|
فكرة التاريخ الثقافي في الفكر العربي المعاصر
منذ كتب فرح أنطون دراسته الشهيرة والتأسيسية عن ابن رشد وفلسفته، دشنت علاقة النخب العربية بالتاريخ الثقافي: العربي والإسلامي، حقبة جديدة من الإدراك الحاد للأهمية الفائقة التي ينطوي عليها فعل التفكير المتجدد في التاريخ الثقافي للأمة من أجل اعادة بنائه في وعيها الحاضر بما هو من مستلزمات التقدم. بدا بعض هذا الادراك جنينيًا في القرن التاسع عشر، كما في الاستدعاء المتكرر لبعض الموضوعات الخلدونية فيما كتبه خير الدين التونسي، أو في بعض الاستدعاء للكلام المعتزلي ولمقاصد الشريعة عند الشاطبي فيما كتبه محمد عبده. غير أن هذا الشكل الرمزي - أو التناصي - من العلاقة بالموروث الثقافي لم يخطُ خطوته الحاسمة نحو تدشين كتابة جديدة للتاريخ الثقافي والحضاري إلا مع فرح أنطون وجورجي زيدان. وليس من شك في أن المفكرين العرب الرواد، الذين دشنوا التفكير في تاريخ الحضارة والثقافة بنَفَس موسوعي شمولي - غير انتقائي -، إنما تأثروا بما قام به المستشرقون في هذا الاطار، وهو ما نلحظه بجلاء في عمل جورجي زيدان في تاريخه الحضاري الشامل، وبما فعله الأوروبيون مع تاريخهم الثقافي الماضي في فجر نهضتهم. فكما أماط المستشرقون اللثام عن تاريخ ثقافي وحضاري إسلامي كان مجهولاً أو في حكم المجهول لدى المسلمين، وكشفوا عما فيه من غنى حتى وهم ينتقدونه، عاد مفكرو أوروبا المحدثون إلى تاريخهم الثقافي ينشرونه ويقرأونه ويعيدون تأويله في ضوء حاجات ظرفيتهم التاريخية الجديدة. ولعله خامر النهوضيين العرب شعور بأنهم أولى من المستشرقين في النهوض بما نهض به الأخيرون من بحث وتنقيب في التاريخ الثقافي العربي ومن تحقيق ودرس لآثاره. وقد اقترن بهذين الحافزين حافز ثالث شديد الاتصال بهما هو حاجة الدعوة إلى النهضة والتمدن - التي حملوها ودافعوا عنها -، إلى ما يبررها ويقيم لها الشرعية من داخل تاريخنا، ويرفع عنها شُبهة التماهي مع دعوات الآخر وأفكاره كما كان يطيب لخصومها وخصوم القائلين بها أن يصوروها للجمهور. هذا إلى أسباب أخرى منها رغبة دعاة النهضة والتنوير في مزاحمة رواية أصالية (= سلفية) عن الإسلام لا تكاد تلحظ في مروياتها ما كان النهضويون يعدّونه في جملة أفكار العقلانية والتنوير في تاريخ الإسلام. لعل كتاب تاريخ التمدن الإسلامي لجورجي زيدان أول كتاب شامل في مجال تاريخ الحضارة وضعه باحث عربي. نُشر الكتاب في العام 1913، وقبله كان جورجي زيدان قد نشر سلسلة روايات الإسلام ضمن منشورات مجلة «الهلال» التي أصدرها عام 1891. ولما كان رام من سلسلة الروايات أن تُنشئ جيلاً جديدًا على الاعتزاز برموزه التاريخية وتشده إلى تاريخه العربي-الإسلامي بأواصر الصلة، فقد وجد أن الحاجة داعية إلى ما هو أكثر من تنمية شعور وإضاءة جوانب من التاريخ، إلى كتابة تاريخ مدنية إسلامية وإعادة بناء ذاكرة جماعية للأمة. وقد قدم في هذا الكتاب - بأجزائه الخمسة - أشمل مطالعة ممكنة وقتئذ للظواهر والمعالم الدالة على التمدن الإسلامي. وهي شاملة لأنها تناولت، بالعرض والرصد، وجوه الإنتاج الحضاري والثقافة كافة: التنظيم السياسي والإداري، التراكم الاقتصادي والثروة، الحرب والتنظيم العسكري، العمران، الإنتاج الفكري والثقافي... الخ. وكان التشديد في هذا الكتاب المحيط على فكرة التمدن دالاً على رهانات النص واتصاله باستراتيجية التقدم وبهاجس البحث لها عما يشرعنها من داخل تاريخ العرب وماضيهم الحضاري. ازدهر الاهتمام بالتاريخ الثقافي بعد صدور كتاب زيدان، لكنه كان جزئيًا، فما نَحا - كالأول - منحى شموليًا. وتشكل دراسة طه حسين عن ابن خلدون وفلسفته الاجتماعية علامة على التحول الذي طرأ على معنى تاريخ الأفكار ومفهومه، وعلى المناهج المستخدمة في ذلك التاريخ. ففي هذا الكتاب - الذي قُدم أصلاً كأطروحة لنيل شهادة الدكتوراه في فرنسا بإشراف عالم الاجتماع الكبير اميل دوكايم - مقاربة جديدة للإنتاج الفكري العربي الوسيط تتجاوز مجرد التأريخ له إلى تحليل مضمونه المعرفي. وهي المقاربة التي سيذهب بها طه حسين إلى مدى استشكالي أبعد في كتابه في الشعر الجاهلي الذي أثارت استنتاجاته ومنهج الشك فيه عاصفة من الاعتراض والنقد في أوساط المحافظين. وفي الأثناء كانت دراسات أخرى - في مجال تاريخ الفكر - تظهر تباعًا متناولة حقولاً وقطاعات من المعرفة العربية-الإسلامية مثل أصول الفقه وعلم الكلام ومختلف مباحث الفطر العقلي على مثال ما نشره الشيخ مصطفى عبدالرازق تحت عنوان تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية، مثلما كانت كتابات نظير - في مجال التاريخ الديني للإسلام - تظهر في حقبة ما بين الحربين كدراسة جواد علي عن الشيعة الإثني عشرية ودراسة محمد حسين هيكل عن النبي محمد وسواها من الدراسات ذات القيمة العلمية في زمنها. على أن فكرة التاريخ الموسوعي تجددت مرة أخرى في نهايات العشرينات وبدايات الثلاثينات من القرن الماضي في إطار مشروع شامل لكل من أحمد أمين والعبّادي وطه حسين لم يبصر النور منه إلا العمل العلمي الرائد لأحمد أمين، حول التاريخ الثقافي، والذي صدر في ثلاثة أجزاء (ثمانية مجلدات) تحت عناوين: فجر الإسلام، ضحى الإسلام، ظهر الإسلام وكتب على فترة ممتدة من بداية الثلاثينات وحتى النصف الأول من الخمسينات. وإذ استأنف أحمد أمين في هذا الكتاب الموسوعي ما بدأه قبله، بعقدين، جورجي زيدان في تاريخ التمدن الإسلامي، فإنه انصرف إلى كتابة تاريخ ثقافي للإسلام على نحو حصري، ولكن شامل، مهملاً الجانب الحضاري الذي شغل به زيدان أو قل – للدقة – ناظرًا إليه من خلال الأثر المكتوب: الأدبي والفكري. ولعل هذا العمل التأريخي الثقافي الذي وضعه أحمد أمين لم يكتب مثله - في السعة والشمول - في القرن العشرين. فقد أتى في صورة موسوعة ثقافية تدوّن تاريخًا ثقافيًا عربيًا-إسلاميًا (في عهوده الأولى والمتأخرة من العصر الوسيط) تناول مجالاته كافة (اللغة، الآداب، العلوم الدينية والعقلية) بنظرة لا تخلو من أثر النزعة التطورية فيها، متقصيًا - في الوقت نفسه - وجوه التأثير الذي كان للمحيط الديني (المسيحي، اليهودي) في عقائد العرب والمسلمين، والذي كان للمحيط الثقافي (الفارسي، الهندي، الاغريقي) في آداب العرب وعلومهم وفلسفتهم. وليس من شك في أن أحمد أمين نجح في كتابة تاريخ ثقافي شامل كان له كبير أثر في إعادة بناء ذاكرة ثقافية للأمة، وكان له - في الوقت نفسه - الأثر الملحوظ في دراسات التراث لدى من أتوا بعده يهتمون بالموضوع. بلغت تجربة تاريخ الأفكار، أو التاريخ الثقافي، كلحظة معرفية ومنهجية في الفكر العربي المعاصر، ذراها في عمل أحمد أمين مجيبة عن حاجة فكرية وموضوعية، لتفتح شهيتين: شهية الاستمرار في كتابة تاريخ ثقافي حديث كان أحمد أمين نفسه قد بدأه بكتابه زعماء الاصلاح في العصر الحديث (قبل أن يستكمله ألبرت حوراني وفهمي جدعان)، وشهية الدراسات النقدية للتراث التي بدأت من مدخل تحقيق النصوص والدراسات الجزئية حول الفلسفة وعلم الكلام والتصوف... الخ. وكان من الطبيعي والمنطقي أن تنطلق اللحظة الفكرية الثانية (دراسات التراث ونقده) بعد أن استنفدت الأولى أغراضها المعرفية، وبات الانتقال من منهج عرض الموروث وإعادة تدوينه إلى منهج قراءته ونقده انتقالاً منطقيًا بمقتضى حكم التراكم المعرفي. *** *** *** الحياة، السبت، 29 أغسطس، 2009 [1] كاتب من المغرب.
|
|
|