|
مرايا: شعريّة العمل الفنّي المفتوح
I لقد توافقت المذاهب الجمالية المعاصرة، في معظمها، على أن العمل الفني "رسالة" ملتبسة أساسيًا. فهو مجموعة مدلولات في دالٍّ واحد. وأن يكون هذا الوضع ملازمًا عددًا متزايدًا من الأعمال الفنية الحديثة، في العالم الغربي واللبناني (والعربي حديثًا، منذ لفحته رياح الحداثة)، حمل ذلك بعض العقول المتخصصة، على دراسة هذه المسألة. ومن هؤلاء الألسني والناقد والروائي أمبرتو إيكو. ففي المؤتمر العالمي الثاني عشر للفلسفة، الذي عقد عام 1958، ألقى إيكو بحثًا مقتضبًا بعنوان: مسألة العمل الفني المفتوح. ثم توسَّع فيه من بعد في سلسلة من الأبحاث، محاولاً أن يقدِّم جوابًا. وبناء على اقتراح صديقه إيتالو كالفينو، أصدرها مجموعة في كتاب عام 1962، بحسب اعترافه للمجلة الفرنسية ماغازين ليتيرير في عددها 262 لشهر شباط 1989. وقد تُرجم الكتاب إلى الفرنسية عام 1965، وصدر عن دار نشر سوي l'œvre ouverte, Seuil، يبدأ إيكو بالسؤال: ماذا نعني بالشعرية؟ إن المنحى النهجي الذي ينطلق من الشكلانيين الروس والبنيويين في براغ، إلى البنيويين الفرنسيين، يعني بـ"الشعرية"، دراسة العمل الأدبي من وجهة نظر موضوعية كليًا للبنى اللغوية المدروسة جوهريًا وحصريًا. أما إيكو فيُضفي على "الشعرية" معنى أقرب إلى مفهومها الكلاسيكي: إنها ليست نظامًا من القواعد الصارمة L'Ars Poetica (كقانون مطلق)، بل منهج معالجة يحدّده الفنان لنفسه كل مرة، أي تصوّر العمل الفني المنوي إنجازه جليًا أو ضمنيًا. أقول جليًا أو ضمنيًا، لأن كل بحث يتعلق بالشعرية، يرتكز، إما على ما يُعلنه الفنان بوضوح (مثلاً، قصيدة الفن الشعري لبول فرلين، أو مقدمة بيار وجان لموباسان)، وإما على تحليل يبدأ من بنية العمل (ولكن يتجاوزها: أي الطريقة التي صيغ بها هذا العمل، والتي تسمح بتحديد الطريقة التي كان يُراد أن يُصاغ بها). وعليه، فإن مفهوم "الشعرية" عند إيكو، يتناول مشروع تشكّل العمل الفني وبنائه، متجاوزًا بذلك مشروع البنيويين (الأضيق): حيث تتم دراسة المشروع الأولي من طريق تحليل البُنى النهائية للعمل الفني، باعتبارها معبِّرة عن غاية تواصلية. لكن الناقد لا يستند فقط إلى مشروع الخلق. إنه لا يعتقد بأن دراسة العمل، حتى كبنية، يجب أن تتوقف عند النظر في الموضوع، واستبعاد الطرائق التي يمكن أن تؤدي إلى "استهلاكه". إن تحديد الشعرية يجب أن يستوعب هذين العاملين. والواقع، أن الانتاج والاستهلاك يمكنهما أن يكونا في أصل هذين العاملين الغريبين كلٌّ عن الآخر. لكن الواقع أيضًا أنه في اللحظة التي يُطلق الفنان عملية انتاجية، يُطلق أيضًا نموذجًا استهلاكيًا. وغالبًا ما يُطلق إمكانات استهلاكية مختلفة، تكون حاضرة في ذهنه. بعبارات أخرى، إن الفنان المنتج يعرف أنه يبني بواسطة موضوعه "رسالة". لا يستطيع أن يتجاهل أنه يعمل من أجل "مُتلقٍ". وهو يعرف أن هذا المتلقي سوف يؤوّل هذا الموضوع-الرسالة، مستفيدًا من كل التباساته. لكنه لا يشعر، من أجل ذلك، بأنه غير مسؤول عن تلك "الحلقة التواصلية". وتاليًا، كل شعرية بيّنة هي أولاً، مشروع للمعالجة، ومشروع تواصلي. إنها مشروع عن "موضوع" وعن "مفاعيله". وفي المقابل، إن تعيين هوية تضمينية في شعرية ما، يرجع إلى معرفة المشروع من خلال الطريقة التي نتمتّع بها - أو يتمتّع بها آخرون - بالموضوع. إذًا، كل بحث عن "الشِعريات" يجب أن يأخذ في الحسبان هذين الجانبين؛ وبالأحرى، إذا كان الأمر يتعلق بـ"شِعريّات" العمل الفني المفتوح، التي هي "مشروع رسالة مزوّدٌ بيانًا طويلاً من الإمكانات التأويلية". ومثل هذه الأبحاث، غالبًا، تكشف عن بعض التباين بين المشروع والنتيجة، بين الشِعرية والعمل الفني. وعلى هذا الأساس، كان توجّه إيكو، في دراسته، نحو أعمال فنية يبدو له فيها المشروع والنتيجة متطابقين. II يتحدث الجماليون أحيانًا عن "الاكتمال" و"الانفتاح" في العمل الفني، لإضاءة ما يحدث في مدة "استهلاك" الموضوع الجمالي. والعمل الفني هو، من جهة، موضوع يمكن أن نهتدي فيه إلى صيغته الأصلية كما تصوّرها المؤلف، من خلال تشكّل التأثيرات التي يحدثها في عقل المستهلك وإحساسه: حيث أن المؤلف يخلق الشكل المنجز كي يتذوقه المتلقي ويفهمه. ولكن من جهة أخرى، كل مستهلك، في استجابته لمجموعة من المؤثرات، محاولاً أن يتبيّن علاقاتها ويفهمها، يمارس وعيًا شخصيًا، وثقافة محدّدة، وأذواقًا، وميولاً، وأحكامًا مسبّقة، توجّه متعته بالنص من منظور ما، خاص به. وفي الأساس، كل شكل هو مشروع جماليًا، في الحد الذي يمكن تأمله فيه وإدراكه وفق منظورات متعددة، يتجلّى فيها تنويع من الأوجه والأصداء من دون أن يفقد هذا الشكل هويته. (إن لوحة إشارات طُرقيّة، لا يمكن، بخلاف ذلك، أن يُنظر إليها إلاّ من وجه واحد. وكل محاولة لأخضاعها لتفسيرات متخيلة، هي تجريد لها حتى مما يحدّدها). وفي هذا الاتجاه الأولي، فإن كل عمل فني، حتى ولو كان ذا شكل مكتمل و"مغلَق"، من حيث وظائفه العضوية المتوازنة، هو "مفتوح"، على الأقل في ما يمكن تأويله بأوجه مختلفة، من دون المس بفرادته غير القابلة لذلك. إن التمتع بعمل فني يعود إلى إعطائه تأويلاً ما، إنجازًا ما، إلى جعله يحيا في منظور أصلي. وقد أوضح ذلك رولان بارت في منهجيته النقدية، حيث يقول: إن هذه القابلية للتأويل ليست فضيلة صغرى، بل بالعكس، هي كينونة الأدب بالذات، وقد بلغ ذروته. فالكتابة هي زلزلة معنى العالم، وإملاء سؤال غير مباشر، يستنكف الكاتب، في توتره الأخير، عن الإجابة عليه. فالجواب، هو ما يقدّمه كل منا، محمّلاً إياه تاريخه، لغته، حريته؛ ولكن، بما أن التاريخ، واللغة، والحرية تتغير باستمرار، فجواب العالم للكاتب هو لانهائي ... إنما لكي تكتمل اللعبة... يجب احترام بعض القواعد؛ يجب من جهة، أن يكون للعمل الفني حقًا شكل، وأن يشير حقًا إلى معنى رجراج، وليس إلى معنى مغلق..." (مقدمة كتابه: Sur Racine، منشورات Seuil). إن شعرية العمل الفني "المفتوح" قد يسّرت للمؤوّل أن يجعل من نفسه مركزًا فاعلاً لشبكة من العلاقات لا تنفد، يتخذ منها الشكل الخاص به، من دون أن تحدّده "ضرورة" مشتقّة من بنية العمل الفني. لقد شهدت القرون الوسطى تطوّر "النظرية المجازية" التي يمكن وفقها تأويل "الكتاب المقدس" (ثم امتدادًا، الشعر والفنون التصويرية) من جوانب أربعة مختلفة: حرفية، مجازية، أخلاقية، وتأويلية. وهذه النظرية التي عوّدنا إياها دانتي، ونجد لها جذورًا لدى القديس بولس، ثم أخذ بها القديس جيروم، القديس أوغسطينوس، القديس بونافنتورا، القديس توما الأكويني، وسواهم... أقول إن هذه النظرية إنما تشكّل المفتاح لشعر القرون الوسطى. وإن العمل الفني القائم على هذا المبدأ يتمتع ولا ريب، بهذا "الانفتاح"؛ والقارئ يدرك أن كل جملة، وكل شخصية، تحتوي معاني متعددة، وعليه أن يكتشفها. وبحسب وضعه الفكري، سوف يختار المفتاح الذي يبدو له الأفضل، و"سوف يستخدم العمل الفني في الاتجاه الذي قد يكون مختلفًا عن المأخوذ به في قراءة سابقة. على أن "الانفتاح" هنا، لا يعني "لامحدودية" التواصل، والإمكانات الشكلية اللامتناهية، وحرية التأويل. بكل بساطة، إن لدى القارئ مجموعة من الإمكانات المحددة بعناية، والمكيّفة بصورة لا يخرج معها رد الفعل البتة عن رقابة المؤلف. "وقد أوضح دانتي هذا النمط من التطوير، في رسالته الثالثة عشرة، حيث أورد بيتًا شعريًا مع تأويله: حرفيًا، يعني أن أبناء اسرائيل خرجوا من مصر في زمن موسى. ولكن مجازيًا، قد يعني خلاص البشر على يد المسيح. وأخلاقيًا، تحوّل النفس من حالة الخطيئة إلى حالة النعمة. وتأويليًا، يعني تحرّر النفس المقدسة في خروجها من عبودية الفساد إلى حرية المجد الأزلي". وهكذا، على القارئ أن ينتقي من هذه القراءات الأربع، المعنى الذي يشاء، ولكن بدون أن يحيد عن قواعد التأويل المعينة مسبّقًا والمتواطئة (أي المحافظة على المعنى نفسه في مختلف أشكاله). إلاّ أن هذا التأويل الرباعي المحدود كميًّا في النص المجازي، في مقابل الأبعاد العديدة التي ينطوي عليها العمل الفني المعاصر، يخرج عن نطاق بحثنا هذا. وعليه، ففي إمكاننا، بادئ ذي بدء، أن نعثر في الجمالية الباروكية على مثل واضح لمفهوم "الانفتاح" الحديث. فالفن الباروكي هو رفض المحدّد بالذات، رفض الثابت، رفض غير الملتبس: خصائص تميّز بها الشكل الكلاسيكي في عصر النهضة. الشكل الباروكي دينامي. ينزع نحو التباس العمل، من طريق اللعب بالإمتلاءات والفراغات، بالأضواء والظلال، بالمنحنيات، بالخطوط المنكسرة، بالزوايا وبالإنحناءات المتنوعة، بغية الإيحاء بتمدّد متدرّج للمكان. وإذا ما كانت الروحية الباروكية تبدو كأول مظهر معبّر عن الثقافة والادراك الحديثين، فلأن الإنسان، قد "انحرف" للمرة الأولى عن النموذج، عن الشرعي. لم يعد العمل الفني مادة للتأمل في جمالها المتقَن جيدًا، بل هو سر للاكتشاف، واجب ليُكمَل، محرّض للمخيلة. ثمة مثل آخر: وهي نظرية الشعر الصافي التي نشأت بين الاشراقية L'illuminisme والرومنطيقية. فقد نادت التجريبية الانكليزية، مع رفضها للأفكار العامة والقواعد التجريدية، بـ"حرية" الشاعر، وأعلنت نظرية "الإبداع". فمن آراء بورك عن الطاقة الانفعالية في الكلمات، مرورًا بآراء نوفاليس عن الطاقة الإيحائية في الشعر الذي أصبح فن المعنى المبهم، والمدلول الملتبس. وعليه، فإن العمل الفني الذي يحمل أبعادًا ومدلولات مختلفة، يصبح مثيرًا للاهتمام كما التعبير بالذات عن الهوية الشخصية. ولكن كان يجب انتظار نهاية الرومنطيقية، والنصف الثاني من القرن التاسع عشر، لنشهد ولادة الرمزية، والخطوط الأولى لنظرية العمل الفني "المفتوح". وإن قصيدة ڤرلين الفن الشعري مثل جليّ على ذلك:
الموسيقى قبل كل شيء، وتذهب آراء مالارميه إلى أبعد في الاتجاه نفسه، حيث يقول: إن تسمية شيء ما، تعني إلغاء ثلاثة أرباع التمتع بالقصيدة التي بُنيت على أساس أن يكشف عنها شيئًا فشيئًا: أي يوحى بها... هذا هو الحلم... يجب ألا يفرض تفسير نفسه على القارىء. وإن الفراغات، واللعب بالحروف الطباعية، وطريقة اخراج النص الشعري، تساهم جميعها في خلق هالة من الالتباس حول الكلمة، وتحميلها إيحاءات متنوعة. ونرى هنا أن العمل الفني قد أضحى "مفتوحًا" عن عمد أمام حرية تفاعل القارىء. وهذا العمل الفني "الموحي" إنما يتحقق بتحمّله كل مرة مساهمة المؤول الانفعالية والخيالية. وإن تكن كل قراءة شعرية تفترض عالمًا خاصًا يرمي إلى التطابق بأمانة مع عالم النص، فإن النص المبني على أساس إيحائي يطمح مباشرة، إلى عالم القارىء الداخلي، بغية أن يفجر فيه أجوبة جديدة، غير متوقعة، ذات أصداء خفية. وإن الرمزية، في ما هو أبعد من مقاصدها الميتافيزيقية، تقتضي "انفتاح" الادراك الحسي الجمالي. إن قسمًا كبيرًا من الإنتاج الأدبي المعاصر، يرتكز على استخدام الرمز كتعبير عن المبهم، المفتوح على شتى التفاعلات والتفسيرات المتجددة باستمرار. وعليه، تبدو أعمال كافكا كنموذج أصيل للعمل الفني "المفتوح". لدى كافكا، بعكس ما كان يتم في بنى القرون الوسطى المجازية، تظل المعاني متعددة الأوجه: لا تؤكد صحتها أي موسوعة، ولا تقوم على أي نظام عالمي. وكل التأويلات الوجودية، واللاهوتية، والعيادية، والتحليلية النفسية، للرموز الكافكوية، لم يستوف كل منها سوى جزء بسيط من إمكانات النصوص، التي تبقى "مفتوحة" دائمًا لانغماسها في ضبابيتها. إنها تستبدل عالمًا تنظمه قوانين مسلَّم بها، بعالم مسلوب كل مراكز التوجيه، وخاضع لطرح قيمه ويقينه للبحث بصورة دائمة. ويرى قسم من النقد أن الأدب المعاصر مبني على الرموز - حتى وإن صعب تحديد ما إذا كان المؤلف حقًا ذا خلفية رمزية، وميل إلى الغموض. فالناقد الأميركي مثلاً، دبليو. واي. تندال W.Y Tindall في كتابه عن الرمز الأدبي The Literary Symbol, Columbia, N.Y بعد تحليله الأعمال الأساسية في العصر الحديث، بحثًا عن برهان نظري واختباري، على قول فاليري: "ليس من معنى حقيقي للنص"، ذهب إلى القول بأن "العمل الفني" أشبه بأداة يستطيع كل منا، حتى المؤلف، أن "يستعمله" كما يحلو له. وتبعًا لذلك، فإن هذا النوع من النقد، يواجه العمل الأدبي كإمكان دائم من "الانفتاحات"، كخزان لا ينضب من المعاني. وإن الجهود المتضافرة بشأن بنية الاستعارة ومختلف أنواع "الإبهام" التي يصطبغ بها الخطاب الشعري، تنحو هذا المنحى. ولعل جيمس جويس في عمله الأدبي يقدم إلينا الحد الأقصى الذي يمكن أن يبلغه الإبداع "المفتوح" كصورة عن الوضع الوجودي والانطولوجي في العالم المعاصر. ففي "يوليسيس" فصل بعنوان الصخور الضالة يشكل عالمًا صغيرًا يمكن النظر إليه من زوايا مختلفة، تُفلت كليًا من قوانين الشعرية الأرسطوطاليسية وتاليًا، من سياق الزمن غير المنعكس في مكان متجانس. وكما علّق الناقد الانكليزي ادموند ولسون في كتابه قلعة أكسِل (مترجم إلى العربية بقلم جبرا ابراهيم جبرا) بقوله: إن قوة يوليسيس، عوضًا عن أن تسير في مسار خطي، توسع نفسها في كل بعد، بما في ذلك بعد الزمن، حول نقطة مفردة. إن عالم يوليسيس يعج بحياة معقدة لا تُستنفد. ونحن نعيد زيارته كما نعيد زيارة مدينة يزيد فيها ما نتبيّنه من وجوه، وما نفهمه من شخصيات، وما ندركه من علاقات وتيارات واهتمامات. وقد أعمل جويس مهارة تكنيكية كبيرة في تعريفنا بعناصر قصته في سياق سوف يمكّننا من أن نجد المعالم ولا نضل الطريق، غير أنني أشك في أن ثمة إنسانًا يتمتع بذاكرة تمكّنه عند القراءة الأولى من الوفاء بما تطالبنا به "يوليسيس". وعندما نعيد قراءتها ندخلها من أي نقطة نشاء، كأنها شيء صلد قائم كمدينة موجودة فعلاً في المكان، وللمرء أن يدخلها من أي اتجاه يريده. (الترجمة العربية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ص 166، 1979). وفي كتاب جويس الآخر: فينيغانز ويك، نحن أمام عالم آينشتايني حقيقي، محني على ذاته (آخر كلمة في الكتاب تماثل الأولى). إنه عالم مكتمل إذًا، وفي الوقت عينه لا حدود له. كل حدث، كل كلمة، يمكن أن تكون على صلة بالكلمات الأخرى. والتأويل الدلالي للفظة ينعكس على المجموعة. وهذا لا يعني أن العمل مسلوب المعنى. فجويس قد زوده مفاتيح. وذلك، لأنه يرغب بوضوح، أن يُقرأ في معنى ما. لكن لهذا "المعنى" ثراء العالم. والمؤلف يزعم أنه يضم كلية المكان والزمان، في كل الأمكنة والأزمنة الممكنة. III لا نقصد مما تقدم أن نرفع أو نحط من شأن عمل فني في هذا الاتجاه، بالنسبة إلى الأعمال المعتبرة "جاهزة". فهدفنا أن نقارن بين مختلف الشعريات، تبعًا للموقف الثقافي الذي تمثل انعكاسه ومادته معًا، وليس أن نصدر حكمًا على قيمة الخلق الجمالية. ولا يسعنا أيضًا، وبنوع خاص، أن نغفل في حقل الأدب، سبقًا مدهشًا في بدع "العمل المتحرك" وأعني به "الكتاب" لستيفان مالارميه. هذا العمل الضخم والشامل، هذا العمل بامتياز، الذي كان سيشكل خاتمة نشاطه الشعري، بل بالحري، بلوغ العالم بكامله كماله (العالم وجد لينتهي في كتاب). وبرغم عمله عليه طوال حياته، لم يتمكن مالارميه قط من تحقيقه. كما أن البحث الفيلولوجي الدقيق بعد رحيله لم يتوصل إلى العثور إلا على بعض الخطوط الأولية. هذا "الكتاب" كما تخيله مالارميه "لا يبدأ ولا ينتهي، على الأكثر هذا ما يبديه". إنه بناء "مفتوح" و"متحرك". صفحاته لا تتلاحق في نسق محدد، ولكن نسبة إلى فئات منسقة وفق نظام تبادلي. وهو يتكون من سلسلة من الملازم غير المترابطة، الصفحة الأولى والأخيرة من كل ملزمة تكتبان على ورقة واحدة كبيرة مطوية نصفين، كإشارة إلى بداية الملزمة ونهايتها. في داخله، تلاعب أوراق بسيط، متحرك، يسمح بكل التركيبات الممكنة، بدون أن يُحرم أي منها معنى ما. ويطمح "الكتاب" بذلك، إلى أن يكون عالمًا في انصهار مستمر لا يتوقف عن التجدد أبدًا في نظر القارىء. ترى، هل كان هذا المشروع اليوتوبي – لو قُدّر له أن يتحقق – سيحظى بأي قيمة، أو كان سيبدو تجسيدًا ملتبسًا، سريًّا، وباطنيًا، لوعي منحل وصل إلى نهاية مساره. نرجح الاحتمال الأخير. إنها لمغامرة كبرى - ومالارميه نفسه لم يعرف أن يتجنب هذه المغامرة – أن نعتبر المجاز أو الرمز الشعري والحقيقة الصوتية أو الصيغة التشكيلية، كأدوات معرفة تخوّلنا الامساك بالواقع أفضل من المبادىء المنطقية. إن لمعرفة العالم قناتها المشروعة، وهي في العلم. وكل توق رؤيوي للفنان حتى ولو كان خصبًا على الصعيد الشعري، يظل في حدود المجازفة. فوظيفة الفن ليست في "معرفة" العالم ولكن في إنتاج "تتمات" للعالم: الفن يبدع أشكالاً مستقلة تضاف إلى الأشكال الموجودة، أشكالاً لها حياة، وقوانين خاصة بها. ولكن، إن يكن الفن غير قادر على إنتاج بديل للمعرفة العلمية، فإننا في المقابل، يمكن أن نرى فيه مجازًا ابيستمولوجيًا: في كل عصر، إن النهج الذي تبنى فيه شتى أشكال الفن، قد يكشف عن النهج الذي يرى فيه العلم أو الثقافة المعاصرة وجه الحقيقة. فالانفتاح الباروكي وديناميته مثلاً، قد استدعيا مجيء مرحلة جديدة من المعرفة العلمية. كما أن استبدال العنصر المرئي بالعنصر اللمسي، والأهمية المعطاة للذاتية، والاهتمام بترك "الكائن" من أجل "الظاهرة" في الهندسة كما في الرسم، كل ذلك يحيلنا على الفلسفات والسيكولوجيات الجديدة للانطباع والإحساس، إلى التجريبية التي تحوّل حقيقة المادة الأرسطوطاليسية إلى سلسلة من الادراكات الحسية. ففي العالم العلمي المعاصر، كما في الهندسة أو الرسم الباروكي، يُنظر إلى الأجزاء بالتكافؤ. كل جزء يتوق إلى التمدد حتى اللانهاية. إن الإنسان لا يقبل أن يحدّه أيّ قانون مثاليّ في العالم، ويتشوّف إلى الاكتشاف، إلى تماس دائم التجدد مع الحقيقة. فليس مبعث دهشة إذًا، أن نلمح في شعرية العمل الفنيّ "المفتوح" (وأكثر أيضًا في العمل الفني المتحرّك) تقريبًا الصدى الواضح لبعض اتجاهات العلم المعاصر. والواقع، أنّ البنية الموسيقية ليست بالضرورة محددة التوالي. فالموسيقى المتسلسلة La Musique Serielle لا تتضمن مركزًا نغميًا يسمح باستنتاج حركات العمل المتوالية، من البدايات. وذلك يعود إلى أزمة في مبدأ العلية. إنّ المنطق "ذو القيمتين" (التناقض التقليدي بين الحقّ والباطل، بين الفعل ونقيضه) لم يعد الأداة الوحيدة الممكنة للمعرفة. وبتنا نرى منطقيات ذات قيم متعددة، "اللامحدود" عندها مثلاً، نوع من المعرفة. وفي هذا السياق الثقافي انبثقت شعرية جديدة لا يُزوَّد العمل الفني فيها نهاية "ضرورية" أو متوقعة، كما تصبح حرية المؤول أيضًا، شكلاً من اللااستمرارية التي تُمثّل في الفيزياء المعاصرة، ليس زمن الخيبة، ولكن الموقف الحتمي والأساسي، على الأقلّ في المستوى ضمن– الذرّة Intra-Atomique. وهكذا، نجد القِطَع الموسيقية، كما في "كتاب" مالارميه، رفضًا لإنجاز عمل فني ما، متطابق مع تحديده الأخير. كلّ إنجاز يطوّر العمل الفني، ولكن لا يستنفده. وإنّ الإنجازات المختلفة ما هي سوى تحقيقات إضافية. وباختصار، إنّ العمل الفنيّ الذي يُعاد النظر فيه كليًا كل مرة، سيبقى دائمًا غير مكتمل. تُرى، هل هي من المصادفات، أن تعاصر مِثل هذه الشعريات قانون "الفيزياء التكامليّة"، الذي بموجبه يمكن إظهار مختلف التحرّكات في جُزيء عنصري، في آن واحد، والتي علينا كي نصفها، أن نستعمل مختلف "النماذج" التي، بحسب علم الفيزياء التكامليّة، تكون مصيبة، إذا استعملناها بدراية، ولكن في ما بينها متناقضة. فيُقال عنها إذ ذاك بأنّها متكاملة تبادليًا. وعليه، ألا يمكننا أن نقول، عن الأعمال الفنية، كمثل العالِم عن الوضع الاختباري، بأنّ المعرفة غير المكتملة في نظام ما، هي عامل أساسي في تكوينه؟ وها هما علم النفس وعلم الظاهرات (أو الظاهريّات) يشيران من خلال "التباسات إدراكية حسيّة" إلى إمكان أن نتموضع دون "en – deça" اصطلاحات المعرفة، كيف نقبض على العالم في ريعانه، قبل كل ترسخات التعوّد والعادة. لقد سبق لأدموند هوسرل أن لاحظ أنّ "لكلّ حالة من الشعور أفقًا يتغيّر وفقًا لتغيّر ارتباطاته بحالاتٍ أخرى وبأوجه جريان خاصة... مثلاً، في كلّ إدراك حسّي خارجي، تحيلنا جهات الشيء "المدركة حقيقةً" على الجهات غير المدركة، والتي قد استُبقت كمظاهر "آتية" في الإدراك الحسّي. ويقول في ذلك هوسرل: أتخذ لي مثلاً كموضوع للوصف، إدراك مكعّب من المكعّبات. إنني أرى حينئذٍ في التفكير الخالص، أنّ "هذا" المكعّب الفردي، قد أُعطي لي على نحو متصل، بما هو وحدة موضوعية، وأنّ هذا إنما كان ضمن تعدّد متغيّر وكثير الأشكال، من المظاهر (أنماط حضوره) المتّصلة في ما بينها بعلاقات محددة. إن هذه الأنماط ليست في جريانها، سلسلة من الحالات السابقة لا صلة بينها. إنّها تجري خلافًا لذلك، في وحدة "تركيب ما"، نعي وفقًا له الشيء ذاته - بما هو حاضر - بصورة دائمة. إنّ المكعّب الواحد والوحيد، يلوح على أنحاء وبمظاهر مختلفة، تارة من "قرب"، وتارة من "بُعد"، في أنماطٍ متغيّرة، من "هنا" ومن "هناك"، مقابلة لـ"هنا" مُطلق (يوجد بالنسبة إليّ، "في جسدي الخاص بي" الذي يبدو لي في الوقت ذاته)، يرافق الشعور به هذه الأنماط بصورة دائمة، برغم أنّه يبقى شعورًا غير ملحوظ. (تأملات ديكارتية لأدموند هوسرل، ترجمة تيسير شيخ الأرض، دار بيروت 1958). إنّ في ذلك "رغبة" متواصلة، تأخذ في كلّ وجهٍ إدراكي حسيّ جديد، معنى جديدًا. وإلى ذلك، فإنّ لهذا الادراك الحسيّ آفاقًا تشمل إمكانات ادراكية حسية أخرى، وأعني الإمكانات التي قد نحصل عليها بسرعة، إذا ما وجهنا مجرى الادراك الحسيّ وجهة أخرى، فإذا ما التفتنا مثلاً، على نحو ما، فإن التفاتنا يكون مختلفًا، وكذلك إذا قمنا بخطوة إلى الأمام أو إلى هذا الجانب أو ذاك، وهلمّ جرّا. سارتر من جهته، يُظهر أن الموجود لا يمكنه أن يقتصر على سلسلة نهائية من الظهورات، لأنّ كلا منها على علاقة مع موضوع لا يتوقف عن التغيّر. ليس فقط لأنّ الشيء يعرض جانبيات Profils مختلفة، ولكن أيضًا، لأنّ من الممكن أن توجد وجهات نظر مختلفة بشأن الجانبية ذاتها. ولتحديد الشيء، يجب وضعه في السلسلة الكاملة التي هو جزء منها. وهكذا نُحلّ مكان الثنائية التقليدية للوجود والظهور، قطبية اللانهائي والنهائي التي تُموضع اللانهائي في قلب النهائي ذاته. وهنا يلاحظ سارتر المعادلة بين هذا الموقف الادراكي الحسيّ، حيث تتشكل كل معارفنا، وعلاقتنا الادراكية-التأويلية بالعمل الفني: وبهذا تسقط ثنائية القوة والفعل. فكل شيء بالفعل. وليس وراء الفعل قوة ولا "حال" ولا قدرة. فنحن نرفض مثلاً، أن نفهم من "العبقرية" – بالمعنى الذي نقصده حين نقول إنّ بروست كان "ذا عبقرية" أو كان "عبقرية" – أنها قوة خاصة لإنتاج بعض الأعمال، لا تُستنفد في إنتاج هذه الأعمال. إن عبقرية بروست ليست أعماله مأخوذة على حدة" ولا القدرة الذاتية على إنتاجها: إنها الأعمال منظورًا إليها على أنها جماع تجليات الشخص. وهذا هو السبب في أننا نستطيع أن ننبذ ثنائية الظاهر والماهية. إن الطاهر لا يُخفي الماهية، بل يكشف عنها: إنه هو الماهية. فماهية الموجود ليست قوة مغرورة في جوف ذلك الموجود، بل هي القانون الجليّ الذي يهيمن على توالي تجلياته. إنه أساس المتوالية. (الوجود والعدم لجان-بول سارتر، ترجمة عبد الرحمن بدوي، دار الآداب). إن هذا النمط من "الانفتاح" هو أساس كلّ فعل إدراكيّ حسي، ويميّز كل لحظة من خبرتنا الادراكية الحسية: كل ظاهرة، منذ الآن، هي "مسكونة" بـ"قوة ما"، "قوة تتجلى للعيان في سلسلة من الظهورات الحقيقية أو الممكنة". إن مسألة علاقة الظاهرة بحقيقتها الأنطولوجية، تصبح من خلال هذا المنظور للانفتاح الادراكي الحسي، مسألة علاقة الظاهرة بتعدد التكافؤ للادراكات الحسية التي يمكن أن نحوزها. ويذهب ميرلو - بونتي إلى أبعد أيضًا في هذا الاتجاه: كيف لا يمكن أيّ شيء أن يظهر لنا نهائيًا، بما أن تركيبه لم يكتمل قطّ؟ (...) كيف لا يمكنني أن أحوز اختبار العالم كفرد موجود بالفعل، بما أن ما من نظرة ادراكيّة حسية أتخذها تستوفيه، وكل الآفاق تظل دائمًا "مفتوحة"؟ (...) إنّ الاعتقاد بالشيء والعالم لا يمكن أن يعني أنّ افتراض تركيب ما مكتمل، بما أن هذا الاكتمال متعذّر، لطبيعة إمكاناته المنظورية بالذات، وربطها بعضها ببعض، لكون كل منها يحيل بلا نهاية، بما لديه من آفاق، على إمكانات منظورية أخرى... وإن التناقض الذي نجده بين حقيقة العالم وعدم اكتماله، هو التناقض بين كلية حضور الشعور (أو الوعي) والتزامه حقل حضور ما (...) وهذا الالتباس ليس نقصًا في الشعور أو الوجود، بل تحديد لهما (...) إن الشعور الذي يعبر إلى حيّز الضوء، هو بالعكس، حيز اللبس بالذات (Merleau – Ponty: Phénomoligie de la perception, NRF). IV تلك هي المسائل التي يكشفها علم الظاهريات في أساس وضعنا البشري بالذات في العالم. إنها تطرح، ليس فقط على الفيلسوف وعالم النفس، بل على الفنان، إثباتات لا بد أنها محرّضة له في نشاطه الإبداعي. "إنه لأمر أساسي إذًا، للشيء وللعالم، أن يبدوا "مفتوحين"، كي نعد أنفسنا برؤية شيء آخر دائمًا"، بحسب ميرلو – بونتي. يمكن الظن أن هذا الرفض للضرورة الأكيدة والصلبة، أن هذا الميل إلى الالتباس، إلى اللامحدود، إنما يعكس أزمتنا العصرية. يمكن أيضًا اعتبار أن شِعريات "العمل الفني المفتوح"، إنما تُعبّر عن الإمكانات الإيجابية عند الإنسان المنفتح على التجدّد الدائم في تخطيطات حياته ومعرفته، وإنشغاله في الكشف المتنامي عن مواهبه وآفاقه. وبعد، نشير إلى أن أيًا من الأعمال الفنية "المفتوحة" و"المتحركة" التي تطرّقنا إليها، بدا لنا تجميعًا لعناصر اتفاقية، خرجت من الفوضى لتأخذ أي شكل كان. إننا نشدّد على أن تلك الأعمال، إنما هي إنجازات فنية حقيقية بكل معنى الكلمة. وإلاّ لاعتبرنا، من هذه الناحية، القاموس الذي يضم آلاف الكلمات التي تُتيح لنا بحرية تامة، أن نكتب قصائد، وأبحاثًا فيزيائية الخ... عملاً "مفتوحًا" لكل التشكيلات، نسبة إلى المادة التي يقدمها إلينا. إن "انفتاح" العمل الفني وديناميته بعيدان كل البعد عن ذلك. ففي العمل الفني طاقة على أن يكامِل "تتمات" (أو تكملات) متنوعة، يحاول أن يدمجها في لعبة حيويته العضوية؛ حيوية لا تعني اكتمالاً، بل مادة في أشكال مختلفة. وأخيرًا، لقد أردت من عرض قراءتي هذه، لبحث إيكو (وأقول قراءتي، لأن لكلٍّ قراءته الخاصة التي تحمل نفسه وانطباعه ومداخلته)، أن ألفت انتباه القارئ العربي إلى أهمية الأعمال الفنية العربية "المفتوحة" في أدبنا الحديث، والتي ما زال حتى الآن يزورّ عنها، لتعوّد ذائقته مجالسة الأعمال التقليدية ونصوص البلاغة والفصاحة وأجوبتها "الجاهزة". فلعلي في عرض قراءتي هذه، لنظرة واحدة من أبرز الأقلام الغربية، أساهم في التخفيف من الإهمال الذي يصيب إبداعاتنا العربية الحديثة، ولو بالقليل. *** *** *** النهار |
|
|