|
المثقف والهاجس المفقود
دوَّنت حضارة بابل التي سُجِّلت على الألواح الطينية ملحمة كلكامش التي تُجسِّد بحث الإنسان عن الخلود، فبعد مسيرة طويلة ومضنية اقتفاءً لأثر "أوتانابشيم" يقول كلكامش، بطل الطوفان، في حوار على لسان "سيدوري" إحدى حوريات الماء التي التقاها بعد نجاته مهتَّزًا لموت صديقه "أنكيدو" مرددًا: وجدت حياتي... أينبغي إذن أن أموت أنا أيضًا كما مات أنكيدو؟ ظلَّ المثقف يبحث منذ أقدم العصور عن معنى الحياة والوجود وعن الفناء والخلود، وكانت الحرية، الهاجس الإنساني، ملازمة له بل لصيقة به مثل ظلِّه، التي بسبب فقدانها أو شحِّها، تستمر معاناته، حتى لتغدو مأساة حقيقية. وقد ازدادت هذه المسألة حساسية، لاسيما بعد الانهيارات الدراماتيكية التي عصفت بالنظام الدولي الثنائي القطبية، الذي نشأ في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وسيادة قطبية أحادية، بعد سقوط النظام الاشتراكي العالمي، وانتهاء مرحلة "الحرب الباردة" وتحوُّل الصراع الأيديولوجي الدولي، وبالأخص بعد أحداث 11 أيلول 2001 الإرهابية والإجرامية، ليأخذ شكلاً جديدًا بادعاء أن التهديد الإسلامي، لا بل أن "الإسلام" بالذات، يشكِّل الخطر الأكبر على العالم، لكونه المصدر الأساس للإرهاب، وذلك بالترافق مع ما سميَّ بالحرب الدولية على الإرهاب واحتلال أفغانستان والعراق. إنَّ هذه التطورات مجتمعة، بالإضافة إلى فشل المشاريع الماركسية اليسارية، والقومية السابقة، ووصول المشروع الإسلامي إلى طريق مسدود، أثَّرت سلبًا على المثقف، خصوصًا في البلدان النامية مما زاد في تشاؤمه وانطفاء الكثير من أنوار روحه الداخلية. لعب المثقفون والمسلمون العرب في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين دورًا متميِّزًا مقتحمين ميادين مهمة شتى، فمن جمال الدين الأفغاني الذي دعا إلى الجامعة الإسلامية، إلى محمد عبده الذي اهتم بتطوير الفكر الديني، وصولاً إلى الكواكبي الذي شدَّد على تغيير نظم الحكم وتحدَّث عن طبائع الاستبداد. أما شبلي شميِّل ومن بعده سلامة موسى فقد دعيا إلى تحقيق العدالة الاجتماعية، في إطار اشتراكي، وبلور علي عبد الرازق فكرة الأصول القائمة على الشرعية لنظام الحكم الإسلامي، وصولاً إلى حداثة طه حسين. وترافق مع ذلك أمثلة تحديثية عديدة في العالم الإسلامي كحركة المشروطة عام 1906 في إيران والحركة الدستورية عام 1908 و"الأتاتوركية" فيما بعد في تركيا، اللذين مالا إلى تحديث نظم الحكم وفقًا لقواعد دستور يضمن ذلك. وعلى الرغم من التطور الذي شهده العالم، فإن الحريات بشكل عام، وبخاصة حرية التعبير والتفكير واستقلالية البحث العلمي، ظلت مفقودة أو شحيحة في الكثير من الأحيان في عالمنا العربي، لاسيما بسبب احتدام الأوضاع السياسية في مرحلة ما بعد الاستقلال، حيث كان يُنظر إليها كمنطقة محرمَّة، ممنوع الاقتراب منها أو تجاوزها، وإنْ سُمح لبعض الهوامش والفرص المحدودة، فقد صادفت حقولاً مفخخة تمَّ زرعها بالعديد من الألغام. ويزخر عالمنا العربي والإسلامي بنماذج عديدة لتحريم الفكر وتجريم التفكير، ومنع حرية التعبير والرأي، والتنكر للتعددية والتنوُّع الثقافي وحق الاختلاف والتعايش مع الآخر، بل وسادت تحت يافطات مختلفة فكرة الرأي الواحد الإطلاقي الشمولي، الذي يدَّعي امتلاك الحقيقة، ويوجب طاعة المحكومين للحكام، حتى وإنْ كانت سلطة الحكَّام لا تستمد أساسها من العدل والشرعية والقانون. إن إدعاء امتلاك الحقيقة يعني حجب حق الآخر في التعبير والتفكير، وحسب أدونيس، فإن ذلك يعني "اعتقال العقل"، عقل "الذات" الآخر، الذي تصبح صورته هي: صورة العدو، الخصم، المشبوه أو العميل بلغة السياسة والأيديولوجيا، والكافر والملحد أو الزنديق والمارق، بلغة بعض رجال الدين المتطرفين. ولعل ذلك هو الوجه الآخر للاستبداد... فمن لا يحترم الآخر، كيف يمكنه احترام الذات (نفسه)، "فليس للطغيان صورة واحدة بل صور متعددة" كما يضيف أدونيس. شهدت معادلة الثقافي بالسياسي اختلالات كثيرة سواءً في ظل سيادة الأفكار النازية في ألمانيا والفاشية في إيطاليا، أو من خلال هيمنة الستالينية ورائدها في الثقافة "جدانوف" في الاتحاد السوفييتي السابق، أو خلال فترة المكارثية في الولايات المتحدة حيث تعرَّض الكثير من المثقفين الى إرهاب منفلت من عقاله، أو في ظل حملة التكفير الإسلاموية بحجة الارتداد والمروق التي سادت في السنوات الثلاثين الماضية، وما رافقها من صراعات عسكرية ودينية وطائفية وصعود لقوى التطرف والتعصب، دون نسيان دور إسرائيل منذ 6 عقود ونيف من الزمان، فضلاً عن الممارسات الدكتاتورية واللاديمقراطية، للعديد من الأنظمة، إزاء المثقفين. وهناك نماذج كثيرة من معاناة المثقفين على المستوى العالمي، من أمثال: لوكاش (المجري)، وغرامشي وتولياتي (الإيطاليان)، وغارودي وآرغون (الفرنسيان)، وبريخت (الألماني)، وغوركي (الروسي)، وعشرات الأمثلة. وفي عالمنا العربي، دفع أعلام كبار ضريبة التباس وتداخل المعادلة الثقافية السياسية، والأمثلة كثيرة مثل: الجواهري، وأدونيس، ومحمود درويش، وسعدي يوسف، وبلند الحيدري، وأميل حبيبي، وعبد الوهاب البياتي، ونجيب محفوظ، ومحمد حسنين هيكل، ومحمد باقر الصدر، ونصر حامد أبو زيد، وأحلام مستغانمي، والسياب، ومعين بسيسو، ومحمد حسين فضل الله، وعزيز السيد جاسم، وهادي العلوي، وعبد الرحمن منيف، وإدوارد سعيد، والطاهر وطار، والمهدي بن بركة، وحسين مروة، ومهدي عامل، وشفيق الكمالي، وشمران الياسري (أبو كاطع)، ومحمد محمود طه، وحيدر حيدر، وصادق جلال العظم وعشرات غيرهم. إنَّ السلطة، أيًّا كانت أنظمتها ملكية أم جمهورية، حزبية أم غير حزبية، عسكرية أم مدنية؛ يمكن أن تصبح مُلكًا عضوضًا كما قالت العرب، إذا ترافقت مع محاولات فرض الرأي بالقوة وغياب الرقابة وضعف المساءلة وتعطيل مبدأ سيادة القانون، أمَّا إذا صاحبتها وسائل تكنولوجية حديثة وأساليب مبتكرة للتضليل مترافقة بالدعاية السوداء وإغراءات مادية، فإنها ستغدو أشد قسوة ووحشية وبعدًا عن الإنسانية، وبالأخص حين تستهدف انتزاع عقيدة أو التبرؤ منها بالتعذيب والإكراه أو بالديماغوجيا والتزييف، بأساليب غليظة أو ناعمة. وعلى الرغم من كل المعاناة التي يعاني منها المثقف فإني مع قسطنطين زريق أقول: إنَّ حفظ المثقف لكرامته وكرامة ثقافته يقوم على مبلغ إخلاصه لهذه الثقافة. المستقبل، الجمعة 8 تشرين الأول 2010، العدد 3794، رأي وفكر، صفحة 19 |
|
|