|
الحب ونشأة الأدب العربي الحديث
1 لقد ثبت اليوم أن مفهوم الأدب، بمعناه الحديث، قد تزامنت نشأته، في الثقافة الغربية، ورومانسية يينّه [1] le romantisme d`iena التي على رأس من صاغها ونظّر لها فريدريك شليجل ونوفاليس. فقد استقر هذا المفهوم على أنقاض مفاهيم أخرى سابقة من أمثال "الأدب الجميل" belles letters أو الأجناس الأدبية (من مسرح، ملحمة، حكاية، مثل...). إن هذا المفهوم، في تصور رومانسية يينّه، ذو جوهر أنطولوجي. فقد تأثر بما سمى أزمة الفلسفة التي تمخض عنها نقض الفيلسوف الألماني كانط وتبلور انطلاقًا من تساؤل فلسفي مؤداه: ما الكائن؟ ومن تقرير صريح يقول بعجز الفلسفة والدين عن تحديد هذا الكائن. وعن ذلك انبثق مشروع جنوني يقوم على الاستعاضة بالجمالية أو علم الجمال عن الفلسفة. وبالتالي عن الدين، للكشف عن الكائن. غير أن مدرسة يينّه اعتبرت الجمالية مرادفة للشعرية التي تتجسد أساسًا – وياللمفارقة – بما أسمته "الرواية". فهذه، عندهم، الصورة النموذجية للأدب بما في ذلك الشعر. وهذا التحديد الجديد للأدب بدا، في مفهومه الأنطولوجي، من خلال تنظير أصحاب يينّه وممارستهم، مرتبطًا ارتباطًا كليًا بقضية الحب، أو بشكل عام بالعلاقة: رجل/ امرأة[2]. ومن المدهش حقًا أن هذه المقاربة للأدب قد فعلت فعلها أيضًا في الفكر العربي الأدبي الحديث. وأؤكد تعبير "مقاربة" (فلا مقارنة ولاتشابه)، إذ شاسعة هي الفجوة الفكرية ما بين الوضع العربي في القرن التاسع عشر والسياق الفكري لرومانسية يينّه، وشتان ما بين تنشئة شليجل وتفكيره الفلسفي وبين تنشئة النهضويين العرب وتفكيرهم. ومع ذلك، فإن التساؤل حول ماهية الإنسان قد صاحب تأسيس المفهوم الأدبي الحديث بل بلورة كلمة "أدب/آداب"[3] التي كان لها، في الثقافة العربية القديمة، مدلول آخر[4]. كما أن هذا التساؤل حول الإنسان قدر له أن يساير مفهوم الحب، تمامًا كما في الأدب الغربي. نكتفي، في هذه الدراسة العجلى، بالإشارة السريعة إلى هذا التطور في نشأة الأدب العربي الحديث. فبعد تلميح إلى الطهطاوي، نتوقف قليلاً عند أحمد فارس الشدياق ونتوقف، وقفة أطول، عند جبران، وننتهي بتلميح آخر إلى المنفلوطي.
2 إن المؤلف الطهطاوي الأول تخليص الإبريز في تلخيص باريس، الذي صدر عام 1834 واعتبر مؤسسًا للأدب العربي بمنحاه الحديث، قريب من أدب الرحلة المعروف في الثقافة العربية القديمة، وإن كان أقرب إلى أدبيات الرحلة التي شاعت في أوروبا في القرنين السادس عشر والسابع عشر، وأشير منها خاصة إلى نمط بعينه كان يسمى بـ "الوقائع الهندية" les relations in diennes فما يقصد إليه في الحالتين إنما هو محاولة التفكير في الذات، ومحاولة تحليل وضع داخلي انطلاقًا من مشاهدات وعناصر مقتبسة من عالم آخر. فنص الطهطاوي، في نهاية المطاف، عبارة عن تساؤل قلق، ينطوي على ملابسات بل مفارقات شتى، حول جوهر الإنسان: هل هو أولاً كائن اجتماعي يتحكم فيه العرف ببعديه الديني والسياسي؟ أم هو فرد له إرادته وشعوره الخاص؟ فالنص، في جوهره، يجد في هذا التساؤل تبريره بل مقصده الأبعد، سواء في ذلك ما يرد فيه من وصف ساذج نسبيًا للحياة اليومية، أو من نظرة إلى عادات المجتمع وآراء الأفراد الشخصية، أو ما ينقله من نقاش بين التيارات الفلسفية والدينية، أو ما يدلى به من آراء حول المؤسسات السياسية والاجتماعية الكبرى في البلاد التي يتحدث عنها. وهكذا، فإن فجر الأدب العربي يتزامن وهذا التساؤل القلق والساذج بعض الشيء حول ماهية الإنسان.
3 مع صدور مؤلف أحمد فارس الشدياق الشهير الساق على الساق[5]. نطأ عتبة الأدب بالمعنى الحقيقي. فعندي أن هذا المؤلف أول مقاربة روائية حقيقية في الأدب العربي الحديث. إذ إن هذه السيرة الذاتية الضاربة إلى الرواية المتخيلة مسكونة بهاجس السؤال الذي يعتمل كتاب الطهطاوي، أي: حكم الإنسان مابين الجماعي والفردي، أو إن شئنا معرضة عنوان الكتاب: "ما الفارياق"، أو بتعبير آخر: ما الإنسان؟ كما أنها تطرح هذا السؤال نفسه من الزاوية نفسها (الآخر والذات أو الغيرية والهوية) وتتبع المسلك نفسه (الترحال بين الشرق والغرب) مع فارق مهم، هو أن الشرق كما الغرب عديد عند الشدياق ومفرد أو أحادي عند الطهطاوي. إلا أن خصوصية هذا التساؤل عند الشدياق تكمن، في نظر ناقد الأدب، في حكاية المتخيل التي تحتل حيز كبيرًا من النص والتي تتداخل أيما تداخل مع حكاية الرحلة الواقعية. ويبرز هذا المتخيل في التركيب التقابلي الواضح في اسمى الشخصيتين الرئيستين: الفارياق والفارياقة ممثلين للرجل والمرأة. تكون هاتان الشخصيتان القطبين الرمزيين للإنسانية، وإن شئنا استعمال تعبير سيميائي قلنا إنهما تكونان مقولة سيميائية categorie semique حيث الحدان النقيضان les termes contraires يولدان الحدين النافيين termes contradictories فيركبان عالمهما الروائي الخاص[6]. ومن جهة أخرى، نرى أن هاتين الشخصيتين عاملان actants يتبادلان الأدوار باستمرار، فيتناوبان على دور الفاعل sujet والفاعل النقيض antisujet دون انقطاع. إذ إنهما يمثلان، كل بدوره وإلى مالا نهاية، الخير والشر، العقل والقلب، الصواب والخطأ، والحرية والقهر. وللتأكد من ذلك يكفي القارئ أن يعود إلى بعض الحوارات التي تدور بينهما[7]. وهكذا يدخل المتخيل في الأدب العربي الحديث لا عن طريق طرحه لقضية متداولة ومبتذلة إلى حد ما، عنيت قضية المرأة، بل بوضع المرأة والرجل وجهًا لوجه، أو بتعبير أوضح بتخويل المرأة دور الفاعل في الواقع الروائي. وهذا الموقف هو الذي يؤسس للأدب الحديث، بعكس الموقف الآخر المسيطر في الفترة الزمنية نفسها، عنيت موقف الطهطاوي والبستاني وأقرانهما الداعين إلى تربية المرأة، الذي لم يكن ليؤسس إلا للنظرة الاجتماعية الجديدة. فهذا الموقف الثاني لم يخول المرأة، على المستوى الأدبي، إلا دور الموضوع أو الغرض objet الذي يدور حوله الكلام أو الأحداث، وفي أفضل الحالات دور الفاعل السلبي الذي يتلقى الأحداث ولا يؤثر فيها. وأول لازمة (بالمعنى الرياضي) لهذا الاختلاف في الموقفين تتجلى في الشحنة الجنسية (أو بالأصح الإيروسية لأنها تشع من الجنس على الإنسان بأكمله) المغيبة كليًا في الموقف الثاني حيث تبدو المرأة كأن لا جنس لها أو كأنها موضوع عقلي، بينما يتشبع أدب الشدياق بالإحساس الجنسي (الإيروسي) وإن بكثير من الخفر بفعل وطأة المجتمع آنذاك، وربما كذلك بفعل طبع المؤلف الحي. ويتميز مؤلف الشدياق بعنصر آخر ذي دلالة قيمة على التواشج بين المرأة والأدب، وهو أن بروز المرأة باعتبارها فاعلاً أساسيًا في العالم الروائي يتزامن وتساؤلاً أساسيًا حول ماهية الأدب. لا يأتي هذا التساؤل في صيغة نظرية بل من خلال السخرية ironie (بالمعنى الأرسطي القائم على المسافة بين القول وقائله) التي تعمل عملها في النص بأساليب شتى: معارضة المقامة[8]. اختيار المواضيع وأساليب معالجتها، وأحيانًا من خلال مقاطع يقتحم المؤلف فيها النص ليدلي بآرائه في الأدب[9]. ومن خلال ذلك كله يرشح بعض التساؤل، من إعادة النظر في حكم اللغة والجنس الأدبي وأحيانًا سؤال ضمني في حكم الأدب وماهيته، ذلك السؤال الذي لن يصبح صريحًا إلا بعد نصف قرن من صدور الساق على الساق. ينجم عن هذه الميزة الثانية لازمة أخرى، وهي أن الشحنة الجنسية (الإيروسية) التي تملأ الحقل الروائي، تترافق مع شيء من المتعة الجسدية في ممارسة اللغة تتسم بشيء من اللذة الحسية. فكأن علاقة الراوي باللغة تتسم بالمتعة نفسها التي تسم علاقة الفارياق بالفارياقة. وحسبنا، كي نلمس هذا البعد، أن نرجع إلى ذلك السيل من التلاعب بالكلمات والإطناب والتكرار والترادف[10] الذي يملأ آفاق النص والذي لا يكفي لتبريره مقصد الإحياء اللغوي. حقًا إن الأدب والأنوثة يتلازمان عند الشدياق ويتداخلان، بل أقول، مستميحًا العذر لهذه الإشارة المفضوحة، إنهما يتزاوجان. 4 غير أن المرحلة الحاسمة في نشأة الأدب مترابطًا مع الحب يدشنها جبران وبدرجة ثانية المنفلوطي. جبران فجبران أول من يدخل القطيعة الحقيقية في الأدب الحديث على مستوى التحديد كما على مستوى الممارسة الأدبية. 1- التحديد الجبراني للأدب إن الرؤية الجبرانية للأدب لا تتسم لا بالصيغة النظرية الصرف ولا بالتحليل الصارم، إلا أنها تفتح آفاقًا جديدة كل الجدة في مقاربة الأدب، لا تجاريها أي من المحاولات السابقة كمحاولة الريحاني[11] ومطران[12] وغيرهما. فهي تظهره عنده منذ مطلع حياته الأدبية في كتابه الأول الموسيقى ثم تنبث في مؤلفاته اللاحقة غير الروائية كافة[13]. وإذا تركنا جانبًا سمة الطرافة التي تميزه في سياق كتب الأدب العربي، حديثه وقديمه (إذ إنه في حد علمي المؤلف الوحيد الذي يعالج الموسيقى من هذا المنظور)، فإنه بسذاجته المموهة لا يزال يدهشنا حتى اليوم وعلى أكثر من صعيد، إذ إنه يذكرنا بالخطوط العريضة لرومانسية يينه. فهو من جهة يدمج، في مفهوم الموسيقى، مفهوم الشعر ومفهوم السرد بل - في نطاق أوسع - مفهوم الرواية. وهكذا يبرز، في إطار منظومة مفردة وعديدة في آن، الشكل الأدبي الذي يمثل مجمل الأشكال الفنية، أو الشكل المطلق الذي يشمل الأشكال الأدبية كافة، فيأتي مناقضًا وبديلاً للتحديد الكلاسيكي الذي يميز ما بين شتى الفنون الأدبية ويرتبها على مراتب متفاوتة في الأهمية. وهذا مما يحيل إلى تحديد فريدريك شليجل، مؤسس مدرسة يينه، للرواية وللشعر - والأمران مترادفان عنده - هذا التحديد الذي يبنيه على أنقاض التحديد الكلاسيكي للشعر وعلى أنقاض التحديد الأرسطي للفنون الأدبية[14]. ومن جهة أخرى، فإن هذه الرؤية الجبرانية تسند إلى الأدب مهمة التعبير عن الكائن، مهمة أن يقول الكائن، لا الإنسان وحده بل الكون بأكمله، المادي منه والروحي أو ما وراء المادي في ارتباطه مع العالم المادي. بحيث أن هذه الرؤية - ولا أقول هذا التحديد - تنبع من منطلق فني-ميتافيزيقي، وهو المنطلق نفسه الذي تعتمده رومانسية يينه. إلا أن الفارق بين المقاربتين - وهو فارق ذو بال - يكمن في أن المصطلحات الفلسفية الجبرانية تستند إلى نظرية المثل الأفلاطونية كما تتجلى في مثل الكهف وفي قصيدة ابن سينا الرمزية الشهيرة النفس، بينما تعتمد مدرسة يينه المفاهيم التي صاغها الفيلسوف كانط. إن هذه الرؤية تمنح الشاعر أو الموسيقي أو الروائي - وكلهم سواء في هذا الإطار - سمة مميزة وقدرة فوق البشر، هي سمة الوسيط أو النبي بل ربما سمة الخالق لعالم جديد. وتتأتى الممارسة الروائية (التي سوف نشير إليها لاحقًا) لتؤكد هذه الميزة. والأدب الذي تؤسس له هذه الرؤية إنما هو أدب محكوم بالتعبير عن الحب، مهما تبدلت صور الحبيبة في النص التأسيسي: الحورية أو الإلهة، الخطيبة أو العروس. وهكذا يتمفصل التحديد الجديد للأدب على صورة الحب. 2- ممارسة جبران الروائية من النافل التذكير بأن عالم جبران الروائي يتأسس على اجتياح الأنا للعالم، وأن هذه الأنا مؤسسة أنطولوجيا على القلب القائم مناقضًا للعقل[15]. فالقطيعة الأدبية عنده ناجمة إذن عن قطيعة أنطولوجية موازية تؤسس لها وتمنحها حركيتها. والواقع أن جبران يأتي بعد قرون من عقلنة الإنسان بحكم الضوابط الدينية والاجتماعية ليقلب المعادلة فيمنح نفسه بذلك شرعية قيمنة أن تقف في وجه الشرعية القديمة. وإذا تجاوزنا هذه الملاحظة التي لا تضيف شيئًا مهمًا إلى ما نعرفه عن بنية العالم الروائي، وجدنا عناصر ذات دلالة كبرى على ما أشرنا إليه، فهذه البنية لا تصرح عن نفسها من خلال المنظومة الاجتماعية ولا حتى من خلال الأسلوب البياني، بل من خلال استعمالها للمثل allegorie الذي ينير بدوره المستويين الاجتماعي والبياني. ولنضرب على ذلك مثالاً من خلال قرائتنا لقصة مضجع العروس الواردة في مجموعة الأرواح المتمردة. وبما أن هذه القصة، كما يبدو، هي بمثابة نواة لرواية الأجنحة المتكسرة، وهي العمل الروائي الأساسي عند جبران، فإنها تعبر عن عالم الجبراني الروائي بأكمله. إن المسار السردي للفاعل (للبطل) في هذه القصة يتم حسب المربع السيميائي المعروف:
وهذا تأويله: - ينطلق المسار من الحب: سليم وليلى يتحابان. - ثم يمر عبر قطبه النافي، اللاحب: هناك موجه نقيض يقاوم عمل الموجه الأول فيفرق ما بين الحبيبين. فتحت تأثير نجيبة تبتعد ليلى عن سليم. - ثم يبلغ القطب النقيض، نقيض الحب أو العادات الاجتماعية: فالحبيبان يرضخان لهذه التقاليد ويقبلان بزواج "اجتماعي" لا حب فيه يوجهه المال والدين. - ولكنه يترك قطب التقاليد الاجتماعية ليصل إلى القطب النافي لها، قطب اللاتقاليد: تنتفي التقاليد الاجتماعية عندما يعود الحبيبان فيبوح كل للآخر بحبه. إلا أن المهم في الأمر هو أن المسار لا يتم إلا من خلال محنة أو اختبار أساسي هو الموت الذي كان على الحبيبين أن يعبراه ليصلا من اللاتقاليد إلى الحب من جديد. والراوي يحاول جاهدًا أن يبرر هذه المرحلة الأخيرة ويدلل على ضرورتها، لكن دون أن يفلح في تقديم أي دليل مقنع في تسلسل الأحداث أو في منطق السرد: فالحبيبان يستبعدان استبعادًا مطلقًا تصور أي بديل آخر للموت، مثلاً: اللقاء قبل زواج ليلى لاستيضاح الإشاعة التي أدت إلى فراقهما، أو محاولة الهرب بعد الزواج أو غير ذلك. بحيث إن كافة محاولاتهما لتجنب الموت تبدو اعتباطية وغير مطاقبة لواقع الأشياء. ولم يكن من الممكن، في سياق العالم الجبراني، أن تسير الأمور مسارًا آخر لأن الموت وضع منذ البداية بوصفه مطلبًا ضروريًا كل الضرورة لانسجام هذا العالم. وهذه الضرورة التي لا تنطلق من حركية الأحداث الروائية تضع العمل الروائي ومنذ المنطلق في منطق المثل. حيث الصراع بين الحب والتقاليد لا يجد حله الحقيقي إلا خارج الزمان والمكان: في عالم الروح القائم مقابل عالم المادة. وفي هذا وحده المبرر لهذا المرور القسري عبر الموت. المثل، هاهو من جديد يحيلنا إلى رومانسية يينه[16] التي يعتمد الأدب فيها هذه البنية أساسًا ضروريًا. ويبدو أن المثل نفسه يؤسس لجانب كبير من عالم جوته وإن كان يستعمل له لفظًا آخر هو الرمز. بواسطة المثل يؤسس جبران ممارسته الأدبية الجديدة. وفي هذا الإطار ينبغي أن نفهم أن المستوى البياني المقتبس هو أيضًا من كتابة تحيل إلى الأصول، من كتابة تأسيسية هي الكتاب المقدس، في عهديه القديم والجديد، وميثولوجيا اليونان والشرق الأدنى. فاختيار المستوى المعجمي وكذلك المستوى البياني والرمزي تم في الإطار الكتابي والميثولوجي، بحيث أن الكتابة الجبرانية أصبحت نهبًا لاجتياح تناصي transtextualite لا مثيل له[17]. فكأن لغة الأصول هي الوحيدة القادرة على قول الأصل والمبتدأ وعلى التعبير عن الكلية. وخارج هذا التناص الشامل يبقى الخطاب الجبراني خارج نطاق الفهم، بل لا يعدو تعاويذ غريبة. في هذا التأسيس الأدبي، يبقى الحب حجر الزاوية. ونستعيد مفهوم المسار السردي لنشير إلى أن هذا المسار ينطبق على الحبيب والمحبوب. على الرجل والمرأة اللذين لا يشكلان إلا دورين لفاعل (لبطل) واحد. وليس رهان الحدث، أو الغرض، إلا في التقاء هذين الدورين. المنفلوطي شاهدنا الثاني على هذا التأسيس الأدبي هو المنفلوطي الذي طالما غض النقاد الروائيون من قدره، مع أنه مثل دورًا رئيسًا ذا شأن كبير في إشاعة هذه الحركة الأدبية الجديدة التي أطلقها جبران. وقد أدى هذا الدور على طريقته الخاصة، أي بأسلوب موغل في التبسيط والسطحية، إلا أنه كان على قدر كبير من الفعالية. وحسبنا للدليل على هذه الفعالية أن نعود إلى شهادات معاصريه ولا سيما منهم من لم يكن يضمر له أي احترام أدبي كالعقاد وطه حسين والزيات[18]. يحاول المنفلوطي، في مقدمة الجزء الأول من مجموعته النظرات، أن يحدد الأدب، فيرى أنه يتأسس في الرحمة، أي تلك الملكة التي تخول الكاتب أن يتعاطف مع الآخر ويهتز لما يلم به. ولكن مرماها الحقيقي هي أنها تسمح للأنا أن تعبر عن نفسها تجاه هذا العالم الذي صنفه المنفلوطي الكاتب نهائيًا في خانة الأسى والعذاب، أو فلنقل إن هذه الرؤية لم تكن إلا ذريعة تتذرع بها الأنا للإفضاء، حسب تعبير المنفلوطي نفسه. يتم الإفضاء بأسلوبين مختلفين وعلى مرحلتين متتاليتين: البكاء أمام بؤس العالم ثم الكتابة المتوحدة. هكذا ينشأ الأدب، حسب المنفلوطي[19]. إنْ جاوزنا هذا التحديد الموغل في السذاجة، رأينا أن ما تستند عليه هذه الرؤية إنما هي الرومانسية، مهما تبسطت وتردت بين يدي المنفلوطي. وهي لا تأتي مؤسسة لرؤية أدبية إلا لأنها تقف منذ المنطلق في وجه النظام الرمزي القديم، إذ إنها تخلق مرجعية جديدة تتحكم في فعل الكتابة كما في النظر الأنطولوجية للإنسان. أما الكتابة فإنها عند المنفلوطي تقف على طرف نقيض للكتابة الرسمية المتمثلة في الأسلوب الأزهري. فلا عجب، والحالة هذه، أن يرذل الأزهريون ويحاربوا هذا الأزهري المعمم المتتلمذ على يدي الشيخ محمد عبده. وأما الموقف الأنطولوجي فإن أدب المنفلوطي لا ينظر إلى الإنسان على أنه أولاً كائن ديني بل على أنه كائن ذو قلب بالدرجة الأولى. إن في هذا الموقف لانقلابًا أنطولوجيًا لم يسبق له مثيل في هذا الإطار. وأفضل ما يعبر عن هذين الانقلابين جملة المنفلوطي التي تأتي على شكل شعار: "سلطان الوجدان ولا سلطان الأديان". وهو حقًا تعبير ثوري حين يأتي على لسان أزهري كالمنفلوطي. إن البراهين التي يستند إليها المنفلوطي ليبرر ثورته هذه، وبالتالي تصوره للأدب وللإنسان، تحيل إلى وقائع اجتماعية مبتسرة ومبسطة غاية التبسيط: المرأة التي يتخذها الرجل مجرد أداة لذة فيغتصبها ولا جناح عليه أو يلفظها بعد أن يغويها. ثم العلاقات الاجتماعية المبنية على المخادعة أو المصلحة الأنانية الوضعية، وأخيرًا علاقة الاستلاب التي تربط المجتمع الشرقي بالمجتمع الغربي. الواقع أن هذه الوقائع الثلاث تحيلنا، إذا ما جاوزنا تبسيطيتها المضحكة، إلى ثلاثة مواقف رومانسية. فالعلاقة بين الحضارتين تحيل إلى العلاقة مع الآخر فتطرح قضية الطبيعة الإنسانية، أو بتعبير آخر الحكم الميتافيزيقي للإنسان. وأما علاقة الفرد بالمجتمع فإنها تشير إلى تأسيس قيم أنطولوجية جديدة قوامها الـ"أنا" بدل الـ"نحن". وأما علاقة الرجل بالمرأة فإنها تقيم من الحب، أو من القلب المتخذ نقيضًا للعقل، محركًا أول للحياة الإنسانية. يتحكم هذا المستوى الأخير بالمستويين السابقين، ولنا دليل على ذلك في ممارسة المنفلوطي الروائية. إذ إنه في أعماله الإبداعية (المقابلة لترجماته) يمحورالأحداث حول وجوه نسائية ويرك عالمه الروائي الذي تحتله صورة المرأة، تركيب المثل، وإن لم يبلغ في هذا مستوى جبران. فيبقى الحب، والحالة هذه، الأرضية الأولى التي تهيء للأدب الجديد. وهكذا يتضح التوازي بين مقاربة جبران ومقاربة المنفلوطي على بعد ما بينهما ظاهريًا. وإن كانت مقاربة المنفلوطي تفتقر إلى قدرة مقاربة جبران وأهليتها، فإنها تسير المسار نفسه، وهي التي، على كل، أثرت في المجتمع المصري أيما تأثير. لقد سعيت في هذه المحاولة العجلى أن أقدم بعض المواد لوصف الترابط بين الحب ونشأة الأدب على مستويين متكاملين: مستوى التساؤل النظري نسبيًا ومستوى تركيب العالم الروائي. وأما المقابلة التي أبرزتها ما بين هذا التصور وتصور رومانسية يينه، فإنها ليست مقارنة بقدر ما هي تدليل، تدليل على القرابة بين الفكر العربي والفكر الأوروبي، هذه القرابة التي تبغي بعض سياسات الهيمنة، في عصر التغييب هذا المدعو نظامًا عالميًا جديدًا، أن تلغيها كليًا وبالأسلوب الأكثر بدائية أي الحرب ولا سيما الحرب ضد الرموز المؤسسة لثقافة الآخر. *** *** *** [1] استعملت كلمة أدب literature لأول مرة في مجلة مدرسة يينه، اثينيوم athenaeum، في الخاطرة Idees 95 وذلك عام 1800 ثم اقتبسها شليجل بالمفهوم نفسه واستعملها في الدروس التي ألقاها في جامعة برلين عامي 1801، 1802. وبعد ذلك بفترة وجيزة ألفت مدام دي شتايل، المتخصصة في الدراسات الألمانية، كتابها (عن الأدب) وبفضلها دخلت هذه المفردة إلى فرنسا. راجع:Philippe lacoue-Labarthe et J-L. Nancy : L`absolu litteraire, theorie la litterature du roomantisme allemand. Seuil. Paris, 1978,263-5. [2] يؤكد شليجل، وبنوع خاص في خواطر Idees على ضرورة الحب المطلقة بين الرجل والمرأة لبلوغ "الدين" أي "ذلك الحنين إلى الوحدة وإلى التوق للذوبان" حسب تعبير المؤلفين المذكورين سابقًا (ص 196)، إلى أن يقولا: "إن التدرب الديني لا يتم إلا بالتداخل المشترك مابين الشعر والفلسفة" للذين يمثلان في نظرهما عند شليجل الرجل والمرأة. [3] راجع خاصة التحديد الذي يقدمه بطرس البستاني في موسوعته دائرة المعارف الصادرة عام 1875. [4] راجع: مادة "أدب" في دائرة المعارف الإسلامية. [5] نشر هذا الكتاب في باريس عام 1855 وترجم مؤخرًا إلى الفرنسية. [6] نستعمل هنا المصطلحات التي استحدثها جريماس greimas ابتداء من مؤلفه: Semantique structurale, Larousse, Paris, 1966 ثم حددها وبسطها Joseph Courtes خاصة في مؤلفه: Analyse semantique du discourse, de l`enonce a l`enunciation, Hachette, paris,1991 [7] راجع الطبعة التي أصدرها عماد الصلح عن دار الرائد العربي، بيروت، دون تاريخ، وخاصة: فصل 6 و11 من الجزء3، وفصل 6 و7 و11 من الجزء 4. وسنحيل دائمًا إلى هذه الطبعة. [8] يقرر الكاتب، من باب اللذة والسخرية في آن، أن يخصص الفصل الثالث عشر من كل كتاب (وفي المؤلف أربعة كتب) لمعارضة المقامة. ويبرر ذلك في بعض المقاطع، راجع منها ما هو مثبت في ص 70 و90 و96. [9] راجع، على سبيل المثال، في المصدر نفسه ص 78 و93. [10] المرجع نفسه: فصل 5 من جزء1، وفصل 19 من جزء 3. [11] عبر الريحاني منذ السنوات الأولى لهذا القرن عن آراء جريئة حول الأدب، وذلك في معرض حديثه عن الشعر الحر وقصيدة النثر. [12] قد يكون مطران أول من حاول، في العصر الحديث، أن يفكر لا في أوالية الشعر وشروطه بل في ماهيته وبالتالي في طبيعة الأدب وخصوصيته، وذلك من خلال مجلته، المجلة المصرية التي أنشأها عام 1900 والتي كانت، كما أرى، أول مجلة أدبية بالمعنى المصري العصري. [13] راجع: المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران العربية، دار الهدى الوطنية، بيروت، دون تاريخ، ولا سيما المقالات التالية: الشاعر (ص 316)، نشيد الإنسان (ص 343)، صوت الشاعر (ص344). راجع كذلك مقال أنا غريب في مجموعة العواصف وكذلك بيانه الشهير لكم لغتكم ولي لغتي الذي- ويا للغرابة- لا يرد في هذه الأعمال الكاملة.
[14]
راجع
الفصل الثالث المعنون Roman et
roman
من: [15] يوضح خليل حاوي هذا الجانب في كتابه عن جبران الذي وضعه بالإنجليزية ثم ترجم إلى العربية تحت عنوان جبران خليل جبران، إطاره الحضاري وشخصيته وآثاره، دار العلم للملايين، بيروت، 1982. [16] راجع ص 26 - 32 من الكتاب المذكور في الإشارة 14. [17] إن التناص عند جبران يبلغ في بعض الأحيان مبلغًا ينغلق معه النص فلا يفهم إلا من خلاله، ولعل قصة يوحنا المجنون خير مثال على ذلك.
[18]
يقول
العقاد في مراجعات في الآداب والفنون (القاهرة، 1952، ص 176): "كانت
الوصية الأولى لطالب الإنشاء عند أساتذة اللغة العربية بإجماع الآراء: اقرأ
المنفلوطي واكتب على منواله"، وهي وصية كانت تحفز عليها السمة الوجدانية
التي لفتت الأدباء عن المعاني التقليدية. [19] لنا عودة، إن شاء الله، إلى نظرية الأدب عند المنفلوطي.
|
|
|