كثرة المعلومات وتردي الثقافة
علي جازو
يحدث
أن تتردى الثقافة، عامة، مع كثرة الحديث عن إعلاء قيمتها. ويترافق النداءُ الحثيث
والعمل الدؤوب لتعزيز المبادئ الديمقراطية القويمة ونشر المثل الإنسانية، مع صور
سحقها على مرأى العالم. وتقدم وسائط الاتصال الحديثة مجالاً واسعًا ونهمًا لهكذا
تردٍّ وتناقض، رغم كونها صلة فعالة وشديدة الحيوية والتجدد لتحرر فردي استثنائي،
خارج أبواب الأسرة الضيقة أو المغلقة، وفوق مكان المولد وروابط الدم واللغة والدين
الإجبارية. ومع هكذا فعالية طاغية تنكمش القدرات الفردية المستقلة واليقظة لصالح
أحادية فكرية ظاهرها التعدد والتحاور والانفتاح، وباطنها الخضوع وكسر غنى التعدد
البشري ورحابة الاختلاف الطبيعي. إنها أشبه بخدعة مستحكمة؛ فما تقدمه التقنية
السهلة والشعبية، تقصيه القوى نفسها التي تسهل على الجمهور استخدام تلك التقنية.
والقيمة الاستعمالية الهابطة تتعاظم مع تعاظم الحاجة إلى المعرفة ومتابعة مجريات
أحداث العالم التي تزداد عرضًا وتباينًا ومستوى وكثافة وغزارة. إن ملكية مواقع
الويب، الغامضة، ودور الصحف والنشر العملاقة، وطرق ترويج أنظمة الاتصال - ذات
الجوهر النفعي والطبيعة الاستعمالية السريعة - تنمي تعويم المعلومات والصور
المتدفقة. وإن السيولة الكثيفة في انتاج وتقديم ثقافة متدنية بصورة بصرية في أغلب
الحال، في بلداننا البائسة، تكاد لا تقاوم، فلا مدرسة تنشئ درعًا تربويًا واقيًا
وحصانة ذوقية معرفية، ولا خبرات حقيقية تقف في وجه شراسة آليات السوق الهمجية، ولا
كفاءات فعالة تفكك طرق ووسائل نشر وترويج الصور وتخلص المتابعين، فقيري الثقافة
ومستوى المعيشة، من التأثر والتقليد البليدَيْن. ونادرًا ما يقوم على رأس هكذا
مواقع أناس رصينو الثقافة. فحرية إنشاء المواقع وجمع المعلومات والحوارات، وبترها
وقصها عن سياقها وعوامل نشوئها وتوزيعها وتدوينها، حرية بلا معايير ولا ضوابط.
فتحول شخص عادي، وفاقد لتأهيل ضروري، أو حدٍّ أدنى من التأهيل، إلى صحافي وربما
خبير بات أمرًا عاديًا وبلا مراجعة. ويؤدي غياب المعايير - خاصة في الدول المتأخرة
في نموها الاجتماعي والثقافي وندرة كفاءاتها العلمية - إلى غياب أبحاث جادة وأسئلة
حقيقية حول أوضاع ومشاكل ملحة. ويتناول الكتبة الصغار والمدونون الجهلة كل شيء في
بلدانهم، ويعود السبب الغالب في هكذا عمل بلا مسؤولية ولا حرص، إلى قمع السلطات،
دولاً ومنظومات
قهْرٍ شمولية، (رعاياها المنعزلين كرهًا منهم لسلطاتهم)
داخل أنظمة سياسية طاغية، وحرمانهم حرية التعبير في فضاء المؤسسات الحكومية
والمجتمعية الأهلية من جامعة وصحافة وبرلمان ونقابات وسلطات محلية. ويصعب تبرير ذلك
بالقمع فقط. فما يتولد عنه لا يؤكد أن القمع وحده السبب؛ فآليات التربية المنزلية
وضعف وعي الآباء والأمهات وانشغالاتهم بتدبير شؤون المعيشة الصعبة ومستوى الوعي
العام وانتشار الأفكار الخرافية سهلة الانبعاث والترويج، تدفع إلى نمو ضحل وتراجع
ثقافي خطير، ويرافق ذلك غياب الحافز المادي الكافي وارتفاع مستويات الفقر والبطالة
والتهميش. وإن كان ثمة مستفيدون من هكذا عمل فهم قلة غير معروفة، وغالبًا بلا كفاءة
يمكن الثقة بها. فلا نقابة أو هيئة مسؤولة تنظم وتسهر على العمل والنشر على صفحة
الانترنت، ونادرًا ما يكون للقضاء دور حازم في الحد من تصرفات تصل حد الجريمة
المعنوية والضرر النفسي والقدح والتشهير، فالإسفاف والرداءة والتهجم والسب والتشهير
والتلفيق والافتراء مظاهر ترى في أكثر من موقع. ويمكن للثقافة الجادة أن تستمر
بعيدة عن الانحطاط إذا اعتمدت على مستوى متواضع من أنظمة التواصل؛ ذلك أنها ظهرت
أساسًا عبر مستوى استخدام بسيط وكاف. ورغم وجود تنوع وتجدد كبيرين في الإنتاج
الثقافي وفي نظم انتاج وتبادل المعلومات، إلا أن الواقع الافتراضي لها يقلل من درجة
الوثوق بها ويجعل من الاعتماد عليها عملاً غير مأمون النتائج، دومًا، لكننا في
الوقت نفسه مضطرون لاستخدام أساليب خارج الحدود القديمة للقيم السائدة، على أن
شرطًا أساسيًا لا ينبغي نسيانه وهو أن هناك اتفاقًا عامًا على ترافق كثرة المعلومات
بضحالة القيمة الاستعمالية لها في الحياة العامة. فالمعلومات تصل لكن التغيير لا
يحدث، والتباطؤ أكثر من التقدم. ثمة إذن ظواهر متناقضة ومحيرة. فموطن الأفكار
المتقدمة والتحررية هو موطن الاستعباد العالمي والسيطرة الشاملة، ومع انتشار أفكار
المواطنة الناجعة في حلِّ مشاكل دول ومجتمعات تعنف أقلياتها ومهمشيها دينيًا
وقوميًا، وتطور الأبحاث الإنسانية والفكرية على هكذا صعيد، تتعزز الثقة لدى أجيال
كاملة بجدوى الانطلاق نحو مسيرة انعتاق كبيرة. وفي نفس الوقت، ومع روعة التقدم
التقني المعلوماتي وحرية التواصل إلى، ومع، المكتبات العالمية والموسوعات ونشرات
الأخبار وتبادل الأفكار، وتجاوز الحدود السياسية والقومية الضيقة، مع تعويم أفكار
حقوق الإنسان ومبادئ الديمقراطية الأساسية، تزحف العولمة لخلق نوع جديد من
الاستعباد الاقتصادي والثقافي، عبر خنق المبادرات المحلية وتقديم حلول للمشاكل على
وصف يغفل أن الحدود الثقافية والاجتماعية بين الدول والمجتمعات ليست دائمًا من آثار
الاستبداد، وأن ثمة عوامل أعمق وأكثر تجذرًا من أنظمة الحكم القامعة. فشدة الاختلاف
وتباين مستوى الفهم والوعي وتمايز الجذور الثقافية، لا ينبغي أن تفضي إلى قسر
العالم إلى نوع من الحكم وصيغ جاهزة من الحلِّ. إن السلطات المحلية، على ضعفها
وهشاشتها، تحتاج إلى تأهيل حقيقي، ويمكن إنشاء روابط أهلية داخل مدن وبلدات صغيرة،
تبث الثقة بجدوى العمل التعاوني والطوعي. ويحتاج هكذا طرح إلى روح المبادرة
والإيمان أن أعمالاً بسيطة يمكن أن تقدم نتائج مذهلة، فالتدرج والتناسب والتناغم
أفضل من التسرع والحسم السريعين، فالعادات السيئة ورداءة الحال العامة ليست وليدة
سنوات قريبة. إنه إرث ضخم من الخوف والجهل والضغينة والتشتت والإهمال، وما يمكن أن
يبدل عادات كهذه، لا يحدث بين ليلة وضحاها. فالعمل المستمر ونشر روح التعاون
والأخوة والصداقة البشرية أجدى من التغيير غير الواعي المقرون بالتهجم البغيض
وروحية الإلغاء المسيئة. ويخلف التسرع اللاهث وعدم التحضير الكافي وفقدان الجدية
وروح البحث العلمي في تفعيل هكذا طموح وتحويله من فكرة إلى عمل ملموس، نتائجَ سيئة
ويزيد من خمول الطاقة والرغبة العامة في تحسين مستوى الخدمات والمعيشة. فالتحسن
المادي الخدمي يترافق مع تحسن في مستوى الثقافة العامة. وإن رغبة الاندماج ومواكبة
تيارات العولمة المتشعبة والمتصارعة والمختلطة، تخلف التشتت والضعف أكثر من رصانة
العمل والجدية الفعالة. البطء والحذر سمتان لا يمكن التنازل عنهما لصالح تشوش عام
ونقمة جاهلة.
***
*** ***
| |
|
Front Page
|
|
Spiritual
Traditions
|
Mythology
|
Perennial Ethics
|
Spotlights
|
Epistemology
|
Alternative
Medicine
|
Deep Ecology
|
Depth Psychology
|
Nonviolence &
Resistance
|
Literature
|
Books & Readings
|
Art
|
On the Lookout
|
|
|