطة الداخلية، والاهتمام بإنبات البذرة الرُّوحية، وتنقية النفس. ونحن نجيب: "لا، ليس هذا هو الأفضل"، لأنَّ المجتمع كله، والبشرية كلها كائن حيٌّ واحد، وجزء من الكائن الحيِّ الذي يملأ الأرض. فالمجتمع ليس مجرَّد كمٍّ من المواطنين، من أفراد كل منهم قائم بذاته مستقل عن الآخرين، إنَّه كائن حيٌّ لا يمكن للإصبع، أو الساق، أو أيِّ عضو آخر أنْ يعيش فيه ويتصرَّف على هواه. إنَّ الإنسان يولد فردًا، له مواهبه، وقدراته، ومؤهلاته، وميوله، ومساعيه، بيد أنَّه يُعدُّ في هذا كله جزءًا من نظام: مجتمع، ولذلك فهو ملزم أن يعمل لخير المجتمع. فالشخصية لا وجود لها خارج المجتمع. والشخصية الحقة تظهر بصفتها شخصية حسب موقفه مع الآخرين، من المجتمع كله، فقد سار المسيح إلى الصليب من أجل المجتمع، من أجل الناس. يقينًا إنه كان كامل الحكمة، ولكن لا يمكن تخيُّله وقد قصر اهتمامه على التركيز الذاتي، وإنبات البذرة الرُّوحيَّة والروح. لماذا إنبات الروح وتربيتها إذا كانت لن تسخَّر لخلاص القريب، ورفع شأن المجتمع كله؟ وما الفائدة من أن تقضي حياتك كلها متأملاً على قمم الجبال وفي الكهوف، إذا كنت لن تقدِّم شيئًا للآخرين؟ وعليه يغدو من الواضح لماذا أخذت الديانات والتعاليم الشرقية تلقى مزيدًا من الانتشار في الغرب. فالمجتمع الغربي يتشظى إلى كثير من الأفراد الذين تعذبهم الوحدة في تلك الأدغال الحجرية. فالكائن الحيُّ يسقم، ولا يمكن لبعض خلاياه منفردة أن تكون سعيدة. ولذلك نراها تبحث عن خلاصها في فردانية الشرق، في الانفصال عن الواقع، في النسيان. إن ما قلناه هنا لا يمثَّل رفضًا لديانات الشرق، فالحديث يجري عن محور ارتكازها الذي يميِّزها عن ديانات الغرب. بيد أنَّ هذ لا يعني أنَّ أخلاقياتها تختلف في شيء عن أخلاقيات المسيحية والإسلام. ففي مقدِّمته التي كتبها لترجمة كتاب لاو-تسزي إلى اللغة الروسية في العام 1913، كتب ليف تولستوي يقول: إن أُسَّ تعالم لاو-تسزي هو نفسه واحد، كأُسِّ التعاليم الدينية الحقَّة العظمى الأخرى كلها. وهو التالي: يعي المرء نفسه أولاً بصفته شخصية جسمية، منفصلة عن كل ما عداها، وتريد الخير لها وحدها فقط. ولكن قبل أن يعدَّ المرء نفسه بيتر، أو إيفان، أو ماريا، أو كاترين، فإنه يعي ذاته أيضًا بصفته روحًا بغير جسد، مثله مثل الروح الذي يعش في كل كائن ويمنح الحياة والخيرات للعالم كله. ويمكن للإنسان أن يحيا إما بشخصيته الجسمية المنفصلة عن العالم، والتي لا تريد الخير إلا لذاتها، أو بروحه اللاجسدي الذي يعيش فيه ويتمنَّى الخير للعالم كله. إنَّ الإنسان قادر على أن يعيش لجسده أو لروحه. فعش أيُّها الإنسان لجسدك، والعيش للجسد بلية، لأنَّ الجسد يعاني، ويسقم، ويموت. وعش أيُّها الإنسان لروحك والعيش للروح خير، لأنَّ الروح لا تعاني، ولا تسقم، ولا تموت. ولذلك كي لا تكون حياة الإنسان بلية بل خيرًا، فإنَّه يجب عليه أنْ يتعلَّم العيش لا لجسده، إنما لروحه. وهذا ما يعلِّم به لاو-تسزي. إنه يعلِّم الانتقال من حياة الجسد إلى حياة الروح. وهو يدعو تعاليمه طريقًا، سبيلاً، لأن تعاليمه كلها ترشد إلى هذا المعبد؛ ومن هنا حملت تعاليمه كلها اسم: كتاب الطريق والغبطة. وتقوم هذه الطريق، حسب تعاليم لاو- تسزي، في ألا تفعل شيئًا مما يريد الجسد، أو افعل الحدَّ الأدنى منه، كي لا تخمد ما تريده الروح، ولا تعرقل عمل الأعمال الجسدية، وتمنع إمكانية أنْ تظهر في روح الإنسان قوَّة السماء (هكذا يسمِّي لاو- تسزي الإله)، التي تعيش في كل شيء. وإذا كان المترجم قد نقل هذه الفكرة بدقَّة، فإنَّ ما يثير الاهتمام، هو أنها غالبًا ما تنعكس بصورة غريبة مقصودة، ولكنها تمثَّل في الأحوال كلها أسَّ التعاليم كلها. وهذه الفكرة لا تشبه وحسب، وإنما هي عينها الفكرة التي وردت في رسالة يوحنا الثانية وتقوم في صلب تعاليم المسيحية. فحسب لاو-تسزي أن الداو هو الطريق الوحيدة التي يتحد الإنسان بوساطتها مع الإله. أما الداو فلا يتحقق إلا بالإحجام عن كل ما لا لزوم له، عن ما هو جسدي. وهذا ما عكسته التعاليم التي جاءت في رسالة يوحنا الأولى. فحسب تعاليم يوحنا أنَّ المحبة هي وسيلة الاتحاد مع الإله. والمحبة كالداو، لا تتحقق إلا بالإحجام عن كل ما هو جسدي، وذاتي. وكما أنَّ المقصود بكلمة داو، وفق تعاليم لاو-تسزي، هي طريق الاتحاد مع السماء والسماء نفسها؛ كذلك فإنَّ المقصود بكلمة محبة في تعاليم يوحنا، هي المحبة نفسها والإله بذاته (الإله محبة). ويقوم جوهر هذه التعاليم وتلك في أن الإنسان قادر على أن يعي نفسه منفردًا ومتحدًا، عابرًا وأبديًا، جسدًا وروحًا، حيوانًا وإلهًا، وحسب لاو- تسزي إنَّه ثمَّة طريق واحدة يحددها بكلمة داو، تنطوي في ذاتها على مفهوم الغبطة السامية. ويدرك هذا بالتحلِّي بصفة يعرفها الناس كلهم. إذن، جوهر تعاليم لاو- تسزي، هو عينه الإحجام عن كل ما هو جسدي، وعبر العنصر الروحي الإلهي الذي يشكل أسَّ حياة الإنسان. من الواضح أنَّ تولستوي لم ينطلق في مقارنته بين الداوسية والمسيحية إلا من المعايير الأخلاقية دون أنْ ينخرط في تحليل الأسس الفلسفية لتعاليم الداوسيين، وفيما يتعلَّق بالأخلاق، فإنَّها كالأخلاق النابعة من الديانات العالمية الأخرى، لا تناقض من حيث المبدأ الأخلاق المسيحية. وهكذا رأى لاو- تسزي أنَّ الإنسان الحكيم يجب أنْ يتعامل كما تتعامل السماء والأض اللتان تنبتان مليارات الكائنات وتمنحانها القوت والعناية. وعلى الإنسان أن يفعل الشيء عينه إذا كان يريد الخير لنفسه. فثمَّة في الكون قانون، هو قانون ثواب الأعمال الصالحة التي يصنعها الإنسان بتفانٍ. ويقول لاو- تسزي، إنَّ "نهم الرغبات يهلك الروح، ووفرة الثروات تضني الجسد". وجاء في الإنجيل: "لا تكنز كنوزًا على الأرض، حيث يفنيها العثُّ والصَّدأ، وينقب اللصوص ويسرقون"، و"من الصعب أنْ يدخل ثري ملكوت الرب!". وقد علَّم لاو- تسزي ضرورة أن يعرف المرء القسط، فقال: "عارف القسط غنيٌّ!". وعن هذا قال شارح تعاليم لاو- تسزي: "في السمت تبدأ الشمس تميل نحو الغروب، وإذ يكتمل القمر يبدأ يتناقص، وبالازدهار يستبدل الذبول، وبالسعادة الأسى". بكلمات أخرى، إنَّ كل ما في العالم يتحوَّل مع الوقت إلى نقيضه. وتشير تعاليم لاو- تسزي بوضوح إلى الكيفية السليمة لتعامل الإنسان مع جسده، وقد عبَّر تشجين عن هذا بقوله: يجب على الإنسان أن يحرص على جسده لا أن يحبَّه... فعندما يرفعون الصلوات إلى الداو، يضاعفون أعمال الخير، ويصنعون الفضائل، ويزرعون البذرة الرُّوحية، وينبتون الروح، والروح يصنع الخلود السحري، وبذا يغنون النفس. ولكنَّ أولئك الذين يتعطشون إلى الجد والإجلال، ويثقلون بذرتهم الرُّوحية وفكرهم لكي يكسبوا الثروات، ويحشون أجسادهم بالطَّيِّبات، وهذا لعمري جوهر حبِّ الجسد، هؤلاء لا يجمع بينهم وبين الداو شيء. ويثير الاهتمام رأي الداوسيين بصدد المصير. وعن هذا قال فان تشون (العام 100 م): إذا كان الفقر مكتوبًا لصنفك، وأنت اغتنيت بسعيك وكدك، فإنك بعد أن تغتني تموت. وإذا كانت الضِّعة مكتوبة لصنفك، وأنت نجحت بمواهبك ومؤهلاتك أن تبلغ الوجاهة، فإنك أنت الذي حققت الوجاهة، سوف تُخصى. فالقسمة والمصير ليسا بقادرين على احتواء الثروة والوجاهة اللتين اكتسبتا بالقدرات والمواهب والحفاظ عليهما، فهما كالماعون الذي له سعة محدودة. وفيما يخصُّ الأخلاق البشرية، فقد كانت هذه دومًا في الأزمنة كلها على أدنى مستوى. وهذا ما نقرأ عنه في التوراة والقرآن والمصادر الهنديَّة. وهناك أيضًا يجري الحديث عن العصر الذهبي للبشرية، حينما كان كل شيء مختلفًا، حينما كان كل شيء على انسجام مع القوانين الإلهية، مع قوانين الطبيعة، وحسب التوراة إنَّ هذا كان في الجنة قبل أن يخالف آدم وحواء وصية الرَّبِّ ويأكلا من ثمار شجرة معرفة الخير والشَّرِّ. كما تنوِّه المصادر الصينية القديمة بدورها إلى عصر الانسجام: في أزمنة الداو العظيم كان الأطفال مبجَّلين في العائلات، وكان يمكن أن ترصد في البلاد الصدق، والإخلاص، والأمانة، والرحمة، والعدل والواجب. ولكن عندما دخل الداو العظيم دور التقهقر وخرج من حيِّز الاستخدام، وتكالب الشَّرُّ على الحياة، عندئذٍ ظهرت الرحمة، والعدل، والواجب لكي ينقلوا الداو من جيل إلى جيل، وظهر الإجلال البنوي، وعناية الوالدين من أجل أن يرعى الطرفان أحدهما الآخر، وظهرت الرعية المخلصة... وبعد ذلك يُسلب الإنسان الحقيقة المطلقة، وليست الأخلاق البشرية مؤهَّلة لتأخذ مكانها. وقد كتب "الشيخ" يقول: إنَّ الداو وحده القادر على منح المعايير الأخلاقية الحقيقية. ففي حضور الداو يتلاشى الإجلال البنوي وعناية الوالدين، وتختفي الرحمة، والعدالة، والواجب كما يختفي ضوء النجوم وضوء القمر عندما يظهر نور الشمس. وبتعبير أدق، فإن هذه لا تختفي، إنما تكتسب مغزاها الحقيقي العميق، فالأخلاق البشرية، هي في واقع الحال نتيجة لفساد البشرية، وبديل عن الأحاسيس الطبيعية والتواصل مع الحقيقة. وقد دعا لاو- تسزي إلى رمي الحكمة المختلقة الباطلة والمعرفة السطحية البائسة، لأنهما عاجزتان عن منح الإنسان السعادة. ويقول فيلسوف معاصر، إنَّ لاو- تسزي يدعو إلى الامتناع عن الساطع الذي يلفت النظر، لكنه سطحيٌّ طارئ وغير ذي جوهر، والالتفات إلى الجوهر الأبدي والطبيعة المجرَّدة غير المزركشة. ولم يطرح لاو- تسزي سوى ثلاثة مطالب، لكنها أنفس من كثرة منها: رمي الحكمة البشرية كلها، ورمي الأخلاق المبتذلة، والعزوف عن كل حيل الطمع، أي تدمير كل دافع بشري يحرِّض على الفاعليَّة، لقد تلمَّس لاو- تسزي بدقة دوافع التقدم البشري الثلاثة الفاعلة في أبعاد وجوده الثلاثة: التعطش لتحقيق البحبوحة المادية، وهو الذي ينشِّط عملية الإنتاج، والتراكم، وتطوير التقنيات؛ والتعطش للمعرفة، الذي يفضي إلى ظهور العلوم، ثم في آخر المطاف إلى التوسع الكوني للبشرية؛ وأخيرًا المقولات الأخلاقية، المقولات الأيديولوجية التي تدرج هناك حيث لسبب ما فقدت النفعية البشرية أو حب المعرفة فاعليَّتهما. وتدفعنا دعوة لاو- تسزي إلى العزوف عن المعرفة المبتذلة إلى أن نتذكَّر كلمات التوراة: "من تزداد معرفته تزداد أحزانه". إنَّ المعرفة الحقَّة لا تزرع في الإنسان سوى الالتفات إلى علَّة العالم البدئيَّة، أي إلى الداو. إنَّ الداو يخلق الحياة ثوابًا على فعل الخير، ويخلق الموت لكي يخيف الشَّرَّ. فالموت هو ما يخافه الإنسان! ولكنَّ الحكَّام والرجال الأبرار، وكذلك ناس البهرجة الباطلة، سيَّان بالنِّسبة إليهم خوف الموت وفرح الحياة، ومع ذلك يسلكون سلوكًا متباينًا. فالسَّاعي وراء البهرجة الباطلة يخاف أن يموت، ولكنَّه لا يستطيع أن يؤمن بالداو، ويميل دومًا إلى الأعمال الحمقاء: كيف يمكنه أن ينجو من الموت؟ أمَّا الرجل البارُّ فهو يؤمن بالداو خوفًا من الموت، ويلتزم بالتعاليم لأنَّه متوائم مع الحياة. (تشنجان) ومن المفيد أن نؤكِّد على أن الإيمان بالداو والتواصل معه، والسعي إلى عمل الخير، يمكن أن يمنح الإنسان الحياة الأبدية. وهذا ما تقول به التوراة أيضًا. فالصلاح هو الشرط الضروري لكي تثمر بذرة الحقِّ. وعن هذا كتب تشجان يقول: لنشبِّه البذرة بالماء في السَّدِّ الصغير، والجسم الذي يحبس الماء بالسدِّ، وأعمال الخير بالينبوع. وإذا ما اجتمع ثلاثتهم فإنَّ السَّدَّ راسخ قوي وممتلئ بالماء. ولكن إذا لم يكن القلب نازعًا إلى الخير، فعنئذٍ لن يكون هناك سدٌّ يحبس الماء، فيترك هذا المكان ويمضي إلى سبيله. وإذا لم تتراكم أعمال الخير، فإنَّ النفايات تتجمَّع في المكان ويجفُّ الماء. ويتألَّف كتاب الطريق والغبطة من خمسة آلاف كلمة. وقد كرِّست لدراسته ثلاثة آلاف كتاب، عمل كلها على تأويل "كتاب" لاو- تسزي. ولكنَّنا لم نسق هنا سوى بعض ما قاله أشهر المعلِّقين على الكتاب وشارحيه. وها نحن نسوق أيضًا بعض آيات "كتاب" لاو- تسزي، لكي نعطي القارئ تصوُّرًا عن صيغة الكتاب وأسلوبه وخصائصه. الآية 2: تهذيب الذات
فقط
ينبغي على كل مَنْ في أرض السماء (= الصين. م) أن يدرك الآية 3: تهدئة الشعب
إذا لم
تعظِّم الحكماء، فلن ينشب الصراع في أوساط الشعب. الآية 8: بدِّل طبيعتك
الخير
الأسمى كالماء، يحمل النَّفع لآلاف مؤلَّفة من الكائنات، الآية 10: القدرة على الإنجاز
إذا
شبكت روحك السماوية وروحك الزمنية، الآية 16: العودة إلى الأصل
أبلغ
أطراف الخواء، أحتشد في السكون والسكينة. الآية 18: التصاغر الدنيوي
عندما
دخل الداو العظيم طور الانحطاط، ظهرت "الرحمة"، و"العدالة"، الآية 20: الخلق القديم
تخلَّ
عن سعة العلم، فتختفي الأحزان! الآية 21: خواء القلب
إهاب
الغبطة الشديدة مرهون بالطريق فقط، والطريق بعد أن الآية 22: فائدة الخضوع
من
ينحني يسلم، والمتقوس يستقيم، والعميق يمتلئ، والقديم يتجدد، *** فالقول المأثور القديم: "إذا ما انحنيت سلمت" ليس جوهرًا لكلام فارغ إذن. حقًا يحمل معه حكمة. لقد عرف تاريخ الصين أطوارًا أدَّى الداوسيون فيها دورًا مهمًّا في حياة البلاد السياسية، وكانت تلك أدوار الأزمات التي عاشتها السُّلطة المركزية، وساد خلالها الاستياء الشعبي في كل مكان. ويعرف التاريخ انتفاضة "الأربطة الصفراء" التي قادها الداوسيون. فخلال وقت قصير أنشأ الساحر الداوسي تشجان تسزيوي طائفة كبيرة منظمة عسكريًا ومستعدَّة لاتخاذ أيَّ تدابير كانت ضد الحكومة المركزية. لقد كانت تلك نهاية السلالة الخانية، إذ احتشدت حينئذٍ البلايا كلها معًا: الأزمة السياسية، والكوارث الطبيعية، والأوبئة. فبدأت القلاقل. ودعا الداوسيين إلى الإطاحة بالسلطة المركزية. وطرحوا بدلاً منها مملكة العدل الأعظم. فأعلن قائد طائفة الداوسيين تشجان تسزيوي أنَّ العام المائة والأربعة والثمانين سيكون في الصين عام "السَّماء الصفراء". وهو الطور الذي يحمل للعالم السعادة والرخاء، ويضع حدًا نهائيًا لعصر "السماء الزرقاء" (السلالة الحاكمة التي عُدَّت مصدر الشَّرِّ والظلم). لقد عقد أنصار "السماء الصفراء" أربطة صفراء حول رؤوسهم. ولذلك دخلت الانتفاضة التاريخ تحت اسم: انتفاضة "الأربطة الصفراء". ولكنَّ السُّلطة استبقت الأحداث ودمَّرت الانتفاضة. وقد قتل قائد الداوسيين أثناء الأحداث، وفرَّ من بقي منهم على قيد الحياة، غربًا. وكانت تنشط هنا في الأقاليم الحدودية طائفة داوسية أخرى بزعامة تشجان لو. وقد تحوَّل الإقليم إلى ما يشبه الدولة الداوسية المستقلَّة، لأنَّ السُّلطة المركزية انهارت، وامتدَّ الطَّور الفاصل بين السُّلطتين وقتًا طويلاً بعض الشَّيء. (القرون 3-6 م.) لقد قامت دولة الدَّاوسيين هذه وبنيت على مبدأ الثيوقراطيا. فقسِّمت إلى أربع وعشرين طائفة دينيَّة. وقام على رأس كل منها أسقف. وكانت سلطة الأساقفة هذه وراثية. لقد كانت السُّلطة في كل طائفة بأيدي المرشدين الدَّاوسيين. وكان يقف على رأس الدَّولة بطريرك، وسلطته كانت وراثية أيضًا. وبعد العام 1949 م. (بعد الثورة الشيوعية الصيِّنية م.)، انتقل آخر بابوات سلالة التشجانيين هذه إلى تايوان. ترجمة: حسان ميخائيل اسحق ٭ فصل من كتاب أسرار الآلهة والديانات، أ. س. ميغوليفسكي، ترجمة حسان مخائيل اسحق، منشورات دار علاء الدين، ط2، 2006. (الكلمات بين [] هي من وضعنا لاستخدامنا ترجمة أخرى للأسماء في الموقع).
|
|
|