|
شارع العطايف
للسعودي عبد الله بن بخيت:
لا يمكن قراءة رواية شارع العطايف للكاتب السعودي عبدالله بن بخيت (دار الساقي) من دون أن نشعر بأن أنفاسنا مخطوفة. ينجح الكاتب في شدِّ انتباه القارئ بشكل تام منذ الأسطر الأولى. إنها رواية الحقيقة القاسية، الفجَّة والعارية، التي لا يتدخل قلم الكاتب في تلطيفها وتجميلها. لأجل ذلك ليس من المبالغ القول إن الرواية تمثل إحدى الكتابات الفريدة في الأدب السعودي، الذي بات يعكس للوهلة الأولى في أذهان الكثيرين بأنه يستفيض حصرًا في وصف وضع المرأة في السعودية. لكن بن بَخيت يكشف الستار الأكثر سرية وعمقًا عن هذا المجتمع، ليُرينا الظلم الفظيع الذي يتعرض له الرجل، وأنه ليس هناك ظلم منفصل للمرأة، وظلم منفصل للرجل. فالظلم واحد يقع على الجنسين: إنه ظلم إنساني. إنها رواية العار الإنساني الذي يكشفه عبدالله بن بَخيت من خلال قصة ناصر، الشاب السعودي الوسيم، الذي يتعرض لاعتداءات جنسية متواصلة على يد رجلين انتهكا شبابه، ومارسا معه الشذوذ بالإكراه، ثم على أيدي رجال آخرين: ناصر الذي صار لقبه فحيج، وهو لقب يدل على دونيته وتقمصه دور المرأة في الفعل الجنسي – لقب تحقير وانتهاك – ناصر الذي يتحوَّل رجلاً عاهرًا، يبذل جسده لآخرين مُرغمًا، على رغم أنه لا يشعر بأي ميل جنسي إلى الرجال، فهو متيم بابنة عمه. شارع العطايف هي إذًا رواية الاستعباد الجنسي الصامت والمطمور بألف ستار وستار في مجتمع يفصل بين الجنسين فصلاً تامًا، وحيث لا يمكن الرجل أن يرى وجه امرأة، وأن يتحدث إليها، وأن ينظر في عينيها. في ظل هذا الجو الكابوسي، تبدأ أمراض فتاكة تنهش في الروح والجسد معًا، ويبدأ وحش الغريزة الهائج يجد متنفسًا له. ناصر الذي صار "الرجل العاهر"، يحاول أن ينسى الذل والقهر والاعتداءات الجنسية المتكررة التي يتعرض لها، بشرب الخمرة. إنه "محرم" آخر، لا يقل خطورة وأهمية عن الاختلاط بين الجنسين. هكذا ينقلنا الكاتب إلى الأقبية السرية التي يُصنع فيها العرَق، وعلى رغم العقوبات القاسية التي يتنكبها شاربو الخمرة ومصنِّعوها فإن الرجال يشربونها، ومن لا يتمكن من شرائها، شرب الكولونيا. والكثير من شاربي الكولونيا يموتون. أجواء مشحونة بالتوتر والشهوة الحيوانية المريضة التي لا تجد لها متنفسًا طبيعيًا. أجواء قاسية متوترة، تتخللها مشاهد تصف بدقة كيف تُقطَع يد السارق، وكيف تغمس بالزيت الحار كي يتوقف النزف. إنها أجواء الشبق المكبوت للجنس الآخر، والخمر الرديء. كل هذا يدفع بالكثير من الشباب والكهول إلى جمع المال لغاية وحيدة هي السفر إلى جزيرة اللؤلؤ، الجزيرة التي تجسد الأحلام المكبوتة، جزيرة يتوافر فيها الخمر والنساء. هناك يقف الرجال في طابور طويل في انتظار مضاجعة امرأة، امرأة عارية كخرقة مستلقية على الفراش، كأنها في غيبوبة، تخصص لكل رجل عشر دقائق لمضاجعتها، امرأة تختزل نفسها ويختزلها الرجال إلى عضو جنسي فقط. لا يمكن أن نستوعب كيف أن شابة في العشرين، جميلة ونضرة، تضاجع ما يقرب من مئة رجل في اليوم. ونتساءل: ما ظروف هذه الفتاة؟ ما الذي قذف بها إلى جزيرة اللؤلؤ؟ ما من إجابات يقدِّمها لنا بن بَخيت. الجانب الأهم في الرواية أنها تفضح من دون أن تغرق في التحليل، وتظهر كيف أن هذه الأجواء المريضة والمشحونة تقود إلى أشكال من الجرائم، مروِّعة بقسوتها. فناصر أو فحيج، ينتقم من سويلم ومن فطيس، وكلاهما كان يتناوب على اغتصابه في المقابر، فيقتل سويلم بطريقة وحشية، ويقطع عضوه الجنسي. إنها رواية لا نجد فيها أحدًا سويًا، لا امرأة، ولا رجلاً. حتى الأمير الطيب الذي يدفع المال بسخاء لتشجيع رياضة كرة القدم، نجده منساقًا لدجَّال يبتزُّه بالسحر. وحين يعلم الأمير أن هذا الساحر دجَّال، يأمر بإعدامه. ثمة حالة من التفسُّخ الأخلاقي والوجداني مستمرة وسط هذا الفصل التام بين الجنسين، كما لو أن الخلاصة الوحيدة التي يريدنا الكاتب أن نتوصل إليها هي أن كل أشكال الأمراض النفسية والانحرافات سببها الفصل بين الجنسين. فالحياة رجل وامرأة، يجب أن يلتقيا في بعدهما الإنساني أولاً قبل أن يلتقيا كجنسين. روعة الرواية أنها تصور المعتدي والضحية، كضحيتين لعقلية اجتماعية ظالمة، ولقيم وعادات ما عادت مقبولة: المعتدي والضحية هما في الخانة نفسها بالنسبة إلى بن بخيت. ثمة حلقة مفرغة، والخطأ تتوالد منه أخطاء. مجتمع مُرعب، من الانحراف إلى شرب الكولونيا سرًا، إلى قطع يد السارق، إلى الرجم بالحجار، إلى الإعدام، إلى النساء المغيَّبات تمامًا وراء ألف حجاب وحجاب. كل هذه المظاهر مغطاة بستار التدين. الدين الذي هو بريء من كل هذه الممارسات، الدين الذي وُجد لسعادة الإنسان وراحته وإنسانيته. العفة الزائفة التي يطرحها هذا المجتمع، عفَّة تفوح منها رائحة العفن، ومظاهر التدين زائفة وشكلية هدفها سحق الإنسان وسجنه في طقوس وعادات هي أبعد ما تكون عن جوهر الدين. شارع العطايف رواية رائدة ومميزة في الأدب السعودي بشكل خاص، والأدب العربي بشكل عام. وقد تكون هذه الرواية بادرة تغيير جدي في المجتمعات العربية المغلقة. الإنسان وجه أولاً، وعلى الرجل والمرأة أن يملكا كل الحرية كي يتأملا وجهيهما، كي ينظر كل منهما في عيني الآخر. يحضرني الآن أنني قرأت في كتاب عن الأساطير القديمة أن جهنم هي أن يجلس الرجل والمرأة وظهرهما متلاصقان، أي ألا يتمكنا من رؤية وجهيهما. وضع الرجل والمرأة في معظم عالمنا العربي يشبه جهنم. النهار |
|
|