|
الفسيفساء: فن عريق ومتجدد
مقدمة هل شاهدت يومًا لوحة فسيفساء كبيرة ممتدة على عدة أمتار طولاً وعرضًا؟ وهل اقتربت منها فإذا بالتفاصيل تصبح صفوفًا من حجارة صغيرة مربعة أو مستطيلة أو مثلثة أحيانًا بألوان مختلفة اجتمعت في تناسق بديع؟ وهل رأيت كيف شكلت زخارف أو نباتات أو حيوانات أو أشخاصًا أو أشكالاً أسطورية؟ وهل أمعنت النظر فأدركت مهارة وأسلوب الفنان الذي قام برصف مكعبات هذه اللوحات، والجهد المبذول فيها والمنهج المتبع في بنائها؟ فإذا أقبلت عليها محاولاً سبر جمالها، أدركت من فورك أن المشهد لا يظهر إلا عن بعد. فتتراجع وقد عرفت أن هذا الجمال ينطوي على كمال اختيار الألوان والحجارة المشذبة، ووضع الرسم الأصلي الذي ركبت عليه، فإذا التراصف الدقيق والعمل الدؤوب يولدان هذا التناغم الآسر من المشاهد التي تكاد تأخذك في عالم من الخيال والسحر. إذا زرت متاحف سورية الكثيرة والغنية، فلا بد أن تصادف إحدى لوحات الفسيفساء الكثيرة والشهيرة التي وجدت في المواقع الأثرية في بلدنا، ونقلت إلى أحد هذه المتاحف. وإذا سنحت لك فرصة لزيارة أحد المتاحف الخاصة بعرض هذه الفسيفساء، مثل متحف شهبا أو معرة النعمان أو أفاميا وغيرها، فلا بد أن الدهشة ستتملَّكك وأنت تدخل أحد الأجنحة فإذا بأرضيات وجداريات ولوحات من الفسيفساء التي تصور مختلف المواضيع، وقد امتدت أمامك فيأسرك جمالها ويدهشك ما فيها من دقة وتميز وفنٍّ. سنحاول في هذا الكتاب تتبع قصة فن الفسيفساء، وتطوُّر تقنياته، وأساليبه ومدارسه، خاصة أنه كانت لبلادنا في هذه القصة مساهمات أساسية وإبداعات تضاف إلى إبداعاتنا الكثيرة التي قدمناها للإنسانية عبر العصور.
إلهة البحر تيتس، إحدى أجمل فسيفساء متحف شهبا، وتظهر بشعر كثيف يختلط بالأسماك حيث يرمز لون الشعر إلى رمال الشاطئ بينما ترمز الأسماك إلى خيرات البحار وعلى جبهة تيتس نجد نجم البحر يرمز لجماله وعلى كتفها الأيسر مجداف يرمز لمهاول ومخاطر البحار لمحة تاريخية تعود أولى اهتمامات الإنسان القديم بالفن إلى عشرات آلاف السنين. ولدينا أمثلة رائعة على ذلك في الرسوم التي تركها في مغاور أوروبا خلال العصر الجليدي الأخير، حيث لجأ الإنسان إلى أعماق الكهوف وترك لنا رسومًا رائعة تعبر عن حياته اليومية وعن بعض جوانب الطقوس التي تشير إلى بداية التأمل الديني والروحي لديه.
رسوم من مغارة لاسكو في أوروبا، وتعود إلى نحو 35000 سنة قبل الآن وفي سورية، اكتشفت البعثات المنقِّبة في مواقع كثيرة، تعود إلى بدايات استقرار الإنسان في قرى صغيرة وتدجينه الحيونات واكتشافه الزراعة، ملامح كثيرة من بدايات الفن التصويري. وقد جاءت اكتشافات جرف الأحمر وجعدة المغارة شمالي سورية على الفرات خلال السنوات القليلة الماضية لتتوِّج هذه المرحلة برسوم جدارية تعود إلى الألف التاسع ق.م.
الرسوم الزخرفية الهندسية الشكل على ثلاثة جدران في موقع جعدة المغارة، يصل ارتفاعها 2 م وبثلاثة ألوان هي الأبيض والأحمر والأسود. أصبح الموقع يعرف بـ "بيت الرسومات". وهي الأقدم من نوعها حتى الآن
موقع جعدة المغارة الذي اكتشفت فيه أقدم الزخارف الملونة على جدران
زخارف جعدة المغارة الملونة على جدران صخرية يشير ذلك إلى أن الإنسان طور تقنيات الرسم والتلوين، وفن الزخرفة والتعبير الجمالي، مع تطوُّر حياته المستقرة واختراعه العديد من الأدوات والصناعات التي جعلت حياته أكثر راحة وأمانًا وصحة. ومع تطوُّر المدنيات الأولى في الشرق الأدنى القديم، خلال الألف الرابع قبل الميلاد، كان الإنسان قد بدأ ببناء البيوت والمعابد والقصور، وراح يزيِّن أرضياتها بل وجدرانها بالرسوم والحجارة الملونة في لوحات زخرفية جميلة تمثِّل أولى فنون الفسيفساء المعروفة حتى اليوم.
نقش أثري يمثل جوانب من الحياة اليومية في الدولة السومرية (2850 – 2400 ق.م.) ويختلط فيه فن النحت ببدايات فن الفسيفساء لا شك أن فن الفسيفساء الوليد انتشر منذ عصور قديمة عبر تلاقح الحضارات الرافدية واليونانية والفارسية في المنطقة، ليتطوَّر وفق أساليب محلية في حضارات مختلفة. وقد بلغ أوجه خلال العصر اليوناني ثم الروماني في كامل حوض البحر الأبيض المتوسط، خلال القرون القليلة السابقة للميلاد والقرون الميلادية الأولى. واقترن تطوُّر صناعة الفسيفساء مع بناء الكنائس التي صورت مشاهد من الحياة المسيحية على أرضياتها وجدرانها.
جانب من فسيفساء كنيسة الشهيد يوحنا في قرية النبعة – جرابلس، شمالي شرقي حلب، وتعود إلى العصر البيزنطي في بداية القرن الخامس للميلاد وشهدت تقنياته ومواضيعه تغيُّرات وتطوُّرات عديدة على مرِّ القرون التالية. ولقي اهتمامًا خاصًا خلال العصر الإسلامي من قبل الخلفاء والملوك والأمراء، فزُيِّنت القصور والجوامع بمزيج من فنون النحت والحفر والإكساء بالفسيفساء، ما خلق فنًا متميزًا فيه من السحر ومن الصنعة ما يدهش.
جانب من فسيفساء الجامع الأموي بدمشق، حيث تختلط الأشكال الهندسية مع رسوم نباتية في دقة وصنعة رائعتين وقد عاد فن الفسيفساء اليوم للازدهار، حيث توجد مدارس كثيرة تعلم أساليبه وتقنياته، وتأخذ فيه الرسوم ذات المواضيع الحديثة حيزًا كبيرًا. وباتت لوحات الفسيفساء الحديثة تستخدم في تزيين جدران وأرضيات البيوت والمخازن والمباني العامة.
تشكيل فسيسفائي حديث غير أن أهم ما سلط الضوء على أهمية فن الفسيفساء عبر التاريخ هو الاكتشافات المعاصرة التي تمَّت وتتمُّ في سورية وإيطاليا وتركيا واليونان وتونس والأردن وغيرها. إن المتاحف السورية تزخر اليوم بلوحات الفسيفساء التي تحكي قصص وأساطير وتاريخ هذا الفن عبر العصور، وتقدِّم لنا مشاهد حيَّة من حياة الإنسان القديم في أعماله واهتماماته اليومية أو في فكره وطقوسه وملاحمه. وتساهم اكتشافات علم الآثار في معرفة أهمِّ المراحل التي مرَّت بها تقنيات هذا الفن، وأهمِّ مدارسه وأساليبه والمواضيع التي تناولها عبر عصوره المختلفة.
لوحة هرقل الرائعة التي تعود إلى القرن الثاني الميلادي أي إلى الفترة الرومانية وتتميز بكعوبها الدقيقة والمتناسقة وبألوانها الرائعة وتحكي قصة تأسيس الامبراطورية اليونانية (متحف معرة النعمان)، سورية أصول تقنيات فن الفسيفساء الفسيفساء لوحات مختلفة الحجوم، تشكل أرضيات أو لوحات جدارية في البيوت والمعابد والقصور والكنائس والجوامع، وهي تتشكَّل من قطع صغيرة من الأحجار والرخام والجرانيت والبلُّور والخزف والأصداف والأخشاب، ترصف في تناسق جنبًا إلى جنب لتؤلف لوحات تستخدم في إكساء واجهات المباني أو أعمال الزخرفة الداخلية والخارجية والأرضيات. وهي تتميَّز بثبات ألوانها وأشكالها لأنها مبنية من مواد طبيعية. وتعدُّ من أهم مواد البناء المستخدمة في زخرفة وتزيين المباني.
إنه فنُّ التلاحم والتشابك بين قطع صغيرة الحجم من الحجارة ذات ألوان مختلفة بهيجة، فإذا بها تشكل صورًا تنبعث حية وجميلة من تراصف بسيط. لقد استطاع الفنان بأدواته البسيطة وقدرته الخلاقة أن يترجم فلسفات حضارية كاملة في ألوان متعددة عبر قطع مكعبة الشكل لا يتعدَّى حجمها السنتمتر الواحد، من الرخام أو الزجاج أو القرميد أو البلور أو الصدف أو أية مواد أخرى ثابتة اللون قابلة للقطع والصقل. فكيف تطوَّرت هذه التقنية وإلى أين ترجع أصولها؟
نقش أثري يمثل جوانب من الحياة اليومية في الدولة السومرية (2850 – 2400 ق. م.) ونلاحظ اختلاط فن النحت ببدايات فن الفسيفساء وتجميع الحجارة الملونة تعود أولى الأعمال المكتشفة التي يمكن اعتبارها سلف فن الفسيفساء إلى معبد الوركاء بمدينة بابل حيث كان سكان بلاد الرافدين أول من استخدم الطوب (أو اللبن) المزجج في تزيين جدران الأبنية بأشكال هندسية متعددة، وكان لهم الفضل في تطوير أساليبه، من حيث المواد المستخدمة التي قاموا بتقليل أحجامها إلى أقل قدر ممكن حتى تتعدد ألوانه وتصبح الصور أكثر وضوحًا، إضافة إلى مهارة التشكيل وحرفية التركيب الذي أخرج أبدع لوحاته في باب عشتار، وجدران شارع الموكب وقاعة العرش في بابل. وقد انتقل هذا الفن خلال القرون التالية إلى آسيا الصغرى واليونان، حيث ذاع صيته واتخذ قوالب فنية جديدة، وتطوَّرت تقنياته وتبلورت أساليبه خلال الحضارة اليونانية ثم الرومانية. ولكن، يظل علينا أن نتصوَّر كيف ولد هذا الفن عبر مراحل أكثر قدمًا، تعود إلى بداية الاستقرار في مدن صغيرة، ونشوء أولى الممالك وما رافق ذلك من نهضة في كافة مناحي الحياة، الاقتصادية والاجتماعية بل وكذلك الفنية والفكرية والتقنية. وقد ساعدت التجارة البعيدة المدى في توفير المواد الأولية التي نجح الحرفيون والفنانون لاحقًا في تحويلها إلى لوحات جميلة. فنحن نعرف أن مبادلات المواد المختلفة، ومنها الحجارة الكريمة المتعددة الألوان، كانت تتم مع مصر وشمالي أفريقيا ومع إيران وأفغانستان والأناضول، حيث كانت بلاد الرافدين والشام تشكلان ممرًّا طبيعيًا لهذه المبادلات التجارية. وهكذا، مع توافر المادة الخام في المنطقة، إضافة إلى الصلصال الذي كان استخدامه قد تطوَّر بحيث باتت تُشكَّل منه قوالب اللَّبن (قوالب من الطين والقش) لبناء البيوت والمعابد والقصور، بدأ حرفيو الحضارة السومرية والبابلية بتعشيق الحجارة الملونة في كتل الصلصال المعدة للبناء، فكانت أولى لوحات التزيين الفسيفسائية في التاريخ.
أعمدة زخرفها السومريون بأسلوب شبيه بالفسيفساء، وجدت في أوروك في وادي الرافدين وترجع إلى بدايات الألف الثالث قبل الميلاد، وهي محفوظة اليوم في متحف ستاتليخ في برلين
بوابة عشتار (فسيفساء الطوب، وبدايات فن الفسيفساء) عصر نبوخذ نصر الثاني (604 – 562 ق م)
مشخوشو، الوحش الذي يرمز إلى الإله مردوك على بوابة عشتار في مدينة بابل
مشهد بوابة عشتار في متحف برغامه في برلين تمثلت بداية الفسيفساء إذًا في نحت أشكال مختلفة من العاج والأصداف والحجارة المختلفة يتم تثبيتها على سطح خشبي مغطى بمادة القار، أو على كتل من اللبن من الطين والقش يتم تجفيفها بعد غرز الكتل الحجرية الملونة فيها. وتطوَّرت هذه الطريقة باستخدام مقاطع متعددة الأحجام من الطين، يتم وضعها في قوالب حتى تجف ثم تشوى بالنار في أفران خاصة، وبعد ذلك تلون الأرضيات باللون الأزرق بينما تلون القطع التي تتكون منها الأشكال المختلفة بألوان أخرى، ويتم إدخالها الفرن مرة أخرى في درجات حرارة عالية لتصبح ذات ألوان مزجَّجة، يتم تركيبها جنبًا إلى جنب لتكوِّن مناظر مختلفة الموضوعات، منها ما يحكي أسطورة أو معركة أو مناظر طبيعية للشمس والقمر وتكوينات نباتية ورسوم للحيوانات والأسماك. إن الأمثلة التي وصلتنا من بابل عبر أكثر من ألفي سنة قبل الميلاد، تشكِّل مثالاً على ذروة تطوُّر هذه التقنية التي تشكل بحق بداية لفن السفيسفاء الذي ظهر أكثر اكتمالاً بعد نحو ألف سنة. لقد برع في هذا المجال اليونان والرومان الذين انتقل إليهم هذا الفن أثناء حكم الإخمينيين للعراق في القرن السادس قبل الميلاد، لكننا نعرف أن هذا الفن يرجع إلى القرن الثامن أو التاسع قبل الميلاد من خلال بعض المكتشفات في اليونان وتركيا. ويشير ذلك إلى عمق الصلات التي كانت قائمة بين شرق وغرب البحر المتوسط منذ بداية الألف الأول قبل الميلاد.
محاربون يزينون بوابة عشتار، ونرى بوضوح دقة ومهارة الفنان العراقي القديم الذي استطاع تشكيل لوحة رائعة بدمج مجموعة من العناصر المختلفة في مادتها والمتعددة الألوان في لوحة جميلة ومعبرة الفسيفساء في المشرق حتى القرن الثامن الميلادي أصبحت الفسيفساء في العصرين اليوناني (333 – 30 قبل الميلاد) والروماني (30 ق م – 313 بعد الميلاد)، ذات تقنية متقدمة جدًا وأصبح لها معلمون وحرفيون مهرة في سورية وبلاد المشرق عمومًا. ومن الممكن جدًا أن تكون هذه التقنيات قد تطوَّرت محليًا في عدة بقاع، ونجد آثارها بشكل أوضح في شمالي سورية (أنطاكيا)، وفي تركيا (غورديون، فريجيا).
لوحة أوقيانوس وتيثيس، في متحف الفسيفساء في أنطاكيا، من القرن الرابع للميلاد، ويرمز أوقيانوس في الأسطورة اليونانية للنهر الكبير أو المحيط الذي يحيط بالأرض لكنها انتشرت بسرعة كبيرة في حوض المتوسط كله وذلك على شكل ثلاثة أساليب مختلفة هي: 1. فسيفساء الحصيات المختلفة الحجوم والأشكال، 2. فسيفساء الحصيات الصغيرة opus verniculatum، وهي عبارة عن قطع صغيرة منمقة، لكن غالبًا غير منحوتة بدقة، 3. فسيفساء المكعبات بحصر المعنى opus tessellatum، وهي حجارة مكعبة الشكل فعلاً طول ضلعها 1 سم تقريبًا كان الفنان ينحتها من الحجارة الملونة بدقة ومهارة.
فسيفساء المكعبات الصغيرة opus verniculatum لقد وجدت هذه التنويعات المختلفة في الشرق الأدنى والمشرق السوري خاصة ويعود تاريخها إلى عدة قرون قبل الميلاد، لكن مكتشفاتها لا تزال قليلة نسبيًا، ونشير إلى نموذج رائع من فسيفساء الحصيات وجدت في طرسوس (في تركيا حاليًا) من القرن الثالث قبل الميلاد. لكن فسيفساء تبليط الأرضيات بالمكعبات التي ترجع إلى العصر الروماني ثم البيزنطي (أي خلال القرون الميلادية الأولى) مثبتة في معظم مناطق المشرق اليوم. ومع توالي الاكتشافات خلال السنوات الأخيرة يتضح لنا بشكل جلي أن تقنيات الفسيفساء هذه كانت منتشرة في كامل الأراضي السورية. وجدت أولى مكتشفات لوحات الفسيفساء وأغناها أيضًا في منطقة أنطاكيا (في لواء اسكندرون حاليًا)، وكانت مدينة أنطاكيا عاصمة المقاطعة السورية في الإمبراطورية الرومانية. وتعود الفسيفساء المكتشفة فيها إلى ما بين القرنين الثاني والرابع للميلاد، وتسمح دراستها بتكوين فكرة عن تطوُّر الأسلوب الفني والذوق الجمالي خلال تلك الفترة. لقد كانت المواضيع الأسطورية والثقافية هي السائدة حتى نهاية القرن الرابع، وكانت تمثل في لوحات مركزية (كانت تسمى الشعارات) تحيط بها أطر من زخارف هندسية أو نباتية، متوضعة بشكل متراصف، وقد نفذت بأسلوب يوحي بالبعد الثالث. ومع ذلك، ظهر نحو منتصف القرن الرابع مَيلٌ إلى تشكيلات أحادية ذات أسلوب "قوس قزح" (وهو أسلوب متدرج أو متعارض في اللون) الأمر الذي قاد في نهاية هذا القرن إلى نجاح كبير لهذا الأسلوب وتعميمه على أرضيات الكنائس في كامل المنطقة. وتأتي الاكتشافات الحديثة في سورية (في طيبة الإمام في محافظة حماة وهي تعتبر من أكبر لوحات الفيسفاء في العالم إذ تتجاوز مساحتها 600 م2، وفي تل العمارنة شمالي سورية على الفرات، وغيرهما) لتؤكد انتشار هذا الفن وهذا الأسلوب من شمالي سورية إلى وسطها وجنوبها.
فسيفساء كنيسة طيبة الإمام قرب حماة، وقد أنجزت عام 442 ميلادية فى عهد دومنوس أسقف حماة آنذاك. ونلحظ فيها إضافة إلى الزخارف العديدة مشاهد لكنائس كثيرة إلى جانب مشاهد الرعى والصيد والطيور المتنوعة التى تنسجم مع الموضوعات الزراعية والبيئية في ذلك الوقت
جانب من زخارف كنيسة موقع تل العمارنة قرب جرابلس على نهر الفرات شمالي سورية. القرن الخامس وقد تميَّز النصف الأول من القرن الخامس بتجديد في الأسلوب وفي أنواع الزخارف والمواضيع (أنصاف زهيرات، تشبيكات، مواضيع نباتية منمقة، تشكيلات من الطيور، زخارف بشكل الكرمة...). وبدءًا من منتصف القرن الخامس فرض نفسه نمطٌ من مشاهد الصيد وتمثيلات الحيوانات المتوحشة، وهو أمر استمر جزئيًا خلال القرن السادس الميلادي. لكن القرن السادس كان بشكل خاص عصر التشكيلات المجزأة، ففيه تطوَّرت في كل خلية من لوحة الفسيفساء أشكال متنوعة أو متكررة (آنية، ثمار، حيوانات، شخصيات، بل وكافة أنواع المشاهد في بعض الأحيان...).
زخارف من كنيسة العمارنة شمالي سورية تمثل تكرار المواضيع الزخرفية إن كافة الاكتشافات التي تمَّت ولا تزال تجري في سورية تثبت هذه النتائج التي أظهرتها دراسة فسيفساء أنطاكية. ونذكر بالنسبة للقرون الثاني والثالث والرابع في سورية المجموعات المكتشفة في حمص (فسيفساء هرقل، من عصر الأباطرة السفيروسيين نسبة إلى سبتيموس سفيروس الذي كان امبراطور روما بين عامي 193 و211 م.) وفي شهبا – فيليبوبوليس (وهي سلسلة فسيفساء أسطورية تشهد على الأرجح على إنشاء مشغل حمص للفسيفساء في الوقت الذي أسست فيه مستعمرة رومانية فيها أيامَ الإمبراطور فيليب العربي، عام 244 م.)، وفي تدمر (وهي فسيفساء من مشغل حمص أيضًا، وتعود إلى نحو 270 للميلاد، أي إلى عصر زنوبيا)، وفي أفاميا (حيث عثر على سلسلة هامة وكبيرة من الفسيفساء التي تتحدث عن مدرسة فلسفية كانت واسعة الانتشار في سورية في ذلك الحين وهي المدرسة الأفلاطونية الجديدة، وتعود إلى القرن الرابع الميلادي). وتلك أمثلة على الفسيفساء السورية التي لا يمكن إحصاؤها بسرعة والتي تستحق وقفة متأنية للتأمل والدراسة على حد سواء.
اكتشفت لوحة ولادة هرقل في حمص، بداية القرن الثالث للميلاد، متحف المعرة
تفصيل من فسيفساء هرقل، الإطار الزخرفي، متحف معرة النعمان
إحدى لوحات فسيفساء متحف شهبا، واكتشفت في عام 1963 قرب حمامات شهبا، مع لوحات أخرى تمثل كما يظهر الأساطير اليونانية وحيواناتها الخرافية
فسيفساء تمثل الطبيب أسكلبيوس عند اليونان الذي أصبح إلهًا للطب وعرف بأسكولاب عند الرومان، من العصر الروماني، في متحف تدمر
لوحة من كاتدرائية أفاميا، ويظهر فيها تأثير المدرسة الأفلاطونية الجديدة. ونرى فيها الفيلسوف سقراط مع اثنين من حكماء اليونان السبعة أما في فينيقيا، فنشير إلى فسيفساء جبيل (بيبلوس) وصيدا (صيدون) وبيروت وخاصة فسيفساء بعلبك – سويديَّة (لوحة الحكماء، القرن الثالث للميلاد).
فسيفساء تمثل الإله بعل في بعلبك أما في فلسطين، فقد عثر على العديد من لوحات الفسيفساء ومنها هذه اللوحة ذات الرموز المسيحية.
فسيفساء من كنيسة في موقع مجيدو في فلسطين من القرن الثالث للميلاد، وهي مكرسة بلغة يونانية للرب يسوع، ونلحظ فيها في المركز السمكة رمز المسيح أما بالنسبة للقرنين الخامس والسادس للميلاد، فإن العديد من الفسيفساء التي عثر عليها تشهد على انتشار وتطوُّر هذا الفن، حيث اكتشفت نماذج كثيرة في أفاميا بشكل خاص (في البيوت والكنائس) وفي كامل مناطق سورية الوسطى والجنوبية (خاصة في الكنائس التي تعود إلى تلك الفترة التي انتشرت فيها المسيحية)، كما وفي فينيقيا (بيت مري، خلدة، قبر حيرام، والزهراني). لكن المناطق الجنوبية من سورية وكذلك فلسطين والأردن قدمت لنا اكتشافات مدهشة على تطوُّر فن الفسيفساء خلال هذه المرحلة، وتمثل بعض المواقع التي تعتبر من أغنى المواقع في الفسيفساء مصدرًا لا ينضب لإنتاج هذا الفن خلال القرن السادس. فإضافة إلى ما اكتشف في مناطق حوران وبصرى نجد في مأدبة الأردنية تطوُّر أسلوب جديد منمق انتشر في كامل كنائس المنطقة، مثل كنيسة جبل نبو في الأردن، وظل مستخدمًا حتى القرن الثامن كما تثبت ذلك فسيفساء كنيسة أم الراس في الأردن أيضًا.
فسيفساء من كنيسة القديس جورجيوس في مأدبة وعلى الرغم من وجود بعض الميول المحلية الطابع في بعض المناطق الشمالية أو الجنوبية من المشرق، فإن فسيفساء الشرق الأدنى بشكل عام تمثل مجموعة متجانسة في الأسلوب الذي تطوَّر بشكل شامل في المنطقة عبر عدة مراحل. وهو أسلوب يتميز عن فسيفساء المقاطعات الأخرى في الإمبراطورية الرومانية، حيث ظل أكثر اتصالاً مع سمات النماذج الهلينستية اليونانية التي تعود إلى القرون الثلاثة السابقة للميلاد، أكان على مستوى المخطط والصنعة (بشكل عام حتى نهاية القرن الرابع وفي بعض الأحيان إلى ما بعد ذلك أيضًا) أم على مستوى المواضيع (استمرارية المواضيع المتعلقة بنهر النيل مثلاً وقد استمرت حتى القرن الثامن). الفسيفساء اليونانية تشكل الفسيفساء اليونانية بالتالي، استمرارية طبيعية لتطوُّر الفسيفساء في الشرق الأدنى، وتعود بأصولها إلى المراحل المبكرة التي شهدتها مناطق شرقي حوض البحر المتوسط. ولهذا، يمكن القول إن تطوَّرًا مشتركًا بين مناطق بلاد الشام والأناضول واليونان ساهم في انبعاث فن فسيفساء مشترك وجد أرضًا خصبة لازدهاره مع تطوُّر الحضارة اليونانية وانتشار الثقافة الهلينستية في كامل مناطق الشرق الأدنى خلال القرون القليلة السابقة للميلاد. ومما لا شك فيه أن أصول الفسيفساء في اليونان تعود إلى فترات سابقة للحضارة اليونانية الكلاسيكية، وقد تطوَّرت عبر أكثر من ألفي سنة من التواصل الحضاري مع بلاد الشرق الأدنى، قبل أن تأخذ منحى خاصًا بها في بداية العصر الكلاسيكي. كانت الفسيفساء اليونانية في بداياتها فسيفساء تبليط تتوضَّع على عدة طبقات من الملاط. فكانت تشكِّل زخرفة وزينة للأرضية وتسمح في الوقت نفسه بتنظيف الأرضية بسهولة، خاصة في أرضيات غرف الاستقبال حيث كانت تقدَّم الولائم غالبًا. وقد وجدت فسيفساء هذه المرحلة في بيوت وصروح خاصة في كافة أنحاء اليونان (في مدن وجزر يونانية مثل سيكونه وكورينثوس وإرتريا وأولينثا وديلوس وبيلا ورودوس...)، كما وفي مباني عامة (في برغامه في تركيا وفي الإسكندرية في مصر وفي ساحة الإيطاليين – الأغورا، في ديلوس)، وكذلك في صروح دينية أو مقدسة (معبد أوليمبيا في أثينا في اليونان...). ونجد في كثير من الأحيان أن هذه الفسيفساء لم تكن تزين أرضيات الطابق الأرضي فقط بل وأرضية الطابق الثاني أيضًا (كما في ديلوس).
سمي البيت الذي وجدت فيه هذه الفسيفساء ببيت الدلافين في ديلوس
فسيفساء من بيت الدلافين في ديلوس – اليونان
فسيفساء من القرن الرابع في بيلا، تمثل ديونيسوس إله الخمر في الأساطير اليونانية جالسًا على فهد مرقط لقد استخدم اليونان حصى الأنهار، وشظايا من الرخام، إضافة إلى كسر وبقايا الجرار الكبيرة، وبعض كسر الزجاج الملون، للحصول على ألوان مختلفة عن الأسود والأبيض والبني المحمر. وفي القرن الثالث قبل الميلاد انتشر استخدام المكعبات الصغيرة التي يقل حجمها عن 1 سم3 opus tessallatum. وللحصول على دقة أكبر تنافس دقة الرسوم الملونة تم اللجوء إلى عناصر أصغر فأصغر وأشكال أكثر تنوعًا opus verniculatum. وعندها أخذت الأشكال المرسومة في لوحة الفسيفساء ترسم بنصل من الرصاص. ظهرت خلال هذه المرحلة في اليونان الزخارف ذات المواضيع الهندسية (في أمفيبوليس وديون) أو النباتية (في فرجينا) التي تشكلت غالبًا من شرائط مركزية. ويمكننا أن نرى في مركز الفسيفساء لوحة حقيقية نفِّذت بدقة ومستوى فائقين، وقد وضعت وسط مجمل التزيينات الزخرفية مما يشكل ما يعرف بـ "الشعارات" أو "اللوحات المركزية"، وهي عبارة عن تشكيلات مركزية تحيط بها زخارف متنوعة. ومعها بدأت لوحات الفسيفساء تصوِّر مشاهد أسطورية سرعان ما شملت مجمل مساحة لوحة الفسيفساء (مثل الحيوان الأسطوري القنطورس في رودوس، ومعركة الإسكندر المعروفة من خلال أحد نماذجها في بومباي – إيطاليا)، وكانت اللوحة تحمل في بعض الأحيان تواقيع الفنانين الذين أنجزوها (غنوسيس في بيلا، وسوسيوس في برغامه). لكن اسم الفنان كان يظل مجهولاً في غالب الأحيان، مما قد يشير إلى أن أصحاب مشاغل الفسيفساء لم يكونوا بالضرورة من الفنانين أو الحرفيين المعروفين.
فسيفساء من ديلوس تمثل أسطورة القنطورس اليونانية ولدينا أمثلة كثيرة على غنى الفسيفساء اليونانية نذكر منها بالنسبة للفسيفساء المشغولة بالحصى تلك التي اكتشفت في منازل بيلا (وتمثل مثلاً مشاهد من الأساطير اليونانية مثل اختطاف هيلينه، وصيد الغزلان...). أما بالنسبة للفسيفساء المشغولة بالمكعبات أو بالحجارة الدقيقة المتنوعة الألوان فنذكر اللوحات الرائعة التي اكتشفت في ديلوس (بيت ديونيسوس، وبيت الأقنعة...).
مشهد صيد الغزلان في بيلا
لوحة تمثل الإله ديونيسوس من بيت الأقنعة في جزيرة ديلوس اليونانية الفسيفساء من الشرق الهلينستي إلى روما: أوج وازدهار فن الفسيفساء تطوَّر فن الفسيفساء في روما كانعكاس لغنى الإمبراطورية الرومانية. وقد ورث الرومان أسس هذا الفن عن اليونان من قبلهم وعن فناني الشرق عبر احتكاكهم المبكر مع بلاد الأناضول ومصر وسورية. ويعود الأسلوب المميز لهم إلى ما يعرف بتقنية "عرائس الشعر" opus musivum، وهو يشتمل على رصف عناصر صغيرة الحجم ومتماثلة الشكل. ويرجع تآلف الفن والعمارة في الفسيفساء الرومانية إلى عصور قديمة. ونجد أن الآثار البعيدة للبدايات الأولى تتوافق مع البدايات في بلاد الرافدين والشرق، مثل الزخارف الجدارية على شكل مسامير أو دوائر من الطين المشوي من الألف الثالث قبل الميلاد، مع تشكيلات من الخطوط المنكسرة والمعينات، أو مثل الأرضيات المزخرفة في اليونان القديمة بواسطة الحصيات كما في تيرنثا من العصر الميكيني من الألف الثاني قبل الميلاد.
معركة إيسوس في لوحة فسيفساء من بومباي تعود إلى القرن الثاني ق.م.، وهي نموذج لتقنية المكعبات الصغيرة "عرائس الشعر" إن الأصول الأقرب للفسيفساء الرومانية التي طبعت تطوُّر الفسيفساء فيما بعد تعود إلى آسيا الصغرى. فقد اكشفت في غورديون في تركيا أقدم فسيفساء معروفة من الحصى، وتعود إلى القرن الثامن قبل الميلاد، وكانت تمدُّ على شكل بساط أرضية تتضمن زخارف متنوعة مثل مربعات رقعة الشطرنج، أو صلبانًا معقوفة، وغيرها، وقد رصفت بشكل عشوائي غير مرتب.
فسيفساء من غورديون في تركيا، تعتبر من أقدم تبليطات الفسيفساء وفق التقنيات الجديدة آنذاك وكما رأينا سابقًا تطوَّر هذا الفن لاحقًا خلال الحضارة اليونانية وبلغ ذروته في القرن الرابع قبل الميلاد، حيث نجد أمثلة عليه في بيوت كثيرة من اليونان القديمة مثل أولينثا وسيكيونه وإرتريا وخاصة في بيلا. ونجد فيه منذ ذلك الوقت غنى كبيرًا في المواضيع الزخرفية مثل الغصينات، إضافة إلى لوحات رائعة مثل صيد الأيل بتوقيع غنوسيس. وانتشرت فسيفساء الحصى في الغرب انتشارا واسعًا حيث نجد أجمل شواهدها في دوريس في ألبانيا، وفي موتيا في صقلية، وكان تأثيرها واضحًا على روما. وكما سبق ورأينا، حدث تطوُّر تقني هام في القرنين الرابع والثالث قبل الميلاد، إذ بدأ حرفيو الفسيفساء باستخدام الحجارة المنحوتة على شكل مكعبات صغيرة الحجم ذات ألوان متعددة لاستخدامها في تشكيل الفسيفساء، وقد سميت pséphoi في اليونانية وtessellate باللاتينية، أي المكعبات. وإن كنا لا نعرف تمامًا أين حدث هذا التحول الهام في الشرق، في مصر أم في سورية وفلسطين والأردن، حيث وجدت أمثلة تعد من أقدمها حتى الآن في مصر (لوحة الصيادين في شباطه، وتعود إلى نحو 290 – 260 قبل الميلاد)، أم هي ترجع إلى اعتماد تقنية كانت قد بدأت في قرطاج (حيث عثر على بساط صغير من فسيفساء المكعبات ويمكن أن يعود إلى القرن الرابع قبل الميلاد)، لكن لوحة غانيميد مورغانتينا (في صقلية من منتصف القرن الثالث قبل الميلاد) تشهد على اللقاء الذي حصل في مواقع كثيرة بين الفن الهلينستي والفن القرطاجي خلال القرون الثلاثة السابقة للميلاد، وبعبارة أخرى بين الفن المشرقي والمغربي على طرفي حوض البحر الأبيض المتوسط. وإذا أردنا معرفة أصول هذه التقنية لا بد لنا من العودة إلى البدايات التي كان يتم التعامل فيها في الشرق الأدنى مع حصيات ملونة تنحت وتصقل من الصلصال المشوي المقسى، وهي التقنية التي طبقت فيما بعد على أنواع المواد الأخرى، وخاصة الحجر.
فسيفساء قرطاجية من أحد متاحف تونس
فسيفساء قرطاجية من أحد متاحف تونس (القرن الأول قبل الميلاد) ومذاك فرضت تقنية المكعبات نفسها في العالم الهلينستي، وكما سبق ورأينا، تم التخلي في الوقت نفسه عن خطوط الرصاص أو عن كسر الفخار والطين المشوي التي كانت توضع لإبراز محيط اللوحة. وقد ترك لنا القرنان الثاني والأول قبل الميلاد لوحات فسيفساء رائعة في برغامه والإسكندرية وساموس وديلوس، حيث أنجزت أحيانًا وفق تقنية "الشعارات" ذات المواد المتعددة والدقيقة جدًا emblemata verniculatum. وقد انتشرت هذه الأشكال منذ فترة مبكرة في إيطاليا حيث استخدمت لتزيين أرضيات المنازل، مثل أرضية بيت الحيوانات في بومباي.
بيت الحيوانات في بومباي، بدايات العهد الميلادي انتشر استخدام المكعبات في إيطاليا خلال القرن الميلادي الأول، وخاصة المكعبات البيضاء والسوداء. وقد غطت هذه المكعبات منذ ذلك الحين أرضيات المنازل بزخارف هندسية متعددة. لقد تجذر فن الفسيفساء في مناطق الغرب الروماني خلال القرنين الأول والثاني للميلاد، فكان فنًا جديدًا على المنطقة وارتبط بالحياة اليومية والعمارة (البيوت والحمامات والقصور...). وسرعان ما بدأت تتولد خصوصيات محلية في الأسلوب تشير إلى نشوء مشاغل محلية في المدن الرومانية، فظهرت أساليب مختلفة وجديدة بحسب المقاطعات والمناطق. وقد اعتمدت أفريقيا الرومانية التحديثات التي ظهرت آنذاك وأضافت عليها، مبدعة أسلوبًا متعدِّد الألوان ورائع الجمال للزخارف النباتية، ونجد هذه الروائع في مدن الجم وأشولا وسوسه التي شكلت مدرسة قائمة بذاتها، ولا تقل عنها بحال من الأحوال فسيفساء قرطاج والمناطق المحيطة بها (أذنه، ودوغه، وثبوربو ميوس) ونوميديا وموريتانيا (لامبيس وتمجد وشرشل) وطرابلس (زليطين وسيلين ولبسيس).
فسيفساء قرطاجية – تونس
عازف القيثارة مع كلبه – متحف الفسيفساء في طرابلس – ليبيا ولا بد لنا من الإشارة هنا إلى أن اتساع رقعة الإمبراطورية الرومانية لم يلغ التواصل الثقافي والفني بين مختلف مناطقها، وخاصة بين شمال وجنوب وشرق البحر المتوسط، حيث كان دور السوريين مستمرًا منذ ما يقارب الألفي سنة في تحقيق المبادلات التجارية والفنية على حد سواء.
فسيفساء من متحف طرابلس – ليبيا
فسيفساء من متحف باردو في تونس ونلاحظ أثر المدرسة الإيطالية في الشرق أيضًا مع انتشار الرسوم الهندسية في سورية وفلسطين والأردن وأنطاكيا. لكن هذه المنطقة كانت متآلفة منذ القديم مع هذا الفن وهذه التقنية، فكانت لهذا التأثير آثار خصبة وغنية جدًا. وقد أنتجت القرون الميلادية الأولى في الشرق أعمالاً إبداعية جمعت بين الزخرفة والتشكيلات التصويرية ومنها الأعمال الرائعة المكتشفة في أنطاكيا وزوغما ونيابفوس وغيرها.
فسيفساء إله الفرات في موقع زوغما على الفرات في تركيا وترك لنا الشرق أيضًا عدة أسماء لحرفيي هذا الفن من هذه الفترة منهم زوغما كينتوس كلبرنيوس وزوسيموس السميساطي، الذين تركوا توقيعهم على أعمالهم. لكن أشهر هؤلاء الفنانين ظل مجهول الاسم وهو الذي ترك أعمالاً رائعة في مدينة زوغما على الفرات (مثل لوحة أخيل في سكيروس، وإيروس وبسيكه، وباسيفاي وديدال) وفي أنطاكيا.
أخيل في سكيروس لفنان سوري مجهول الاسم لقد أدى هذا العصر الذهبي في فسيفساء الأرضيات إلى مضاعفة الاختراعات التي تتعلق بالزخرفة النباتية والهندسية. ونجد صورًا لشخصيات أسطورية كانت تمثل في إطارات، ضمن الرسم العام للوحة، خاصة من العبادات الديونيسية (نسبة لإله الخمر ديونيسوس)، أو رمزية، مثل الفصول أو الرياح، وكانت هذه الصور تَحفَظ البيت الذي يضم لوحة الفسيفساء وفق اعتقاد ذلك الزمان. أدَّت الأزمة التي حاقت بالإمبراطورية الرومانية في القرن الثالث إلى ضعف الأثر الهلينستي وأثَّرت على فنِّ الفسيفساء كما على الجوانب الأخرى للفن والثقافة. ومع ذلك استمرت المعارف التقنية وتطوَّرت. ومع تقسيم الإمبراطورية وبداية المرحلة الجديدة بدأت الأرستقراطية الجديدة أعمال بناء كبيرة سمحت بإنعاش فن الفسيسفاء. وإلى هذه الفترة يرجع العديد من اللوحات الرائعة التي اكتشفت في روما وقرطاج وأفاميا وأنطاكيا وغيرها. وخلال هذه الفترة تراجعت الأساليب المحلية في الزخارف. وانتشرت الزخارف الثخينة من جدائل الغار وسادت في الغرب بتأثير المشاغل الأفريقية، في حين سادت لوحات الشرق الغصينات والتشبيكات المعقَّدة. وأتاح فن رسم الشخوص على لوحات الفسيفساء سرد الحكايات البطولية للنخبة في المجتمع، لكي تخلَّد أعمال سيد البيت مثلاً في الصيد، أو حتى تبرز مشاهد من الحمَّام أو المآدب. وفي الوقت نفسه بدأت الزخارف الدنيوية تظهر في أرضيات الكنائس، كما في أفاميا (سورية) وغرادو (تونس) وطبرية (فلسطين) وغيرها.
لوحة فسيفساء من أحد مواقع الشرق (أفاميا؟) من القرن الثاني بعد الميلاد، وتصور مأدبة في القرنين الرابع والخامس للميلاد تطوَّر فن الفسيفساء الجدارية بشكل كبير. وبالطبع، كان هذا الفنُّ موجودًا قبل ذلك بوقت طويل. يشهد على ذلك ما اكتشف في بيوت بومباي من القرن الأول للميلاد. لكن في هذه المرحلة بدأت اللوحات الجدارية من الفسيسفاء تظهر في أبنية فخمة أو في بعض القبور. وسرعان ما اجتاحت الفسيفساء الجدران متخلية عن الأرضيات في لوحات تعتبر من أجمل روائع الفن، كما في قبب وجدران كنائس رافينا الإيطالية. هنا تبدأ مرحلة جديدة عرفت أوج تألقها خلال العصرين البيزنطي والإسلامي.
فسيفساء قبة كنيسة في رافينا، من القرن الخامس الفسيفساء المسيحية تحتل فسيفساء المكعبات مكانة أساسية في أولى صروح العبادة المسيحية المعروفة حتى الآن (من القرنين الرابع والخامس الميلاديين). وهي تتميز بتجميع ورصف قطع صغيرة منحوتة مكعبة الشكل بواسطة ملاط. واستخدمت لتبليط الأرضيات في الكنائس بل وإكساء الجدران والقبب والحنيات (في صدر الكنيسة الذي يأخذ شكلاً نصف دائري). ومن المؤكد أن هذا الاستخدام لم يكن جديدًا، لكن فسيفساء الجدران والقبب بلغت مع الفن المسيحي ذروة ازدهارها وألقها. ويرجع هذا النجاح في جانب منه إلى إدراك المسؤولين عن بناء الكنائس لأهمية هذا الفن وللإمكانيات التي تقدمها هذه التقنية في نقل الرسالة الدينية إلى المؤمنين. ولهذا، كما في الصروح الدينية الوثنية التي كانت لا تزال قائمة حتى ذلك الحين في الشرق الأدنى وحوض المتوسط، اعتمدت الكنيسة وضع العبارات الكتابية مُدرَجَة ضمن لوحة الفسيفساء للتعبير عن المعاني المقدسة. في القرن الرابع للميلاد أصبحت المسيحية الديانة الرسمية للامبراطورية الرومانية، وأصبحت الكنائس المبنية حديثًا تكسى بأرضيات الفسيفساء وتزين جدرانها وقبابها بلوحات الفسيفساء. وأفضل الوثائق التي حفظت منها هي الأرضيات. ومن أجمل الأمثلة عليها في الغرب فسيفساء أكيله في كنيسة المجموعة الأسقفية (في إيطاليا وترجع إلى 313 – 319 م). وقد استخدم فيها الحرفيون مجموعة تشكيلات كانت شائعة في ذلك الوقت في البيوت، وأضافوا إليها أحيانًا مواضيع من الكتاب المقدس مثل مشهد النبي يونان. وتشير الكتابات المرافقة إلى الذين مولوا العمل وإلى معلم الحرفة وملهمها. أما في الشرق الأدنى، فإن أقدم الأمثلة على الزخارف الهندسية البحتة في الكنائس تعود إلى الربع الأخير من القرن الرابع. وليس لدينا الكثير من المعطيات حول التزيينات الجدارية في كنائس القرن الرابع. وتعدُّ كنيسة القديس يوحنا اللاتراني في روما، التي كانت حنيتها "تشع ذهبًا" وبنيت بمبادرة من الإمبراطور قسطنطين، بين أولى الصروح الدينية المسيحية التي أنجزت فيها زخارف جدارية. أما خلال القرنين الخامس والسادس، فلدينا شواهد كثيرة جدًا على كسوة جدران الكنائس بالفسيفساء. وكانت مواضيع الزخارف المستخدمة في التبليطات تتجدد تدريجيًا. وقد سادت الزخارف الهندسية والنباتية في الغرب، ومن بين المواضيع نميز هنا وهناك صورًا مرتبطة بالإيمان الجديد. هكذا نجد في هنشير سوكرين (في تونس) أمام جرن العماد تصويرًا لأربع نعجات ممثلة على جانبي الصليب. أما في الشرق الأدنى فنستطيع بفضل الكتابات التي كانت تؤرخ تنفيذ العديد من الفسيفساء أو تشييد المباني تتبع الخطوط الكبرى لتطوُّر المواضيع الزخرفية في الكنائس. ونجد في النصف الثاني من القرن الخامس في سورية، وخلال فترة لاحقة في أقطار أخرى، بعض المواضيع التي لاقت فيما بعد نجاحًا مذهلاً: مشاهد الحيوانات، وتمثيلات لمدن وكنائس مسيحية... وبين الصور النادرة من الشخصيات المذكورة في الكتاب المقدس نكتشف تمثيلاً لآدم في كنيسة حوارته (قرب حماة) في سورية تستعيد التشكيل التصويري لتمثيلات أورفيوس بين الحيوانات في الأساطير اليونانية.
أرضية فسيفساء من كنيسة تل العمارنة شمالي سورية، القرن الخامس للميلاد ونجد أفضل الفسيفساء الجدارية حفظًا وأكثرها روعة وفخامة في روما وفي رافينا في إيطاليا. وكان رعاة وممولو هذه الأعمال أشخاصًا بارزين من الوسط الدنيوي والأسقفي. ومع ذلك فثمة الكثير من الأمثلة الهامة على هذه اللوحات الجدارية في مدن أخرى في الغرب مثل نابولي وبوريك وكرواتيا حفظت شواهد هامة من هذه الفسيفساء. وكانت المكعبات المستخدمة فيها منحوتة غالبًا من الزجاج ذي الألوان البراقة والجميلة. ويبدو أن استخدام مكعبات مغلفة بالذهب لخلفيات المشاهد قد درج شيئًا فشيئًا. وعلى عكس ما كنا قد شاهدناه في فسيفساء الأرضيات، نلحظ أن الشخصيات ذات الصلة بالعقيدة المسيحية حاضرة دائمًا في الجداريات. فكانت تمثل داخل الكنيسة في مواضع بارزة، مثل الحنية الرئيسية التي كانت تضم وتجمع صور تلاميذ المسيح ووالدته بشكل خاص. في حين أن قصص الكتاب المقدس كانت تمثل على جدران الجناح الرئيسي للكنيسة. ونجد في إحدى الكنائس التي تعود إلى القرن الخامس في روما تمثيلاً للمسيح على عرشه يحيط به تلاميذه وقد اكتسوا برداء أعضاء مجلس الشيوخ الرومان. كذلك نجد في روما في كنيسة مريم الكبرى الفسيفساء الجدارية التي تعود إلى عام 434 على جدار الجناح الرئيسي، وتقدم لنا سلسلة من الصور المأخوذة من العهد القديم حياة الأنبياء الأوائل. وتسمح أخيرًا بعض القباب المحفوظة بتكوين فكرة عن الجهود الكبيرة والفن الرفيع الذي كانت تشكله فسيفساء القباب في ذلك الوقت. ففي رافينا، في كنيسة غالا بلاسيدا، تقدم لنا فسيفساء القبة التي تعود إلى الربع الثاني من القرن الخامس تشكيلاً حول صليب ذهبي على خلفية زرقاء داكنة مغطاة بالنجوم مع رموز أصحاب الأناجيل الأربعة في الزوايا.
الصليب الذهبي محاطًا بنجوم على خلفية زرقاء داكنة من غالا بلاسيدا في رافينا في إيطاليا – القرن الخامس هكذا نجد أن حرفيي العصر المسيحي اعتمدوا تقنيات ومواضيع زخارف المعلمين السابقين لهم لكنهم طوروها وعدلوها وأبدعوا لغة جديدة تتوافق مع حاجات العصر الجديد. ولدينا في سورية وفي الشرق الأدنى عمومًا أمثلة لا تحصى على تطوُّر فن الفسيفساء المسيحي، مثل الاكتشافات التي تمت في طيبة الإمام وفي تل العمارنة وغيرهما، من القرن الخامس للميلاد، مما يشير إلى التحول الكبير الذي شهدته المنطقة خلال هذه الفترة.
فسيفساء كنيسة طيبة الإمام، شمالي حماة، القرن الخامس
فسيفساء من طيبة الإمام، شمالي حماة في سورية، القرن الخامس للميلاد الفسيفساء في العصر الإسلامي يعتبر العصر البيزنطي من أكثر العصور ازدهارًا بالنسبة لفن الفسيفساء. وقد أبدع المسلمون باستلهامهم الفن البيزنطي، وطوروه وأدخلوه في جوانب مختلفة من حياتهم اليومية، بدءًا من المساجد والمآذن والقباب، ومرورًا بالبيوت وبحرات الماء فيها والحمامات والأحواض المائية، وانتهاء بالقصور والمدارس والبيمارستانات وغيرها.
فن الفسيفساء الإسلامي الذي اعتمد بشكل رئيسي على الزخارف الهندسية وعلى التشكيلات النباتية في تشبيكات فائقة الجمال
فسيفساء الخزنة في الجامع الأموي الكبير في دمشق فمع توسع وغنى الدولة الإسلامية واستقرارها، ازداد الاهتمام بالفسيفساء كوسيلة لإبراز جمال العمارة وفخامة المباني من قصور وحمامات ومساجد وغيرها. وأصبح لزخرفة الجدران حضور قوي في معظم المساجد والعمائر أثناء حكم الأمويين والعباسيين، وكذلك في عهد الدولة الفاطمية في مصر والأندلس. وتعتبر فسيفساء الجامع الأموي في دمشق من أقدم الأمثلة وأجملها على الاهتمام بهذا الفن منذ بدايات الحضارة الإسلامية. وترجع فسيفساء الجامع الأموي الكبير إلى عهد الوليد بن عبد الملك. وقد جرى ترميم لوحات الفسيفساء في الجامع مرات عديدة، فنجت من الكوارث التي تعرض لها الجامع من زلازل وحرائق. وكان الترميم الأخير في عهد الرئيس الراحل "حافظ الأسد" وخاصة الفسيفساء الموجودة على قبة "النسر" وقاعة الشرف و"قبة الخزنة". وما ساعد على بقاء هذه الفسيفساء أنها كانت مخفية تحت طبقة من الكلس قبل أن يكتشفها أحد العلماء الفرنسيين في القرن التاسع عشر. هذا إضافة إلى أنها مصنوعة من زجاج مقاوم للمطر والغبار والحرارة. الرسوم التي في اللوحات ذكرها "الإدريسي" في كتابه مروج الذهب على أنها تمثل الأقاليم الجغرافية الأربعة وهي إقليم "السند والهند والسودان والروم". وهي خالية من أشكال الحيوانات والطيور. لكن زخرفة الفسيفساء تمتد على شكل نهر يشبه في تفاصيله نهر بردى الذي يخترق مدينة دمشق، وتظهر فيها قصور وعمائر ومنازل وميادين وقناطر وجواسق وأشجار بألوان مختلفة. وتعد هذه المصورة ذات أهمية كبيرة في التعرف على عمائر مدينة دمشق في العصرالأموي، كما تظهر فيها التأثيرات الفنية المختلفة في بدايات الفن الإسلامي كالتأثير الساساني والبيزنطي وغيرهما. وتعتبر فسيفساء الجامع مع عمارته من بواكير الفن الإسلامي الذي كان لانتشاره شرقًا وغربًا تأثير كبير على تطوُّر الفن في الحضارة الإسلامية.
فسيفساء الجامع الأموي الكبير بدمشق، من أجمل معالم الفن الإسلامي
فسيفساء من قصر هشام – خربة المفجر، شمالي أريحا كذلك اشتهرت خلال العصر الأموي فسيفساء قبة الصخرة التي تعد من أجمل ما أبدعه الفن الإسلامي. ويجمع المؤرخون على أن قبة الصخرة، التي شيدها الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان في القسم الجنوبي من ساحة المسجد الأقصى عام 72هـ /691 م، تعدُّ من أروع وأجمل ما أنشأته العمارة الإسلامية.
مشهد لقبة الصخرة من الداخل ونرى الفسيفساء تغطي أجنحة وبواطن العقود ورقبة القبة، من خلال فصوص صغيرة ومكعبات مختلفة الأحجام من الزجاج الملون والأبيض الشفاف في تآلف وتشابك مع الأحجار الوردية وحبات الصدف. تبلغ مساحة الفسيفساء في القبة أكثر من 1200 متر مربع من الجدران في الداخل والخارج، ويغلب عليها اللونان الذهبي والفضي، إلى جانب الأزرق والأخضر بدرجاتهما المختلفة. ودوِّنت وسط هذه التكوينات آيات من القرآن الكريم بالخط الكوفي.
جانب من فسيفساء قبة الصخرة في القدس
فسيفساء من قصر الحمراء في الأندلس، وتظهر فيها جمالية الزخرفة الهندسية شهد العصر العباسي ظهور الفسيفساء الخزفي، أو ما يعرف بالقيشاني، الذي تجمع فيه قطعٌ صغيرة الحجم مختلفة الأشكال من الخزف، ويتم تثبيتها على الجدران بواسطة الجص أو الملاط. وقد أسس الأندلسيون أول مشغل لتصنيع وتصدير القيشاني إلى كثير من بلدان العالم في أوائل القرن العاشر الميلادي، وكان ذلك دليلاً واضحًا على مدى التقدم الذي وصل إليه فن الفسيفساء لديهم. ولهذا شهد تزيين الجوامع بشكل خاص تطوُّرًا هامًا في بقاع العالم الإسلامي، تمثل في استخدام تربيعات البلاط والقيشاني لإبراز الأشكال الزخرفية وإعطائها بعدًا أكثر تأثيرًا من حيث اللون والبريق. والقيشاني خزف مغطى بقشرة رقيقة بيضاء عليها طلاء أبيض شفاف فيه لمعان وتحته رسوم محددة بلون ألون وهي ذات ألوان خضراء أو زرقاء فيروزية أوحمراء قاتمة. ويكون القيشاني على شكل بلاطات مربعة أو مستطيلة أو سداسية أو مثلثة.
نموذج من القاشاني من الجامع الأموي الكبير بحلب، وهو نموذج لإكساء الجدران أخذ ينافس الفسيفساء بشكل كبير خاصة في العصر العثماني حرفيو الفسيفساء عبر العصور من كان هؤلاء الصناع المهرة الذين بنوا الفسيفساء؟ وما هي المراحل التي كانوا يبنونها وفقها؟ رأينا أن الفسيفساء هي رسم لا يستخدم الألوان. وتعود الشعبية العريقة للفسيفساء في جزء كبير منها إلى ديمومتها وإلى السهولة النسبية في تنفيذها. والفسيفساء أفضل حفظًا بكثير من الرسم على المساند أو من الرسوم الجدارية. ويعتبر الباحثون المعاصرون الفسيفساء مصدرًا هامًا لمعرفة الأعمال الفنية الضائعة من الفن التصويري القديم. ومن منظور تقني فإن تصنيع الفسيفساء يتطلب تثبيت الكثير من الزخارف المراد صنعها بشكل دائم على بنية تحتية أو حامل يتألف عادة من طبقات من الملاط أو الكلس (أو الإسمنت حاليًا). ولم يكن اختيار المواد القابلة للاستخدام محدودًا، غير أن مكعبات ملونة صغيرة اعتدنا على تسميتها بالمكعبات tesselles اعتمدت منذ العصور القديمة. وكانت المكعبات تنحت عمومًا من عدة أنواع من الحجارة الطبيعية، غير أنه كان يمكن تصنيعها أيضًا من عجينة من الزجاج الملون، ومن الصلصال، وكان يمكن أن تكون مذهبة في بعض الأحيان. وكان الأثر الفني الأخير يتعلق بشكل خاص بحجم وشكل هذه المركبات. ولهذا عرفت تقنيات الفسيفساء منذ العصور القديمة تسميات: تقنية القطاعات opus sectile، وتقنية المكعبات opus tessellatum، والتقنية الشريطية opus vermiculatum، وهي مصطلحات ترتكز على حجم وشكل القطع المستخدمة لإنجاز الفسيفساء. وكان ثمة مجموعة متنوعة من المقصات الخاصة والمطارق والملاقط التي تستخدم في تقصيب الكتل الحجرية الكبيرة وتقطيعها إلى قطع ذات حجم وشكل مناسبين. ثم كانت المكعبات الناتجة تجمع بحسب لونها في مجموعات. وكان لا بد من الحصول على الآلاف منها خاصة إذا كانت صغيرة الحجم، لإنجاز لوحة فسيفساء حتى وإن كانت المساحة المراد تغطيتها محدودة وصغيرة. ومن هنا يمكننا تقدير العمل الجبار الذي كان يقوم به حرفيو هذا الفن الذين عملوا في مشاغل أصبحت مشهورة وكبيرة. كان للفسيفساء وظيفة تزيينية وعملية في آن واحد. فكان لا بد أن تكون جميلة المنظر، ومقاومة أيضًا عبر الزمن للتلف والتفكك. فكان من المهم جدًا بالتالي تحضير بنية تحتية صلبة مؤلفة من عدة طبقات وقادرة على تحمل حمولات ثقيلة. ووفق النموذج الذي كان يمتدحه المعماري الشهير في روما القديمة، فيتروف Vitruve، كان لا بد لحامل الفسيفساء من أن يقوم على عدة ركائز: طبقة من الحصى الكبيرة أو من البلاطات الحجرية المتوضعة مباشرة على الأرض المدكوكة؛ وملاط من الكلس مخلوط مع حصى صغيرة وفخار مسحوق ورمل؛ ثم تأتي فوقها طبقة ثخانتها بضعة سنتمترات تغطيها أيضًا طبقة أخرى من الملاط نفسه إنما يحتوي هذه المرة على مواد أنعم. وعندما تجف هذه الطبقات التحتية مع تصلبها تدريجيًا، كان يتم وضع طبقة أخيرة من ملاط الكلس ناعمة جدًا تغرز المكعبات الحجرية على سطحها، وهي لا تزال رطبة، مما يثبتها تثبيتًا قويًا. ولم تكن الفسيفساء كلها تتطلب مثل هذه التحضيرات ولم يكن حاملها في كثير من الأحيان معدًا على هذا النحو من العناية. وكان يتم جلب فرق كاملة من العاملين بالفسيفساء من المشاغل المختصة بذلك، مثل مشغل حمص أو مشغل أنطاكية في سورية، من أجل إنجاز هذا العمل الذي كان يقسم إلى مهمات منفصلة تعهد إلى حرفيين–معلمين متخصصين مختلفين. وكان الحرفيون الأكثر خبرة يكلفون بوضع المكعبات في أماكنها. وكان تحضير ملاط الكلس يتم يومًا بيوم، ما يكفي لوضع المكعبات في هذا اليوم. وكان الحرفيون يعملون بالتالي على وضع خطة يومية لتنفيذ العمل، فيقدرون حجم العمل وكمية المكعبات والكلس ومختلف المواد الأخرى. فكانت حرفة الفسيفساء حرفة فائقة التنظيم. وهكذا، مع التخطيط والإدارة الجيدة كانت تولد شيئًا فشيئًا صورة متعددة الألوان، مثل سجادة صوفية حيكت بهمة ونشاط. من كان هؤلاء الحرفيون؟ إننا في الحقيقة لا نعرف الكثير عنهم، إذ كان من النادر أن يوقع عمال الفسيفساء على أعمالهم (لا يتجاوز عدد الأعمال الموقعة 1%). وكانت التواقيع في كثير من الأحيان تأتي بصيغة المجهول، وتحمل طلبًا للمباركة والمعونة. يقدم هذا النوع من التواقيع – الاستثنائية – فكرة عن الوضع الاجتماعي لهذا الفن. يشبه ذلك إلى حد ما ما نراه اليوم في مجتمعاتنا. فهل نطلب من عامل بناء مثلاً أن يضع توقيعه على بلاط المطبخ أو الحمام؟ نخلص من ذلك إلى أن الوضع الاقتصادي لهؤلاء الحرفيين لم يكن جيدًا أبدًا، وربما كانت المشاغل التي يعملون فيها كمهنيين فيها تستغلهم لإنجاز أرباح كبيرة. لقد حدد مرسوم ديوكليسيان الصادر عام 301 م، أغلى أجر يمكن أن يتقاضاه عامل فسيفساء مياوم بـ 60 فلسًا، وكان يمكن للعامل الذي يرتب كُسر الفسيفساء على طبقة الملاط، أن يأمل بتقاضي 50 فلسًا باليوم، وهو الأجر نفسه الذي يمكن أن يتقاضاه الخباز أو عامل البناء، في حين كان يمكن لأجر الرسام أن يصل إلى 75 فلسًا. بعضهم كان يعتبر عمال الفسيفساء من الطراز الأول معلمي حرفة قادرين على خلق نماذج فنية لزخرفة الأرضيات والجدران، بينما كان يتم تكليف عمال الفسيفساء الأقل حرفية بتغطية الأشكال المرسومة مسبقًا بكسر الفسيفساء. ولا بد من الإشارة أخيرًا إلى أن التوافق الجماعي بين الحرفيين كان سبب نجاح أي عمل ينجزونه.
لوحة تصورية تمثل مجموعة من حرفيي الفسيفساء. وتظهر في اللوحة الطبقات المتعددة التي تم وضعها ورصها فوق بعضها قبل البدء بتخطيط رسم اللوحة على طبقة من الكلس. ونشاهد تقسيم العمل بين من يحضر الرسم ومن يحضر قضبان المكعبات ومن يفرز المعكبات حسب ألوانها في علب خاصة، ومن يقوم بمد الغراء اللاصق ومن يضع المكعبات أخيرًا في مواضعها فن الفسيفساء المعاصر عاد هذا الفن العريق للظهور من جديد بصورة حديثة تواكب العصر ولعل أبرز ما دفع الناس للعودة إليه هو جمالية هذا الفن فضلاً عن البحث دائمًا عن التجديد في مناجم التراث القديم والحضارات القديمة ... فعاد فن الفسيفساء للظهور في المنازل والقصور والأسواق الحديثة وفي أحواض السباحة والحمامات وفي أشكال رائعة من اللوحات الجدارية الضخمة... الخ.
لوحة من فن الفسيفساء المعاصر لنتعلم فن الفسيفساء يرتكز فن الفسيفساء كما رأينا على حجارة ملونة تقطع على أشكال دقيقة مكعبة غالبًا، وتصنع منها لوحات تمثل مناظر طبيعية أو أشكالاً هندسية أو صورًا بشرية وحيوانية وأسطورية وغير ذلك.
نموذج حجارة ملونة تستخدم بعد نحتها في لوحة فسيفساء كان هذا النمط من الحجارة يلصق في قوالب اللبن والطين أيام السومريين لتقويته وإعطائه شكلاً ملونًا وجميلاً. ومن هنا جاءت فكرة إلصاق هذه الحجارة مباشرة على الأرضيات التي تكون قادرة على حمل الأثقال وتحمل وطأة الزمن. ولهذا جاءت تسمية الفسيفساء منذ القديم بالفن الدائم. وأصبحت لوحة الفسيفساء تصنع من مئات بل آلاف القطع المنحوتة من حجارة عادية أو كريمة أو شبه كريمة، فيمكن أن نجد في لوحة واحدة قطعًا من الرخام أو الزجاج الملون أو حتى الذهب أو الصدف. ونتعرف فيما يلي على بعض مواد هذه المكعبات إضافة إلى الحجارة التي تحدثنا عنها والتي كانت تتألف من الرخام أو الحصى أو المرمر أو غير ذلك من أنواع الحجر: الزجاج الملون:
قطع الزجاج الملون يصنع هذا الزجاج حاليًا ليستعمل في بناء لوحات الفسيفساء، وهو عبارة عن زجاج مصهور مع ألوان خاصة تتمدد مع الزجاج ولا تتأثر بالضوء. ويتم تقطيعه يدويًا وفق حجوم مناسبة. الزجاج العادي:
يوجد هذا النوع من الحجارة الزجاجية بألوان متعددة ويتميز بسطحه الصقيل والثابت مما يجعله مفيدًا للاستخدام في جداريات في الحمامات والمطاعم والطاولات المعدنية أو الحجرية وغير ذلك، خاصة مع توفر قطع منه ممزوجة مع أنواع من المعادن. الصفائح الثمينة والذهبية:
تستخدم تقنية تلبيس القطع المعدنية من فضة أو نحاس بصفائح من الذهب بحيث تشكل قطعًا يمكن استخدامها في لوحات الفسيفساء. الخزف أو السيراميك:
هو عبارة عن نوع من الطين الناعم يسمى الصلصال يشوى في درجات حرارة عالية، بحيث يشكل مادة قابلة للاستخدام في كافة الظروف بسبب مقاومتها لكافة الظروف الطبيعية. ويلون الخزف بألوان متعددة ويشكل في قوالب جاهزة وغالبًا ما يصقل ويلون بمادة لماعة. أحجار ثمينة:
هناك العديد من الحجارة الثمينة التي تستخدم في الفسيفساء مثل العقيق أو الفيروز أو اللازورد أو الياقوت، لألوانها الجميلة وقدرتها الإيحائية. وتستخدم غالبًا في التشكيلات الدقيقة للوجوه أو لإبراز انطباعات وانفعالات قوية. مواد أخرى:
حجارة متعددة استخدمت منذ العصور القديمة مواد مختلفة وضعت في لوحات الفسيفساء، مثل القشور القاسية أو الحجارة شبه الكريمة أو الحصى الغريبة أو القواقع والأصداف وغير ذلك. ولا يزال الفنان الحديث يلجأ في كثير من الأحيان لاستخدام مثل هذه المواد. بل يتم اليوم تصنيع مواد جديدة وغريبة مخصصة لهواة هذا الفن. ويلجأ بعض الفنانين المعاصرين لاستخدام كافة أشكال المواد التي يمكن لصقها على لوحة الفسيفساء، مثل الفلين أو الخرز والأزرار وكسر الصحون والقطع المعدنية أو البلاستيكية وغير ذلك. المعدات الخاصة بالفسيفساء المعدات القاطعة: تعتبر المطرقة الخاصة بالفسيفساء أفضل أدوات هذا الفن لدقتها وفعاليتها. ولا تزال تعد الخيار الأفضل لحرفيي الفسيفساء حتى اليوم، إلا أنهم يستعينون بمعدات أخرى حديثة مثل آلات القص والكماشة. ويوجد العديد من الكماشات وكل واحدة منها تقطع الفسيفساء بشكل معين: فهناك الكماشة العادية، والكماشة الكاسرة التي تعتبر فعالة جدًا في تشكيل مقياس قطع الفسيفساء، وهي تعمل عمل المقص، وهناك الكماشة الدائرية وتقطع أطراف المكعبات وتجعلها مستديرة. إضافة إلى أنواع أخرى من الكماشات الأدق أو الأكثر حرفية.
كماشة القص
الكماشة القاطعة
الكماشة الدائرية ومن الأدوات المساعدة لا بد من الإشارة إلى القفازات والغراء الذي يجب أن يكون مقاومًا للماء. إضافة إلى إسفنجة التنظيف ومادة الغروت، ونظارة واقية للعينين أثناء تقطيع المكعبات.
يجب مراعاة السلامة في العمل وعدم إهمال ارتداء النظارات والقفازات عند استخدام المادة اللاصقة ويفضل وضع كمامة. وإذا أردنا تنفيذ لوحة فسيفساء صغيرة في بيوتنا، لا بد من الحرص على عدم اتساخ المكان. ولا يمكن البدء بتنفيذ لوحة فسيفساء قبل إعداد رسم مباشرة على الجسم المراد وضع قطع المكعبات عليه. ويمكن أن يتم ذلك بتشكيل شبكة مربعات ثم تلوينها بألوان قريبة من المكعبات المتوفرة لدينا بحيث نستطيع معرفة مكان كل من المكعبات الملونة على السطح المراد تغطيته.
تتم عملية التثبيت باستخدام الغراء. وعند الانتهاء من تثبيت المكعبات يجب تركها لمدة يومين حتى يجف الغراء جيدًا قبل البدء بوضع المادة اللاصقة على سطح اللوحة. وهذه المادة عبارة عن مادة تشبه الإسمنت الأبيض الذي يخلط بقليل من الماء لتشكيل عجينة شبه سائلة. توضع هذه المادة شبه السائلة على سطح اللوحة وتوزع على كامل اللوحة بواسطة فرشاة أو ملعقة خاصة أو باليد مع مراعاة توزيعها جيدًا بحيث تدخل ما بين المكعبات.
توزيع المادة اللاصقة على علبة غطيت بالمكعبات الملونة لتشكيل عمل فسيفسائي فني منها تترك بعد ذلك لمدة 10 إلى 20 دقيقه ثم تمسح بتأن وتنظف، ويفضل توزيع طبقه ثانية والانتظار لمدة ساعتين. بعدها تبدأ عملية التنظيف بالإسفنجة بعد جفاف اللاصق تمامًا. وفي اليوم التالي يمسح سطح اللوحة بقماشة ناعمة وجافة، ونلاحظ أن اللاصق بدأ يجف تمامًا ويتماسك مع مكعبات اللوحة. عندها يمكن مسح القطع القاسية من الملاط بإسفنجة مبللة. ويجب التنبيه دائمًا إلى ضرورة وضع الكمامة والنظارة للوقاية من أبخرة المواد اللاصقة الكيميائية. يمكن صنع لوحات فسيفساء على العديد من القطع البسيطة التي تكون بمتناول يدنا، مثل إطارات الصور الخشبية أو الطاولات المعدنية أو الصناديق أو الآنية الفخارية وغير ذلك. التنقيب وأعمال الترميم والحفظ إن اكتشاف لوحة فسيفساء يعتبر من أجمل الإنجازات التي يطمح علماء الآثار إلى تحقيقه. لكن ما إن يتم التأكد من وجود لوحة فسيفساء تحت التراب حتى يصبح العمل بطيئًا ومدروسًا ومنهجيًا. فلا بد من إنجاز التنقيب والكشف عن لوحة الفسيفساء بتأن. وعندما نكتشف وجود تخلخل في مكعباتها تبدأ عمليات الترميم الفورية بحقن مواد لاصقة فيها. ثم تباشر عملية الكشف التامة، وبعد دراسة اللوحة وتأريخها تطرح أفكار للدراسة حول إمكانية إبقائها في مكانها (خاصة إذا كانت كبيرة جدًا) أو نقلها إلى أحد المتاحف. وهذه عملية ليست سهلة أبدًا.
اكتشاف فسيفساء كنيسة العمارنة والبدء بوضع شرائط لاصقة لحمايتها والكشف عنها وفي كل الأحوال تتم حماية الأطراف المتضررة بواسطة شرائط من المونة، وهي مادة لاصقة قوية تحتوي على الإسمنت تستخدم في العمارة، في أي موضع يكون فيه ذلك ضروريًا. ويُنظف سطح الفسيفساء بعناية بالإسفنج والفرشاة الخشنة والريشة. كما يتم تصوير وإجراء رفع هندسي للأجزاء التي ما زالت محفوظة. هناك طريقتان لنقل لوحة الفسيفساء. في الحالة الأولى يتم لصق قماش سميك على سطحها وتُقسم بالسنتيمرات على حاملها من المونة وتُلف كما تُلف السجادة حول أسطوانة مُعدة لهذا الغرض. أما الطريقة الثانية فتقوم على المبدأ نفسه حيث يتم تقسيم الفسيفساء إلى أجزاء أصغر يتم اقتلاع كل منها على حدة وبعد ذلك يتم وضعها على ألواح خشبية متينة. عندما تجف المادة اللاصقة فإن قماش التغليف الذي تم لصقه على سطح المكعبات يحمي الفسيفساء من الأضرار المحتملة خلال عملية القطع والفك. تُستخدم مناشير طويلة ومقصات وسكاكين ومطارق لتقطيع الفسيفساء عبر طبقة المونة. تشكل صلابة المونة والحصوات الصغيرة التي تحتوي عليها معوقات جدية في العمل. يتم قلب كل جزء من أجزاء الفسيفساء، على التوالي، بحيث يصبح وجهها على التراب، حتى يتمكن المرممون من نزع طبقة المونة القديمة المتضررة من على الوجه الخلفي واستبدالها بطبقة مؤقتة جديدة مكونة من الرمل والجير.
يبين هذا المشهد تنظيف فسيفساء كنيسة العمارنة وتحضيرها لنقلها وحفظها في مستودعات المديرية العامة للآثار والمتاحف
تغليف لوحة الفسيفساء تمهيدًا لنشرها ولفها
لف لوحة الفسيفساء بعد تقطيعها إلى أجزاء تمهيدًا لنقلها وحفظها إن متاحفنا تزخر بلوحات رائعة من الفسيفساء من كافة العصور، لهذا أدعو جميع الشباب لزيارة هذه المتاحف والمعالم الأثرية في سورية والتعرف على تاريخنا العريق والمبدع في كافة المجالات، ومنها فن الفسيفساء.
|
|
|