|
عن سير فلاسفة عرب وروائيتها: أبو الوليد ابن رشد أنموذجًا٭
زمانيًا، كل رواية تصير تاريخية. إنها إجابة على الزمن، الذي، فضلاً عن ذلك، تخلقه،
فهناك رواية الزمن وزمن الرواية. الروايات الأكثر أهمية هي تلك التي تخلق زمنًا،
تصنعه، عوضًا عن الاكتفاء بعكسه. الرواية اللاتاريخية لا توجد، إذ ليس هناك عمل
أدبي أو فني يتموضع خارج الزمن، خارج التاريخ.
رجل في المعرفة الموسوعية، وأخرى في السحر أو بالتدقيق ومن دون مجاز، في هذا السحر
المتعاطف الذي يمكن في الانتقال بالفكر إلى داخل إنسان. تقديم في سياق تحيزي للرواية رأيت من المفيد الإنصات إلى بعض معاديها الكبار، أمثال أندري بروتون وبول فاليري وشيورون، الذين عبروا عن تذمرهم من أدب القرن التاسع عشر الروائي، ومن الرواية عمومًا. وذلك من حيث أنها تنبني على وصف العرضيات المتكررة المملة، المتلفة لمعنى الوجود الأقصى أو المطلق، كما على ثالوث الحبكة – الصراع – الحل، القائم مقام العقيدة الثابتة والركن الركين. لكن الجدير بالإشارة أن السبق إلى ذلك الموقف المتذمر من الرواية كان لبروست نفسه الذي بنى كتابته الروائية الجديدة في البحث عن الزمن الضائع على قراءة العلامات والدلالات بعيدًا عن الروائية Le romanesque، أي هذه الغنائية الجياشة والميلودرامية الجادة العابسة، كما عند بعض روائيي القرن التاسع عشر، أو هذا الإسهال والحشو في الوصف الذري للأشياء والديكورات على امتداد صفحات طويلة مملة، اعترف رولان بارث أنه كان يقفز على أغلبها في قراءته لبلزاك، إلخ. في سياق نقد الروائية، يجدر التذكير أيضًا ببعض مواقف أصحاب الرواية الجديدة أو المضادة (في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي) كمغامرة في مجال الدال، تعطي الأسبقية للأشياء على الشخصيات، وتستقي تقنياتها من وقوفها ضد التحليلات السيكولوجية واللغة المجازية والغنائية، وضد التضخم الفكري والكلامي ودعوات الوجودية الملتزمة. غير أن جماعة الرواية الجديدة قد تأثروا هم أنفسهم – بشكل متفاوت – بروائيين كبروست وجويس وفولكنر ووولف وكافكا، وكذلك وبالأخص، بفن السينما من باب قدرته على الموضعة والتحديد والقياس والوصف، أي على أشكال تملك المكان والزمان. وهكذا يظهر تاريخ الرواية الحديثة كصيرورة جدلية تتقدم وتغتني بتدافع حلقاتها وحتى بدينامية معارضاتها وأضدادها. وهذا ما بات يفطن إليه ويدركه منذ بورخيس روائيو الواقعية السحرية والتاريخ المتخيل، الذين اكتست الروائية عندهم خاصيات وظيفية مميزة فارقة، تستمد جذورها من الألياذة والأوديسا لهوميروس وألف ليلة وليلة ومن أعمال رابلي وسرفنتس وديدرو. وتدلل على جدواها عند فلوبير وكافكا وجويس، كما عند يورسونا ومحفوظ وايكو ومعلوف، وغيرهم. إنها الروائية التي تقوم بالثقافة وفي فضاءاتها الإنسانية الوسيعة، وتستجيب لأفق الكتابة الإبداعية، كعملية مركبة، رافدها الشعور وأيضًا اللاشعور بما ينطوي عليه من منسيات ومكبوتات. وإنها في هذا المنحى عبارة عن مخاض عسير، ولكنه ممتع وملذوذ، إذ تروم إما إعادة تشكيل الواقع أو الدفع به إلى أقاصيه، وإما تذويبه في ضده وبديله. وفي جميع الحالات تتبدى الكتابة وكأنها تحقيق لما لا يتحقق في الواقع، وسبيلها إليه الرؤيا والفانتزم، أو كأنها وصف لما في الواقع من عوج ومسخ وعبث، وأسلوبها فيه السخرية والهزل والباروديا، وغيرها من الأساليب التفكيكية الأخرى. أهواء مصطدمة إن حقل الرواية ومكامن الروائية فيه هو التاريخ ماضيًا كان أم حاضرًا، بما يعج به من أهواء مصطدمة واستيهامات ورغبات وأفعال متضادة أو منتكسة. وما يحقق شرط إمكان الرواية كجنس كلي وسرودها هو اتسام التاريخ انبنائيًا بالدراما كعقدة متحركة متناسلة وبعد رئيس ملازم للوضع الإنساني. وعيًا منها بكل هذه المكونات وغيرها، أكدت فيرجينا وولف في إحدى محاضراتها قائلة: "يلزم أن تلعب الثقافة دورًا بالغ الأهمية في أعمال الكاتب". على سبيل المثال فحسب انطلاقًا من مفهوم الروائية، كما رسمت بعض معالمه، يمكن ولوج عالم عينة منتقاة من الفلاسفة العرب المسلمين من باب سيرهم الذاتية وكذلك الفكرية، متسائلين عن تبدي لحظات وعناصر منها في مرآة روائية قيمة ممتعة. بل عن جواز ارتقاء هذا الفيلسوف أو ذاك إلى مصاف الشخصية الروائية الدرامية الثرية. فهذا الكندي وتيمة البخل التي التقطتها عنده عين الجاحظ الثاقبة الساخرة، وبوأته في سجل أولمبياد "البخلاء" العرب، الذين كانت لطبيعة البخل عندهم امتدادات وآثار في حياتهم العاطفية والذهنية. وهذا الفارابي الذي يمكن اعتباره منشئًا وممارسًا لمقولة ثقافة العزلة الخلاقة. وهذا ابن سينا وعلاقته بالخمر الميسر للفهم، الذي يمكن أن نسجل ملاحظات قصار عن سمات من شخصيته الروائية المشوقة المثيرة. في باب الاعترافات الدالة الحميمة يكتب ابن سينا واصفًا علاقته بالفلسفة الأرسطية وعالمها ومجاهدته في تحصيلها: وكلما كنت اتحير في مسألة، ولم أكن أظفر بالحد الأوسط في قياس، ترددت إلى الجامع وصليت، وابتهلت إلى مبدع الكل حتى فتح لي المنغلق، وتيسر المتعسر، وكنت أرجع بالليل إلى داري، واضع السراج بين يدي، وأشتغل بالقراءة والكتابة، فمهما غلبني النوم، أو شعرت بضعف عدلت إلى شرب قدح من الشراب ريثما تعود إلي قوتي، ثم ارجع إلى القراءة. كما أن فيلسوفنا يذكر لنا أنه قرأ ما بعد الطبيعة لأرسطو أربعين مرة ولم يفهم شيئًا، إلى أن اشترى بالمصادفة من دلاَّل شرح الفارابي ففتح الله عليه القصة. يرى الغزالي أن ذلك الشراب ليس شيئًا آخر غير الخمر، محتجًا بجواب ابن سينا على من اعترض عليه بتحريم أم الخبائث: إنما نهي عن الخمر لأنها تورث العداوة والبغضاء. وأنا بحكمتي محترز عن ذلك، وإني اقصد به تشحيذ خاطري. وهناك ما يدعم هذا الرأي، ليس فقط لكونه أصيب بالقولنج لإفراطه في الشراب والجماع، وإنما أيضًا لما ورد في كتاب يحيى أحمد الكاشي من كلام عن مشاركة الرئيس بدار الأمير في مجالس الشراب بآلاتها ومغنيها، إلخ. والمهم عندنا نحن هو أن نقر، مع غض الطرف عن كل تأثيم ديني، بدور الشراب المسكر وبايجابيته الدفعية التشحيذية في ولوج مجال ذهني مغاير وفتح منغلقه وتيسير متعسره. ابن رشد أنموذجًا خلافًا لابن سينا والغزالي وابن حزم وابن منقذ وابن خلدون، وغيرهم، لم يخلف أبو الوليد ابن رشد سيرة ذاتية أو فكرية من شأنها أن تمدنا بمفتاح آخر لتعميق فهمنا بفيلسوف قرطبة ومراكش. وبالرغم من وجود نتف عن سيرته في مصادر معروفة لمؤرخين وتراجمة (الذهبي، ابن ابي اصيبعة، ابن الابار، الأنصاري..) إلا أنها إجمالاً لا تسعفنا حقًا في نيل ذلك المفتاح واستعماله. ولعل أهم العوائق والثغرات تثوي في بعض مواقف ابن رشد ووجوه سيرته، وكلها تسهم بنحو أو آخر في الحؤول دون استثمار حياته روائيًا على شكل دينامي ثري؛ ومن تلك الوجوه والمواقف: اتصاف أبي الوليد بقلة الحركة، إذ إنه لم يتعد ثالوثه المتقارب الأضلاع: قرطبة – اشبيلية – مراكش؛ فلا حج قضاه ولا سياحة ولا سفارة ولا حضور في معارك حربية، أقربها إليه معركة سنتريم مع جيش الفونسو الثامن، التي قتل فيها أبو يعقوب يوسف سنة 580 هـ/1183م، وأيضًا معركة الأرك التي انتصر فيها أبو يوسف يعقوب (المنصور) على القشتاليين في 591/1195. حسب علمنا، كان ابن رشد متزوجًا بامرأة واحدة وربما أكثر، وله ابنان، أبو القاسم وأبو محمد (أو عبد الله)، كانا يشتغلان بالطب والعلوم الحكمية. لكننا بالكاد لا نعرف شيئًا عن حياته العاطفية في عشرة الأهل والنساء. ولو أننا في المقابل نعلم موقفه الإيجابي، المتقدم على عصره، من النساء وما جبلت عليه بعضهن "من الذكاء وحسن الاستعداد، فلا يمتنع أن يكون لذلك بينهن حكيمات أو صاحبات رياسة". أما بقاؤهن دون مواهبهن وقدراتهن في الأندلس (وباقي البلاد الإسلامية) فلأنهن "اتخذن للنسل دون غيره وللقيام بأزواجهن وكذا للإنجاب والرضاعة والتربية، فكان ذلك مبطلاً لأفعالهن (الأخرى)". نفور صاحبنا من بعض الآلات الموسيقية، تتقدمها آلة الدف، وكذلك من الغلو التخيبيلي المعتمل في الأسطورة تخصيصًا، كما يمثل عليها بنموذج اير Er في مؤلفه تلخيص كتاب السياسة لأفلاطون (أي محاورة الجمهورية) بالمعاد ومصير النفوس في العالم الآخر، والواردة في الفصل العاشر، الذي أسقطه الملخص من عمله علاوة على فصول أخرى بدعوى "تجريد الأقاويل العلمية الضرورية"!. نزوع صاحبنا إلى التحفظ من أغراض في الشعر العربي كثيرة، ولم يكن يعرف سواه، إذ غالبًا ما يصدر فيه أحكامًا قيمية أخلاقية، مستوحاة أساسًا من الموقف القرآني، فيذهب إلى تأييد ما قرأه عند الفارابي: وأكثر أشعار العرب إنما هي كما يقول أبو نصر في النهم والكريه. وذلك أن النوع الذي يسمونه النسيب إنما هو حث على الفسوق. ولهذا ينبغي أن يتجنبه الولدان... ولا يستنثي من ذلك إلا ما يسميه "الشعر العفيفي"، المعرض عن القول المأثور "أعذب الشعر أكذبه"، ويستشهد في بابه بأبي الطيب المتنبي وإلى حد ما بأبي فراس الحمداني وأبي العلاء المعري، ودونهم المحدثون ولو كانوا من صنف حبيب أبي تمام. ومعيار الشعرية عند ابن رشد هو التوفيق في التعبيرات (بالتشبيه والإبدال والموافقة والموازنة)، أي في إخراج القول غير مخرج العادة، وما خلا ذلك فليس في الشعر "من معنى الشعرية إلا الوزن فقط". وقوف ابن رشد ضد التصوف، من دون تمييز، بسبب دعواهم الاقتدار على تحقيق الاتصال بالعقل الفعال بلا حاجة إلى درس وعلم، وهذا عنده خرافة ووهم. الحكمة لكن، بالرغم من تلك العوائق والثغرات، هناك لحظات ومحطات في منحنى حياة ابن رشد قد تعوض عنها أو تهونها، بشرط إعمال منتج ذكي للافتراض التخييلي كلما دعت إليه الضرورة والحاجة. ولعل مشروعية هذا الإعمال تقوم في ظاهرة ضياع كثير من كتابات ابن رشد، بعضها، وهو قليل، استرجعناه في غير لغته الأصلية، أي بواسطة ترجمات عبرية أو لاتينية وبعضها ما زال في حكم الفقدان، ولا سبيل إلى تلمسه وتمثله إلا بالتكهن والافتراض والتخييل. زمنية مفكرنا قروسطية بامتياز، دينيًا وذهنية وحساسية. بالطبع، لا مناص من أن تكون الرواية عن ابن رشد فلسفية، كما يقتضي المقام، ولكن بما ينسجم مع خصوصيات البناء السردي وتقنياته، منها مثلاً: تحويل بعض المسائل والعقد الفلسفية، وحتى العويصة المتصعبة منها، إلى كيانات أو كائنات حية متحركة متسلسلة (كقدم أو حدوث العالم ونظرية العقول وفكرة وحدة العقل، إلخ). ومثيل هذا فعله مبدع الواقعية السحرية لويس خورخي بورخيس في قصته القصيرة مبحث ابن رشد La busca de Averroës في مجموعته الألف، حيث يركز على إرجاع مفسرنا الكبير مفهومي تراجيديا tragodeia وكوميديا comedia عند أرسطو في فن الشعر إلى مفهومي المديح والهجاء عند العرب، ويساير الروائي هذه الأقلمة الرشدية بالمثل الملموس بالمثال وإرادة التقريب في وسط لم يعرف فن المسرح والتمثيل، كما عرفه الإغريق. الوقوف على شهية ابن رشد المعرفية (orexi tis episteme بالتعبير اليوناني) وبالتخصيص محبته للفلسفة مشخصة في معاشرته المديدة الوفية حتى آخر العمر للذي "كمل عنده الحق"، وتصدق عليه الآية 54 من سورة المائدة "ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء"، حسب أبي الوليد، وهو "واسع الجبهة، أحلج الرأس"، أرسطو الذي يُروى أن الخليفة المأمون رآه وحاوره في المنام (كما في أخبار الحكماء للقفطي والفهرست لابن النديم). إن هذا الفيلسوف اليوناني الفذ، الذي ظل تلميذ أفلاطون في الأكاديمية مدة عقدين من الزمان، ثم استقل عنه بفتح مدرسته (ليكيون) لهو الأجدر والأولى بأن بشخصه تمثال المفكر للناحت الفرنسي أوغست رودان، فيما يُظهر نصب ابن رشد بقرطبة ورسومه اللاتينية كرجل قراءة بامتياز. ولا بد للروائي أن يبرز عند أبي الوليد محبة العمل التحصيلي والبحثي وأخذه كتاب العالم عبر النص الأرسطي بقوة الشوق والعزم والتفاني، إذ لم يشغله عن هذا الكتاب إلا يوم زواجه ويوم وفاة أبيه، كما يروي ابن الأبار في التكملة. ولم تكن معرفة ابن رشد بلغة واحدة، لغته العربية، لتثنيه عن الخوض فيما لم يصله إلا عبر الترجمة، فرأيناه في تلخيصاته وتفاسيره يستقبل مفاهيم أرسطية بعباراتها اليونانية، ومنها: الهيولي (المادة القابلة لحمل الصور) - الاسطقسات (العناصر الأربعة: الماء والهواء والتراب والنار) - كاطيغوريا (المقولة) - ريطوريكا (الخطابة، البلاغة) - فيلوصوفيا (فلسفة) - موسيقوس (موسيقى) - أوقيانوس (بحر المحيط) - نوموس (ناموس، قانون) - سوفسطيكي (سفسطائي) - سلجسموس (قياس منطقي) - أطرون (الشهواني، النزق) - ألفبطوس (أبجدية) – أكاديميا - ... إلخ. ولا ريب أنه في تلخيص كتاب السياسة الضائع قد استعار من اليونانية إلى العربية مفاهيم مثل: ديمقراتييا (حكم الشعب) - مونارخيية (حكم ملكي) - بلوتوقراتييا (حكم الأغنياء) - أوتوقراتييا (حكم الاستبداد أو "وحدانية التسلط") - بوليس (المدينة) - ... إلخ. البرهانية روائيًا، لعل من أبرز الصور الرائعة المؤثرة عند صاحبنا هي تلك الواردة في تلخيص المجسطي، الضائع أصله العربي (المنقول إلى العبرية)، ويرجع إذًا إلى مرحلة الجوامع الأولى epitomes وربما مرحلة التلخيصات، ومفاد الصورة في افتراض أبي الوليد أن حريقًا شب في بيته، فحدا به إلى الكد في إنقاذ الضروري والنافع، أي بالجمع المستطاع والتلخيص المخلَّص، حتى إن البرهانية باتت عنده كغربال للتصفية والانتقاء. ولا ريب أن في تلك الصورة ما يوحي بأن ابن رشد كان يحس بأنه يعاني ويعيش اضطراب الوقت واهتزازه ونهاية مرحلة وعهد. محطة أخرى في سيرة ابن رشد العلمية، وهي روائيًا مادة خام قابلة للتفعيل: إنها حسه السجالي بل الصدامي (البوليميكي) الفائق، الذي جعله في معارضة حادة لأغلب الفرق والأسر المذهبية، أهمها الفقهاء، "ومعظمهم، حسب حكمه، هكذا نجدهم، أي أهل رياء"، لا يقدرون إلا على المكوث بين الفروع دون الأصول وإعمال "القياس الظني" وحده، ثم المتكلمون الذين، حسب تعبيره، "في قلوبهم زيغ وفي قلوبهم مرض"، ويعارضهم بمنطق "البرهانية" الأرسطية (أي يسفسطهم به)، وقد يبدو أحيانًا مستثنيًا المعتزلة، الذين يعترف في كتابه الكشف عن مناهج الأدلة أن مصنفاتهم لم تصل إليه، ونظريتهم في المبدأ الأول قريبة من نظرية الفلاسفة. أما جام غضبه فيصبه على الأشاعرة، أصحاب المذهب الذري والقول بنفي السببية، وهم الذين يمثلهم الغزالي، وأصدر ضدهم ابن رشد الجد فتوى انتقاد وتعريض. وحتى الفلاسفة، كالفارابي وابن سينا، فإن أبا الوليد عمومًا يتهمهم بالتخرص وتحريف كلام المعلم الأول،... إلخ، بل وحتى الأطباء ("أطباء وقتنا"، كما يقول) فإنه يذهب من باب الرصد إلى انتقاد اكتفائهم بالطريقة "الكناشية" التفصيلية الاجتزائية دون النظرية والكليات. نكبة ابن رشد أخيرًا، تجدر الإشارة إلى ما اصطلح على تسميته "نكبة ابن رشد": هذه النكبة، ولو أنها أقل درامية مما قيل، نظرًا لظرفيتها وقصر مدة نفي "المنكوب" جراءها إلى قرية أليسانة اليهودية ببادية جنوب غرب قرطبة، فلا بد أن تهم الروائي لحاجة في نفسه يريد قضاءها، لكن ليس على طريقة يوسف شاهين في فيلمه المصير، حيث تكثر الأخطاء والمغالطات التاريخية البليغة وتتناسل. أعلم النكبة بأسباب وتعلات رواها تراجمة ومؤرخون، بعضها يبلغ من الاحتمال والرجحان درجة مقبولة أو مستساغة. اختصارًا، إن نكبة ابن رشد أو محنته (وقد عرف مثلها الفقيهان أبو جعفر الذهبي وأبو عبدالله محمد بن ابراهيم) مهما يكن كلامنا فيها وتأويلنا لها، فلا مناص من استحضار الظروف والملابسات المحيطة بها، ومنها تخصيصًا: حرب الأندلس. ختامًا، إخال أن فيلسوف قرطبة ومراكش مات وفي صدره غصة، لكون الوقت لم يمهله لكي يضع كتابًا كان يحلم ويحمله بالقوة، فلم يخرجه إلى الفعل، وذلك لشدة انقطاعه إلى تراث الإغريق (والأرسطية أساسًا) وتفانيه في تلخيص نصوصه وتفسيرها، وأيضًا بسبب "الكُرب" و"اضطراب الوقت"، حسب تعبيره، وهو القائل بصريح اللفظ في مختصر علم النفس: "وإن فسح الله في العمر وأفرغ عن ضيق الوقت فسنكتب بقول أشد استقصاء...". هذا الكتاب الاستقصائي الإبداعي هو الذي مهدت له كتابات ابن رشد التحصيلية والاستكشافية السالفة، ولكن لم "تمتخض زبدته" و"تسل شآبيبه على الفكر"، كما حصل لابن خلدون بعد ابن رشد في قلعة ابن سلامه مع المقدمة والعبر، هذا الكتاب هو الذي على الروائي المفكر اليوم أن يتصوره ويتخيله حتى يكتب عنه أو شيئًا منه، آيته في ذلك الإسهام في إنجاز ما تمناه ضمنيًا الشيخ الرئيس ابن سينا في إقراره بكون المشائي المسلم مشغولاً عمره بما سلف، ليس له مهلة يراجع فيها عقله، ولو وجدها ما استحل أن يضع ما قاله الأولون موضع المفتقر إلى مزيد عليه وإصلاح وتنقيح إياه... المستقبل، الأربعاء 21 تموز 2010، العدد 3717، ثقافة وفنون، صفحة 20 ٭ قدمت هذه الورقة في الندوة الفكرية التي عقدتها مجلة العربي في دبي.
|
|
|