|
من إيمان العقل إلى دين القلب 2
استفزاز المحبّة - ياله من استفزاز صارخٍ! - لعلّه استفزازٌ كما ترى، لكنه حتمًا بدافعِ المحبّة ولأجلها، لأنها المبتدا والمنتهى. فهل أتاك حديث المحبّة التي تهدمُ لتبنيَ، كأنها محراثُ فلاّح يقلب الأرض، ليهيئها للزراعة، فيما تراه العينُ القاصرةُ خرابًا. جاهلة أن الزرع لن يكتب له أبدًا أن ينمو ويستوي على سوقه حاملاً الأوراق والأزهار فالثمار - وإن كانت بذوره جيدة وسليمة – إذا لم تهيّأ له بدءًا الأرض، فتصبح صالحة للزراعة. وهل أتاك حديثُ المحبّة، من حيث أنها مرآة الحقيقة التي نتوق إليها جميعًا، ونمضي العمر عنها باحثين، وكأمٍّ نقصدها، ونلوذ بحرمها ورحمها، لتداوي كلوم السنين. ثمّ نهرب منها في هلع وزلزلة، إن راحت تعرّينا من أوهامنا وبريق أثوابنا الملونة، وربما كنا جميعًا لها راجمين، ونحن نمجّد وهمها، وخيالاً اصطنعناه لها، كنا على عبادته لقرونٍ عاكفين. فكأنك يا أمنا المحبّة ما كنت إلا الشمسُ، من نارٌ ونورٌ. وكيف لمن لم تطهّره النار أن ينعم بالنور!!؟؟ - هل حقًّا فعل الإيمان كلّ ذلك، أم تراك وقعت في لبسٍ، وأُشكلت عليك التسميةُ؟! يحقّ للإيمانِ بعد هذا السردِ الملغّم أن يدينَك ويكفّرَك، وأنت تصورينه بهذه السوداويّةِ، وتخلطين الأوراقَ بمهارة ساحرٍ خبير، فإذا بالجهادِ عندك إرهاب، وإذا بالأبِ سجّان، والقاضي جلاّد. - الحقّ أقول... إن الإيمانَ قد فعل دومًا، ما يدمي القلبَ، ويجعله يبكي في الوحدةِ غربتَه، ويصرخُ مناشدًا فطرةَ الإنسان، التي توارتْ وراء الحجبِ، وما من مجيب. وما كان ما ذكرتُ إلا غيضًا من فيضٍ. - أيّ إيمان ذاك الذي يقتلُ ويدين ويتجنّى؟! وأيّ وصفٍ قاتمٍ لأربابه، أناملهم ملطّخة بدم الأطفالِ والنساءِ والشيوخِ، يمضون بركبِ البشرية إلى الهلاك والظلام، باسم الله، وتحت رايةِ نصرة الحقّ والحقيقة؟! - بطبيعة الحال، سيرى كلُّ ذي فكرٍ حرّ، متجرّدٍ عن التعصّب الأعمى، وناظرٍ بحيادٍ وواقعيّةٍ، أن المقصود هنا من الإيمان ليس تلك الكلمةَ البكر، التي لم تحبلْ بمفاهيمِ البشرِ، "وفي البدءِ كانتْ الكلمة"، والكلمة كانت وقتئذٍ كائنًا أجوفًا قبل أن تتلبس بالمعنى، كحال الإنسان حين كان قبضة من طين، قبل نفخة الروح فيها. فما الألفاظ بدءًا إلا أوعيةٌ فارغةٌ تحمل ما نحمّلها إياه، وكم تنوء به وتعجزُ بساطتُها عن تعقيده أو تركيبه. وإنما المقصود بالإيمان هنا وفقَ ما يحدثُ ونرى، ذلك الاعتقادُ الرّاسخُ المتزمّت بفكرةٍ ما، نمت أبعادها عبر الزمن، لتملأَ كلّ جوانب المرءِ مسيطرةً على قواه وحواسه، بحيث باتَ يرى الوهمَ حقيقةً، ليستحيلَ الاعتقادُ إلى عملٍ وسلوكٍ كتصديقٍ وترجمانٍ له، وليورث جيلاً بعد جيل، لما أتت التربية انعكاسًا له، فكأنه الماءُ الراكدُ الذي لا حياة فيه ولا تجديد ولا خلق. بل هو اختناق وموت لكل نفَسٍ حيّ. فكيف بنى الفكر البشري اعتقاده، عبر القرون، إلى أن وصل بنا إلى هذا الواقعِ المريرِ، وإلى كلّ هذا الدمِ والدمارِ، وإذا بالإنسانِ - قطب الكون والغاية والمنتهى - قد غدا حطبًا أو وقودًا لنار أفكار هو خالقها، ثم حسبها نورًا فراح يتعبّد في محرابها، "كسراب بِقيعةٍ يحسبه الظمآنُ ماءً" – النور 39. وكيف عرقل الإيمانُ مسيرَ الحياةِ نحو كمالها، وإنها لواصلةٌ إليه مهما كانتِ العرقلةُ طال الزمان أو قصر، لبدهيّة حصول العقول وكافة الإدراكات الحسيّة والمعنوية لكلّ الكائنات - حتى الحشرات - على كمالاتها الطبيعية، والذي ندعوه ظاهرًا بالتطور. كما "الله متمٌّ نوره ولو كره الكافرون" – الصف 8. وكيف جرّت البشريّةُ الدينَ بكل تعاليمه العلويّة إلى الحضيضِ، لتصبغَه بألوانها الداكنة، بدل أن يرقى بالدنيا لتصير دينًا. فالدين يمثّل قمةَ التربيةِ النفسيةِ والعقليةِ للبشرِ لتأهيلهم إلى مستوى الخيارِ الإلهي، ليستحقّ عن جدارةٍ أن يكون خليفةً لله على الأرض، وما كانت غايةُ كلِّ الرسل والأنبياء والأولياء إلا الوصول بالإنسانِ إلى حقيقته هذه، فابتلع النسيجُ العنكبوتيُّ للأوهام تلك الغايةَ الساميةَ، وهم في غفلة يعمهون؟؟ - لعلّك تلمّحين هنا إلى أهل التصوّف أوالطريق كصنّاع للسلام على هذه الأرض. بل أصرّح ولا ألمّح... باللامنهاج واللاطريق. فقد وقع أهل الطريق كأهل الشريعة - وهم يرسمون خريطة خلاصٍ للبشريّة - في نفس بئرِ المنظوماتيّة والمنهجية. وتحول السلوكُ عندهم إلى طريقٍ معبّدٍ، ذي إشارات ودلالات، بدل أن يكون واديًا غير ذي زرع، مما أفقد أهلَه أعظمَ صفةٍ لهم وهي الإبداع والاستكشاف. وبقيت مقولةُ "إن الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق"، مجرد حبرٍ على ورقٍ، أمام تحزّب المريد من جهته لشيخه في مدارٍ فائق الجذبِ، شديدِ الخطورة، قد يستغرق فيه، ولا يدعه ينعتقُ أبدًا منه، وتعلق الشيخ من جهة أخرى بمريده بحيث يجعله يرى الأشياء بعينيه، مصادرًا أية رؤية مختلفة بدعوى أنها تلبيس من إبليس، مع أن دور الشيخ كما هو مفترض أن يحرر مريده كما تحرر هو. فشابه أهلُ الطريق بذلك أهلَ المذاهب رغم اختلاف الصورة. غير مدركين أن كلّ ذرة وكل مخلوق قد يكون معلمًا لنا في رحلة الباطن، لو أننا أجدنا الإصغاء، لأنه ماهو إلا تكوين من تكوينات الإنسان اللامتناهية. وقد يكون لأحدنا ألف شيخ لا شيخ واحد في سيره الذي يخطّ به طريقه الخاص، لا طريق شيخه الذي خبر به طريقًا خطّه بنفسه. وبمنحى آخر خسّر أهلُ الطريق الميزانَ، ولم يراعوا القانونَ الإلهيَّ العادلَ: "لا إفراط ولا تفريط"، أو "والسماء رفعها ووضع الميزان ألا تطغو في الميزان". فحقّروا المادةَ ،لأنها كانت برأيهم أصلَ الخطيئة، وسبب هبوطنا من جنّة الله إلى الأرضِ، وهجروا الدنيا وأهلَها، وصوروها بطريقةٍ منفرةٍ، وأسرفوا في تعذيب الجسدِ وحرمانِه عبر الرياضات القاسيةِ، بدل تطويعه للرقيّ بالنفس لتعود لربّها راضية مرضيّة، وحسبوا الخلاصَ في الخلوة والعزلة، ومجانبةِ الأشرار وعامّة الناس. وأحاطوا أنفسهم بنطاقِ الخاصيّة، معتبرين أنهم أصحاب الأسرار أو أهلها، فاحتجبوا بحجابِ التعالي عن سائر الخلق. وكيف لمن احتجب عن الخلق بالخاصيّة، أن يأتي بالخلاص العام؟؟!! ولاذوا بحلقات الذكر وهم يحسبون أن الذِكر وحده يكفي، وما عرفوا أن الذكر كالريحِ "وأرسلنا الرياحَ لواقحَ" – الحجر 22، يحمل ذراتِ حقائق الصفات الأسمائيّة من عالم الأسماء (العقل) إلى عالم الأفعال (النفس) حيث رحم الخليقة الصفاتيّة الأفعاليّة، شرط أن تكونَ هذه النفسُ اللوّامة بالغةً مستعدةً للحمل، لتتخصّبَ بالذِّكر برعاية محبّة القلب وتنتج خلقًا آخر. مجسدةً الثلاثيّة الوجوديّة للخلق، وهو صورة الربوبيّة الكونيّة. - أخشى أن أقول قد وقعت الواقعة... وما لوقعتها كاشفة... فقد أغلقت المنافذ، ونسفت دروب الخلاص، وأطفأت بوارق الأمل، وما تركت لهذا الإنسان المسكين أيّة فتحة ينظر من خلالها إلى غدٍ أكثر إنسانية. إن وقعت بيد الإنسان الواقعة... الخافضة الرافعة، فيد الإنسان المُحِبّة ستكون لها كاشفة بعد أن يولّي عهد العقل ويقبل عهد القلب. فهل من عودةٍ إلى البدايةِ بإزالة ذلك الركام من الفكر البشري الذي شكّل حجابًا على الدوام، أمام خطوةٍ جريئةٍ نؤسس بها إدراكًا مفاهيميًا جديدًا لأفكارنا، دون مرجعياتٍ ومستنداتٍ ندعّم بها إعجابنا بهذه الفكرة أو تلك، ودون أن ترعبنا "القداسة" وأربابها، كنتاجٍ فكريٍّ كان الأكثر خطرًا على الإنسان، والأشد أسرًا لطاقاته الكونيّة، وهي تضع الخطوطَ الحمراءَ أمامه – وما أكثرها – والتي يعني تجاوزها بالنسبة لمن نصّبوا أنفسهم أربابًا، انتهاكًا للمحرّمات، جاهلةً أو متجاهلةً أن الإنسانَ – أيّ إنسان - مكلّف ومختارٌ وفق القاعدة العلوية: "أتحسبُ أنّك جرمٌ صغيرٌ وفيك انطوى العالمُ الأكبرُ". على سنّة من آمنوا وعملوا الصالحات العامة والمفتوحة "إليه يصعد الكلم الطيّب والعمل الصالح يرفعه" – فاطر 10. حتى الوصول إلى "الكائن الأعلى" الذي كان أبلغ توصيف له:
"هو الإنسانُ وهل من حرٍّ غير مستعبدٍ لمفاهيم البشر التي حمّلتها للكلمةِ، يأبى أن يكون بموضعِ المتلقي أو الحمّال لقالبٍ لغويٍّ جامدٍ ميّتٍ محكومٍ به، فينظر إلى اللّغة على أنها مجموعُ المفاهيمِ اللينة لا مجموعُ الكلمات، مما يتيح لنا أفقًا أوسع للتواصل والقبول، فإذا بالكلمة توصلنا لمعناها عبر مفهومها، إذا تتبعنا سلسلة: الكلمة، المفهوم، المعنى. والتي تطابق: الجسد، النفس، الروح. دون الاستعانةِ بما قيل من تعريفاتٍ، بل بتفريغها من كلّ ما حملناه من مفهوم عنها، والإقبالُ عليها بأميّة معرفيّة تامّة، وإذا بنا معًا بعدَ المرور ببرزخ المفاهيمِ، في حضرةِ المعنى التي يتواصل بها الإنسانُ مع أخيه الإنسانِ دون تخالفٍ أو تنافسٍ، لتغمرنا وحدةٌ إنسانيّةٌ رائعةٌ كانت ضائعةً منا في خلاف الاختلاف، لنلقاها في جنّة المشتركِ الإنسانيِّ الواحدِ. ونحيا نعيم تلك الجماليّة وروعة الإبداع في تباين مشاربنا وميولنا وأذواقنا ومورثاتنا ولغاتنا وطقوسنا وأجناسنا وطرقنا ومذاهبنا إلى آخر قائمة التعددية، والتي لم تمنعنا أن نحيك معًا نسيجًا إنسانيًا بألوان لا متناهية. لقد قال السيد الكامل محمد: اختلاف أمتي رحمة!! وإذا بالرحمة قد استحالت بالمفاهيم المعوجّة نارًا ووبالاً، وضاع المشترك الإنساني في فوضى الأفكار وتزاحمها، وضجيجها الذي لا يعطي أدنى فرصة للتأمل وإمكانية التواصل بسلام. وفي عودة لكلمة الإيمان بعد إفراغها من الكم الهائل من المفاهيم، والنفخ بها من روحنا، سنرى الإيمان بأهله ورموزه الذين حملوا صفاته التي عددها الله تعالى في سورة أفردها للمؤمنين: الذين هم في صلاتهم خاشعون * والّذين هم عن اللغو معرضون * والّذين هم للزكاة فاعلون * والّذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين * فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون * والّذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون * والّذين هم على صلواتهم يحافظون. – المؤمنون 2. فيا لمؤمنٍ، نال بإخلاصه مجمل هذه الصفات، وفق الخيار الذي أعطاه الله له تشريفًا، وبنفس عليه حسيبة، لا بدينونة الآخرين. فاستحقّ أن يرث الفردوس، كما يعد الله جلّ جلاله. قرن الإيمان بالعمل الصالح، لما عرف أنه المعنيّ بالأوامر والنواهي، وأنها لأجله كانت، وجاءه الخطاب: "يا أيها الذين آمنوا لم تقولون مالا تفعلون" – الصف 2، فسما بسلوكه عن أخلاق العامّة، وتخلّق بأخلاق الله، في حضورٍ وصلاة دائمة بعدد أنفاسه. وهو للفتنة مرتقب: "أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون" – العنكبوت 2، لما عرف أنه لابدّ من الفتنة، ما دام الدربُ حاملاً خطيئته، كي يقوّم من به عوجٌ اعوجاجَه، ما دمنا نسيرُ بقدميّ الخطأ والصواب، وما دام الله يحبّ المفتنَ التوّابَ. ليكتسبَ عصمتَه شرفًا واستحقاقًا شيئًا فشيئًا. وهكذا ملأ فراغَ كلمةِ الإيمان بمفهومها، ووصلَ لمعناها، لتستحيلَ العصا لحظةَ إلقائها حيّةً تسعى لمبتغاها. ذاك هو الإيمان الذي قال فيه يسوع: "الحق أقول لكم لو كان لكم إيمان مثل حبّة خردل لكنتم تقولون لهذا الجبل انتقل من هنا إلى هناك فينتقل ولا يكون شيء غير ممكن لديكم" - إنجيل متى. * * * المؤسسة الدّينيّة إنه طريق الحريّة. دربٌ لا ثاني له، ما للبشريةِ خلاص إلا بالمضيّ عليه، ليكون هذا الكوكب جنةَ الله، وأرضَ الميعاد كما أراد له، بصحوةِ من ارتضى الخلع أو العري – فوحده الخلع يمنح الأشياء هويّاتها - وتطهيرَ النفس بالنار من جنابة ركام الأفكار. ذلك هو الجهادُ الأكبر، والذي ما فتأت الدياناتُ والأنبياء تدعو إليه، لتحتجبَ الدعوة تحت كمّ هائلٍ من التفسيراتِ والتأويلاتِ قرنًا بعد قرن، وفي دهاليزِ التاريخِ وكتبَتِه، والأحاديثِ المرويّة والمنقولة، والتي تطالب قارئها بالانصياع الأعمى لها ما دامت قد حازتْ على إجماع من أجمع عليها، ليضيعَ المشتركُ الإنسانيّ شيئًا فشيئًا في خلافِ الأفكار. وما العيبُ بالأفكارِ، فالفكرُ أعظمُ آليّة للعقل، وصيرورةُ الحياة قائمةٌ عليه، وعبر تلاقحِ الأفكار المختلفة تخرجُ الأرضُ خيراتِها وتنزل السماءُ بركاتِها. شريطة أن لا يكون همّ الحوار الوصول إلى أفكار محددة بعينها، بل الوصول إلى فكرة ما تمثل إبداعًا فكريًا حقيقيًا، كما أنه ليست غاية الحوار تقريب وجهات النظر كما يعتقد أغلب الناس، بل الحوار كما أراه لقاح غيوم، وتواصلاً فكريًا وتزاوج وعي، عليه أن يؤدي إلى انبثاق إمكانيات إدراكية أفضل لدى المتحاورين، وهذا لا يكون إلا بالاختلاف!! وهكذا... يتقاربُ الناسُ المختلفون ويتلاقون ويتعارفون، فما كانوا بدءًا إلا أمّة واحدة، تصبغُها صبغةَ الله. "صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة" – البقرة 138. فبعدًا لعلم - مهما سمت مرتبته - يفرّق بين المرء وأخيه، بدعوى أن كلّ منهما وحده القابض على الحقيقة، ويا حبذا أميّة تجمع الناس بالمحبة. "وما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيًا بينهم" – الشورى 14. وكيف لتلك الحريّة المسؤولة أن تطال، ما دام هذا الفكر تربّى ولا يزال في ظلّ مؤسساتٍ دينيّة اكتسبتْ قدسيّتها بالتقادم، وما فتئت تحرفه عن غايتِه، وتصبغ الفطرةََ البيضاء التي يخلق الإنسان عليها – خريطة الربّ وسرّ النظام الكوني - بألوانٍ عاتمةٍ، لتكسبَها هويّاتٍ دنيويّة، عبر سياسة النقل والتلقين، وفنّ التجميعِ والتراكمِ، لتخدمَ في النهايةِ أصحابَ العروشِ والكروشِ، وتودي بصاحبها ليكونَ الضحيّة، وكلّ ذلك تحت سطوةِ وهمِ إرضاءِ الله والقرب منه، فيما الخوف يعشّش في النفوس أكثر فأكثر، ويشكل أعتى حجابٍ ظلمانيّ يحول بيننا وبين إدراك الحقيقة. مؤسساتٌ أخضعته لعبوديةِ فكرة التصنيفِ والمراتبِ، تحت اسم الصلاح والإصلاح، بينما همّها السلطة والهيمنة حتى على أنفاس العباد، وأقصته عن تلك الإرادةِ الحرّة التي أعطيت للإنسان تشريفًا له، ليتلمسَ طريقَه نحو إلهِ حقٍّ لا إلهِ وهمٍ، إله حيّ كلّ يوم هو في شان، لا صنم أو وثن. مؤسسات حرّمت عليه التفكير في أن يتطاولَ إلى مقام الأنبياء والأولياء، فوحدهم - كما يرى فكرها العتيد المقدّس المتوارث - المختصون بهبوط الوحي، رغم أنه حتى الطفل - وليتنا نعود أطفالاً - يمكنه أن يقرأ كيف أوحى الله إلى الجبل والنحل وإلى أمّ موسى، وغيرهم، وكيف الشياطين أيضًا توحي لأوليائها كما جاء في النصّ القرآني. لكنهم كالعادة وقفوا عند الكلمة، فحُجبوا بها عنها، لتتولد من جديدٍ فكرة أخرى تمنع قدسيتُها الموهومةُ أن نتأملَ في الخلافة الإنسانية، وفي "وأنت الكتاب المبين الذي بأحرفه يظهر المضمر"، والتي تستبطن قدسيّةَ أي إنسان يفعّل إنسانيته، بتسطيرِ نونِه على أرضِ تكوينه. وتنظر للوحي على أنّه تدفقٌ روحيٌّ منّا وإلينا، يسبك الوجودَ الإنساني بالربوبيّة، ويرفعُ ركامِ التحجّبِ خلفَ ضبابيّةِ العتهِ البشريّ. لا أوامرَ مديرٍ لموظفٍ، أو إملاء قسريًا غير قابل للرفض. وهكذا يرى كلَّ من ألقى السمعَ وهو شهيد، كيف فتحَ النبيُّ بابَ الولايةِ على مصراعيه ولم يغلقْه حين قال: "إلا أنه لا نبيّ بعدي". فالنبوةُ ختمت حقًا كوظيفةٍ بمحمدٍ (ص)، بعد أن أكمل الدين وأتم النعمة، وأشرع باب الولاية أمام كلّ بشريّ ليحققَ إنسانيتَه ويحملَ تكليفَه، وفقَ النهجِ الإلهيِّ الذي رسمه الدينُ ووضعَ خريطتَه، بدل وهمِ انتظارِ فرجٍ تأتي به السماءُ فجأة، فنصلّي له صلاة العاجزين الذين لا حول لهم ولا قوة، أو ربما نقتله، ولا عجب، فقد اعتاد الإنسانُ أن يحاربَ ويعاديَ ويقتلَ كلَّ ما يخالفُ تصوراتِه وما يحسبُه صوابًا، فكان لزامًا تطهيرَ القلبِ من الكدوراتِ ليستقيمَ الفكرُ، لأن القيامةَ كما يراها أهلُ الحقّ الآن وفي كلّ وقت. يتبع... *** *** ***
|
|
|